إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 1 أبريل 2024

من هو المَاهِرُ بالقرآن؟

 

من هو المَاهِرُ بالقرآن؟

مقدِّمة تَدَبُريّة

الحمد لله الرحيم الرحمن، علّم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل القُرآن هُدًى للنَّاسِ وبَيِّنَاتٍ من الهُدى والفُرقان، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبده ورسوله، صلى عليه الله وملائكته والمؤمنون وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:

فهنيئًا لمن كان مِن أهلِ القرآن وتدبُّرِه والتفكّرِ في عظاته. إن الدنيا بحذافيرها لتتصاغر في قلب متدبر القرآن، فمن ذاق حلاوته زهد فيما دونه، ومن زهد فيما دونه لم يحمل على أحد لدنيا، بل سيتسع قلبه للمؤمنين محبة ونصحًا وشفقة.

وتأمل معي نداء الله لنا من فوق سابع سماء حينما قال: ﴿يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذل فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس: 57-58] قال ابن عباس رضي الله عنمها: «فضلُهُ الإسلام، ورحمتُهُ القرآن» ([1]). فلئن فرح الناس بالمال والحطام؛ فلنفرح بالله وبفضل الله ورحمته وهو القرآن والإسلام، وكفى بذلك غُنية وفضلًا.

أَلَا إن فضلَ كلام الله على سائر الكلام كفضلِ الله على خلقِه، فاعرفن قدر القرآن. وتذكرن كيف وصفَ اللهُ القرآنَ الكريمَ بأنَّه الحق إذ قال الله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾.

إنه الكتابُ الذي من قام يقرأه فكأنما خاطبَ الرحمن بالكلِم، ﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم﴾ [المائدة: 15-16].

هو القرآن الذي أدهشَ العقول، وأبكَى العيون، وأخذ بالألباب والأفئدة.

إنه ليس شيءٌ أنفعَ للعبد في معاشه ومعاده، وأقربَ إلى نجاته وفلاحه في الدارَين من تلاوة كتاب ربِّه آناء الليل وأطراف النهار، وتدبُّره وإطالة النظر فيه، وجمعِ الفِكر على معاني آياته، وعقدِ القلب على العمل به؛ فإن ذلكم يُطلِعُ العبدَ على جوامع الخير والشر وعلى حال أهلها، ويُريه صورةَ الدنيا والآخرة في قلبه، ويعمر بنيان الإيمان في فؤاده.

إنه النورُ الذي لا تُطفَأُ مصابيحُه، والمنهاجُ الذي لا يضِلُّ ناهِجُه، هو معدِنُ الإيمان، وينبوعُ العلم، ومائدةُ العُلماء، وربيعُ القلوب، والشفاءُ الذي ليس بعده داء ﴿قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء﴾ [فصلت: 44].

واعلم يا صاحبي: إن كان تعظيمُ القرآن ومكانته ومنزلته في قلبِك كما يجبُ للقرآن، وكما يليقُ بكلام الرحمن، فاحمَد الله تعالى على هذه النِّعمة، واسأل الله تبارك وتعالى الثباتَ على تعظيم هذا القرآن المجيد، وعلى العمل به، أما إن كان تعظيمُ القرآن ومنزلتُه في قلبك أقلَّ مما يجبُ وأدنى مما يليقُ بالقرآن العظيم، فتُب إلى الله، واستدرِك ما كان من نقصٍ، وتدارَك ما فاتَ من العُمر، فأنت في المزرعة فابذر خيرًا فستوشك على الحصاد، والله ولي المتقين.

قال ﷺ: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجّة، ريحها طيب وطعمها حلو، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، والمنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر» ([2]).

إنه «كتاب الله؛ فيه نبأُ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحُكم ما بينكم، وهو الفصلُ ليس بالهَزل، من تركَه من جبَّار قصمَه الله، ومن ابتغَى الهُدى في غيره أضلَّه الله، وهو حبلُ الله المتين، وهو الذِّكرُ الحكيم، وهو الصراطُ المُستقيم، هو الذي لا تزيغُ به الأهواء، ولا تلتبِسُ به الألسِنة، ولا يشبَع منه العلماء، ولا يخلَقُ على كثرة الردِّ، ولا تنقضِي عجائِبُه، هو الذي لم تنتهِ الجنُّ إذ سمِعَته حتى قالوا: ﴿إنا سمعنا قرآنا عجبًا [الجن: 1- 2] من قال به صدَق، ومن عمِل به أُجِر، ومن حكمَ به عدلَ، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراطٍ مُستقيم» ([3]).

وتذكر أن القرآن يحفظك بإذن الله قبل أن تحفظه، وليكن مشروع حياتك أن تتعلمه وتُعلّمه وتعمل به، فافرح به وكن من أهله تسعد وتفلح وتفز.

فمن كان يرجو أن يفوز بجنة

وعش في ظلال الذكر تحت لوائه
تباركت يا ربي لك الملك كله
أعنّا على حفظ الكتاب وفهمه

 

فجنّته في فهـــــــــــــــمه إذ يرتلُ
ملاذ لنا في النائبات ومعـــــــــقِلُ
فما شئت يا مولاي في الملك تفعلُ
فإياك نستهدي وإياك نســــــــــأل

     إنّ دَغَلَ الصدر ووَحَرَهُ مرض خطير يسري على قلب المؤمن فيحرمه معالي الزلفى ومراقي الفلاح، والحازم من استدرك مرضه فعالجه بتدبر كلام ربه، وتمكّن من سخيمته فسلّها لأجل الله واليوم الآخر. قال الله تعالى: ﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [الإسراء: 82] «والصحيح: أنَّ «مِنْ» هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض. وقال تعالى: ﴿يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور [يونس: 57].

فالقرآنُ هو الشِّفاء التام مِن جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواءِ الدنيا والآخرة، وما كُلُّ أحدٍ يُؤهَّل ولا يُوفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعَه على دائه بصدقٍ وإيمان، وقبولٍ تام، واعتقادٍ جازم، واستيفاءِ شروطه، لم يُقاوِمْهُ الداءُ أبداً.

وكيف تُقاوِمُ الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماءِ الذي لو نزل على الجبال، لصَدَعَهَا، أو على الأرض، لقطعها، فما مِن مرضٍ من أمراض القُلُوبِ والأبدان إلا وفى القُرآن سبيلُ الدلالة على دوائه وسببه، والحِمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه. وقد تقدَّم في أول الكلام على الطب بيانُ إرشاد القرآن العظيم إلى أُصوله ومجامعه التي هي حفظُ الصحة والحِميةُ، واستفراغُ المؤذي، والاستدلالُ بذلك على سائر أفراد هذه الأنواع.

وأما الأدوية القلبية، فإنه يذكرها مُفصَّلةً، ويذكر أسبابَ أدوائها وعلاجها. قال: ﴿أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [العنكبوت: 51]، فمَن لم يَشْفِه القرآنُ، فلا شفاه الله، ومَن لم يَكفِه، فلا كفاه الله» ([4]).

فليعتن المؤمن بالتدبر والتفكر والتذكر وحضور القلب عند القرآن العظيم، قال ابن القيم رحمه الله تعالى:‏ «قِراءة سُورة بتدبّر ومَعرفة وتَفهُّم، وجَمع القلب عليها؛ أحبّ إلى الله تعالى من قِراءة خَتمة سَردًا وهذًّا، وإن كثر ثواب هذه القراءة.

وكذلك صلاة ركعتين يُقبل العبد فيهما على الله تعالى بقَلبه وجَوارحه، ويُفرّغ قَلبه كلّه لله تعالى فيهما، أحب إلى الله تعالى من مِئتي ركعة خَالية عن ذلك، وإن كَثُر ثوابها عددًا. ومن هذا: «سَبق دِرهم مئة ألف دِرهم» ([5])» ([6]).

    ولا تنس تنشئة صغارك وأحبابك على القرآن العظيم، قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتاب صيد الخاطر: «كان السَّلف إذا نشأ لأحدهم ولد شغلوهُ بحفظ القرآن وسماع الحديث؛ فيثبت الإيمان في قلبه»([7]). وفي هذا المعنى قال المُخبَّلُ السَّعدي، واسمه ربيع بن مالك:

    إذا المرءُ أَعْيَتْهُ المُروءةُ ناشِئًا

 

   فَمَطلَبُها كَهلاً عليهِ شَدِيدُ

     إنّ تدبر القرآن في الغاية من غذاء القلوب وحياتها وبهجتها وسعادتها وعلمها وبصيرتها وحكمتها وقوّتها، فهو قُوتٌ وقوّة ومدد بإذن الله تعالى.

     واعلم أنّ التلاوة بذاتها تداوي القلب وتشفيه من أدوائه وتصفّيه من أكداره، وتنقّيه من غِلِّه ووَحَرِه، أما التدبر ففيه المزيد من البركة الإلهية والمدد الرباني والعلم اللَّدُنِّي، ففي القرآن العظيم أصول العلوم النافعة للأولين والآخرين.

     وإذا قرأت القرآن فحسّن به صوتك، وجمّل به تلاوتك، وزيّن به أداءَك، فالله يُحب جمال الصوت بالقرآن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع النبي ﷺ يقول: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» ([8]). ومعنى أذِن: استمع، فما أجمل حال التلاوة يا أهل القرآن!

     وإنَّ رنينَ تلاوة الذكر الحكيم ليكشط الدَّغَل عن حنايا الصدر المؤمن حتى تكون صقيلةً يرتدّ عنها كل وسواس، وتدبُّرَ الآي يُرمِّمُ مَا وَهَى من أبنية الفؤاد الكليل بكدح الدنيا، ومعاناة لأوائها، ومجاهدة شياطينها.

 

من هو المَاهِرُ بالقرآن؟

اعلم ـ رحمني الله وإياك ـ أنّ الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البررة، والسؤالُ الكبير: من هو المَاهِرُ بالقرآن؟

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ: «الماهرُ بالقرآنِ مع السفرةِ الكرام البررةِ، والذي يقرأُ القرآن، ويتَتَعْتَعُ فيه، وهو عليه شاقٌ؛ له أجران» ([9]). والماهر: الحاذق بالقراءة، والسّفرة: الملائكة ([10])، ومعنى يتتعتع: أي: يتردّد في قراءته، ويتبلّد فيها لسانه ([11]).

 فالماهر بالقرآن هو الضابط له حفظًا ولفظًا. فإنْ ضَعُفَ الحفظُ أو نقصَ إتقانُ اللفظِ؛ كان نقص المهارة بقدر ذلك.

وننبه إلى أنّ كثيرًا من أهل الخير وطلبة العلم يظنون أنّ المهارة بالقرآن محصورة في مهارة التلاوة فقط، وذلك بإقامة الحروف والوقوف، فاقتصروا على إتقان الأداء دون إتقان الحفظ، وهذا قصور شديد، فالحفظٌ مطلب شرعيٌّ، وهو داخلٌ ابتداءً في المهارة المذكورة في الحديث، فالمهارة الممدوحة فيه جامعة بين مهارتي الأداء والحفظ، وَوَاهًا لمن جمعهما!

وعلى قدر نقص جودة الأداء أو الحفظ يكون نقصُ المهارة بقدره، فاجتماعهما هو أعلى المراتب، ويليه إتقان الأداء والمهارة فيه، ثم يليهما إتقان الحفظ والتحمّل والجمع، والله المستعان، فسلعة الله غالية، وَمَنْ يَطلبِ الحَسناءَ لم يُغْلِهِ المَهْرُ.

وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْمَى إِلَى العِزِّ نَالَهُ

 

وَدُوْنَ العُلَى ضَرْبٌ يُدَمِّي النَّوَاصِيَا

       وتوضيح ذلك: أنّ للمهارة مراتب أعلاها مهارة التلاوة والحفظ جميعًا، وتليها مهارة التلاوة، وتليهما مهارة الحفظ. وعليه؛ فتُقَيّدُ مهارته بما أتقنه، فيقال: ماهر في التلاوة، أو ماهر في الحفظ، أما إطلاق الماهر بالقرآن فهي لمن جمعهما، ولكلِّ أحدٍ حظّه من المهارة بما اكتسبه منها بفضل الله تعالى له، وعلى قدر الإتقان لكليهما يكون تحقيق المهارة وتحصيل مرتبتها بفضل الله تعالى.

     والذي لا يلحن بالقرآن لحنًا جليًّا هو من المهرة بتلاوته، أمّا الحافظ المجوّد الذي لا يلحن حتى اللحن الخفي فهو الماهر حقًّا بتلاوته، وهو في مرتبة أعلى من الذي يلحن لحنًا خفيًّا حتى وإن كان حافظًا، ولكن كلاهما ماهر، شريطة ألّا يزيد ولا يغلو، فبعضهم يزيد في الغُنّة والشدّة إلى خمس حركات وأكثر، وبعضهم إذا مدّ المدّ يخفض صوته ويمدّه بترجيعٍ مُغَالًا فيه حتى كأنه يأتي بمدّات زائدة، بل وبهمزات مع ذلك المدّ، وإذا قلقل يغلو في قلقلته حتى كأنه يأتي بحرف آخر، وبعضهم يُغنّيه كلحون أهل الغناء، وهذا كله من الغلوّ والتكلّف والتقعّر والتّمطيط ([12]) والشَّطَط، وهو يهبط بالمستوى المهاري لقارئ القرآن الكريم بحسَبِ غلوّه في التكلّف، والقرآن العظيم ليس فيه تكلّف، والماهر بالقرآن يقرأه بسلامة نطق، وشرطه ألّا يلحن اللحن الجليَّ، فيحرص على أن يُخرج الحروف من مخارجها، ويأتي بصحيح حركاتها، مع إحسان الوقف والابتداء. أما لحنه الخفي فهو عفو إن شاء الله تعالى، وإن كان الكمال والتمام والزينة والجمال إنما يكون به.

     علمًا أن التجويد الحقيقي ليس فيه تكلّف، ولا تشدّد، ولا ثِقَل، بل هو سهل متدفق كالماء السلسال، فلا تحسّ فيه عُسْر القراءة، فلا يثقل نطقها على اللسان، ولا تنبو عن سماعها الآذان، بل تأخذ بسهولتها ويسرها وجمالها الجَنَانَ، واعتبر ذلك بكبار القراء في عصرنا، فتسمع حروفَ الجمال في تجويدهم السهل غير المتكلّف، وتتذوّق نغماتِ الحلاوة في تلاوتهم السلسة العذبة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

ولا يعني ما ذكرناهُ الحطّ من شأن التجويد، فالتجويد قد وصل إلينا بالتواتر، فهو مُسندٌ سماعيٌّ، ولولا أنه وصل إلينا متواترًا سماعيًّا لما صارت له ولأهله هذه المنزلة الشريفة والرتبة المنيفة، لذلك فالتجويد عبادة، والواجب إقامة مخارج الحروف والإعراب، أما المرتبة الفُضلى من الإتقان المهاري وهو ما يسمّى بالتجويد  ـــ أي: الذي لا يلحن اللحن الخفي ـــ فالراجح ـــ والله أعلم ـــ أنها ليست واجبة، ولكن ينبغي الحرص على تحصيلها والقراءة بها، وفيها تنفق أعمار خيرة الصالحين، وليس لمن يتقنها أن يقرأ بخلافها إن تيسّر، وإن كانت ليست من شروط صحة التلاوة الواجبة، فهو كمالٌ وجمالٌ، لا شرط صحة.

     وأشبَهُ ما تُمَثَّلُ به المهارة في التلاوة بالتجويد هو تزيين الصوت بالقرآن، كما جاء عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْواتِكُمْ» ([13]). أي. بتحسين أصواتكم عند القراءة، فإن الكلام الحسن يزيد حسنًا بالصوت الحسن الجميل. فتزيين الصوت بالقرآن مثل تجويد الحروف من وجه، وإن كانت مرتبة تجويد الحروف أعلى؛ لأن التجويد متعلّقٌ بذات الحرف واللفظ، أما تزيين الصوت فمُتَعَلَّقُه عموم الأداء الصوتي الترنُّمي للتلاوة، فتجويد القراءة مَرْتَبة، وتليها تزيينها بالصوت والتَّغَني به، فهما ــ وإن كانتا مرتبتين ـــ إلا أن بابهما واحد، والله أعلم.

     إذن فالمهارة التامة إنما يستحق وصفها من أحسن الأداء للتلاوة، وبحفظ القرآن الكريم حتى يجيده كإقامة السهم.

     والأصل في المهارة: أنها الحذق بحُسن الأداء بالتلاوة، أما قوّة الحفظ وجودته فهي تبعٌ، وإن كانت داخلة في الحذق والمهارة من حيث العموم، ولذلك يقال: فلان ماهر بالقراءة وفلان يخطئ فيها، بمعنى أنه لا يقيمها، ولا يقال فيما يقابل الحفظ: إن فلانًا ماهر، وفلانًا غير حافظ، وإن كان الحفظ يدخل في المهارة من حيث العموم والتَّبَعِيّة، وقد يدخل فيها أصالةً بمعنى أن الحافظ ماهر في حفظ الحروف عن الضياع وسردها بلا انقطاع، والأمر واسع بحمد الله تعالى، فمؤدّى القولين إلى ثمرة واحدة: وهي أن الماهر بالقرآن حقًّا هو من جمع حفظ القرآن وصحة قراءته.

      وعليه؛ فالمهارة هي الحذق في الشيء، أما الحفظ فهو قوة إمساكه. ويعزّز هذا شواهدُ اللسان، فمن حيث أصل اللغة إذا قُدِّر أن رجلًا حافظًا للقرآن، ويقيمه إقامة السهم، لكنه لا يحسن أداءه، بمعنى أنه يلحن لحنًا جليًّا أو فاحشًا في مخارج الحروف والحركات، أو لا يحسن الوقف والابتداء؛ فلا يصح لغةً أن يقال: فلان ماهر بالقرآن. مع أنه حافظ له. فالمهارة أخصُّ من مطلق الحفظ، وعكس مثالنا غير صحيح، فإذا افترضنا أن رجلًا يقرأ نَظَرًا من المصحف تلاوةً صحيحة، فيصحّ لغة وعرفًا أن يقال: فلان ماهر بالقرآن، حتى وإن لم يكُ حافظًا ــــ مع التنبيه إلى أن العرف المعتبر هو عرف السلف لا الخلف ـــ. فهذا مقتضى اللغة، والتعتعة تارة تكون من جهة عدم إتقان الأداء وهو الأكثر، وتارة من عدم إتقان المحفوظ. ومن هنا بوّب أبو عوانة رحمه الله تعالى في مستخرجه بابًا سمّاه: بابُ ثوابِ الماهر بالقرآن، والحافظِ لهُ، وفضلهِ على غير الماهرِ، وثواب الذي تشُقُّ عليه قراءتهُ، وذكر حديث: «الذي يقرَأ القرآن وهوَ لهُ حَافظ مع السفرة الكِرَام البررة، ومثل الذي يَقرَؤُهُ وليس بِحَافِظٍ له وهو يَتَعَاهَدُهُ؛ فلهُ أجرانِ» ([14]). وحديث: «مثل الذي يَقرؤُهُ وهو يَتَعَايَا فِيهِ وهو عليه شَدِيدٌ له أجرانِ» ([15]).

     وإنّ من مُرجِّحات القول بدخول الحفظ في إطلاق الماهر بالقرآن أنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا بطبعهم لا يلحنون، لسلامة لسانهم وبراءته من العُجمة إلا قليلًا منهم ([16])، وأكثرهم أُمّيون لا يقرأون، فصارت المهارة الواردة في الحديث شيئًا زائدًا عما يحسنه جُلُّهم، وهو الحفظ، لأنه مفتقرٌ لمشقّة في جمعه وتعاهُدِهِ على الدوام. ولكن الخطاب النبوي قد جاء مُوجَّهًا إلى الأمّة جمعاء، وفيها عجمةٌ ولحنٌ وجهلٌ بالأداء عظيم، فكانت المهارة ابتداءً إنّما تكون بحسن الأداء، ثم يليه الحفظ التام، ولا يكون ماهرًا مطلقًا إلا من جَمَعَهُما.

     لذلك؛ فالمهارة بالقرآن لها مراتب: أعلاها المهارة في الأداء والحفظ، وهي المرتبة الذي لا يدخل الخلاف والتردّد في كون صاحبها ماهرًا بالقرآن. والمرتبة التالية: هي مرتبة إحسان إقامة الحروف والمخارج والابتداء والوقف. أما الثالثة: فهي مرتبة المهارة في الحفظ، وهي غير كافية، ولكن بحسَبها يكون نصيبه من المهارة، فله مهارة بحسَبها، وله من فضلِ الله بالقرآن نصيب، والله أعلم.

     وبالجملة؛ فكلاهما مقصود لذات القراءة، وعلى قدر تكميلهما يكون تكميل معيّة السفارة المَلَكية له، وعلى قدر السلعة يصعب الطريق ويقلُّ سُلّاكُه، وأقلّهم الواصلون، وبالله وحده التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.

     ولأهمية حفظ حروف القرآن العظيم جاء النص عليه في الحديث الشريف، فعن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله ﷺ قال: «مثلُ الذي يقرأ القرآن، وهو حافظٌ له؛ مع السَّفَرة الكرام البَرَرَة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد؛ فله أجران» ([17]).

     وعليه؛ فهل لفظ الحفظ في الحديث يُعَدُّ مفسرًا للمهارة في اللفظ الآخر المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ: «الماهرُ بالقرآنِ مع السفرةِ الكرام البررةِ، والذي يقرأُ القرآن، ويتَتَعْتَعُ فيه، وهو عليه شاقٌ؛ له أجران» ([18])، أم أنه مُنشِئٌ مؤسِّسٌ لمعنًى جديد بعد إحسان إقامة الحروف والوقوف؟

     الأظهرُ هو ما قدّمناه من أن الحفظ يدخل في المهارة، فالحديث يفسّر بعضه بعضًا، ويُكمّل بعضه بعضًا، وحافظ القرآن كله ـــ ويقال له جامع القرآن، وحامل القرآن ــــ موعود إن أتقن التلاوة بأن يكون مع السفرة الكرام البررة. فالحفظ شرط لكمال الفضل، ويظهر هذا من الإشارة إلى التعاهد وهو المراجعة بعد أن نصِّ على الحفظ، فقال: «وهو يتعاهده»، ثمّ ذكر شدّته، أي: حال مراجعته على الدوام «وهو عليه شديد».

        أما الحديث الآخر فإنه لما ذكر الماهر بالقرآن؛ ذكر ضده بوصفه بالتعتعة، فقال: «ويتَتَعْتَعُ فيه»، والتعتعة في الكلام: العِيُّ، أي: يتردّد في تلاوته عِيًّا وصعوبة ([19])، فتعتعتُه غالبًا ليس مردُّها إلى ضعف المحفوظ، بل إلى صعوبة المنطوق كما هو ظاهر، لذلك وصفه بقوله: «وهو عليه شاقٌ».

       وبناء على هذا فإنه ﷺ قد وصف القارئ الذي وُعد بكونه «مع السَّفَرة الكرام البَرَرَة» بالمهارة: أي في المتلوِّ، وبالحفظ له. وعليه؛ فلا يختلف الحال بالأمرين؛ سواء قلنا إن حديث الحفظ مفسِّرٌ موضِّحٌ أو منشئٌ مؤسِّسٌ. فكما أن القارئ ماهرٌ في إقامة الحروف بلا لحن، فهو كذلك ماهرٌ في قراءتها عن ظهر قلب بلا تَتَعْتُعٍ ولا تردُّدٍ ولا تلعثم. فالماهر هو الحاذق بالقراءة، والقراءة يشملها جودة الملفوظ والمحفوظ. فتكون رواية: «الماهرُ بالقرآنِ» لإقامة الحروف على اللسان الذي يقرأ القرآن، والأخرى لحفظها في الصدر، وإن كانت تدخل في الأولى كذلك بالتَّبَع.

       فمن كان كذلك فهو موعود بأن يكون «مع السَّفَرة الكرام البَرَرَة» والسّفرة: الملائكة. والكرام البررة: هم الملائكة البارّون بالطاعات. قال البخاري رحمه الله تعالى: «السفرة: الْمَلاَئِكَةُ، وَاحِدُهُم: سَافِرٌ، سَفَرْتُ: أَصلحتُ بَيْنَهُم، وجُعلتْ الملائكة إذا نزلت بوحي الله وتأديته كالسفير الذي يُصلح بين القوم» ([20]).  

     ثم ثنّى ﷺ في كلا الحديثين بذكر جائزة الأجرين لمن جاهدَ لحفظ الحروف ولإقامتها على اللسان كذلك.

     والأجر يا صاحب القرآن على قدر المشقة، فتأمل ـــ راشدًا ـــ شدّة حال تعاهد القرآن على حافظه في قوله: «إنّما مَثَلُ صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل الْمُعَقَّلَةِ، إن عَاهَدَ عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت» ([21]). والإِبل المعقّلة: أي المشدودة بالعِقَال، وهو الحبل، والتشديد فيه للتكثير. كما قاله ابن الأثير رحمه الله تعالى ([22])، والمعنى: أن حاله مع محفوظه القرآني كحال صاحب الإبل المُعقّلة معها، فلا بدّ له من تعاهدٍ لمحفوظه على الدوام حتى لا يتفلّت تفلّت الإبل المُطلقة من عقلها. وقوله ﷺ: «تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده، لهو أشدُّ تَفَصِّيًا من الإبل مِن عُقُلِهَا» ([23]). والمراد: واظبوا عليه بالتلاوة والحفظ.

     وتعاهُدُ القرآن يكون بأمرين: دوام تلاوته، والعمل به. وليس بهاجرٍ للقرآن ما دام عاملًا به، مؤتمرًا بأمره، منتهيًا عن نهيه، حافظًا لحدوده قارئًا منه ما تيسّر له.

      قال ابن حجر رحمه الله تعالى: «شبّه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يُخشى منه الشّراد، فما زال التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ، وخصّ الإبل بالذكر لأنها أشدُّ الحيوان الإنسيِّ نفورًا، وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة» ([24]).

      هذا؛ وإنّ الحاجة لتَعَاهُدِ المحفوظ هو في الحقيقة رحمةٌ من الله تعالى ولطفٌ ورفقٌ من لدُنه، وفي ذلك حكم وألطاف ومواهبُ عظيمة، منها: تحصيل مزيد من الأجر بكثرة ترديد الآي والسور.

        ومنها: زيادة الإيمان بالتلاوة، فذات التلاوة تزيد الإيمان جدًّا خاصة إنْ صاحَبَهَا تدبُّرٌ وتفهّمٌ ونيّةٌ صالحة للعمل بالقرآن.

     ومنها: زيادة العلم بمعاني القرآن، فمِن خصائصه العظيمة انفتاحُ معانٍ جديدة وفوائد فريدة بقراءته مرة بعد مرة، ففي كل مرة ترد على القلب علومٌ ومعانٍ وألطافٌ لم تكن في المرة السابقة، وهذا من براهين نبوة رسولنا محمد ﷺ الذي جاء به من عند الله تعالى، فقد قال ﷺ: «ما من الأنبياء نبي إلا وقد أُوتي ما على مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيتُه وحيًا أوحاه الله تعالى إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» ([25])، لأن برهان القرآن الكريم معجزة علمية دائمة، وليست معجزة حسية ظهرت ثم لم يعاينها إلا من رآها، كناقة صالح عليه السلام، وشقّ البحر لموسى عليه السلام، وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام، أو غير ذلك من المعجزات التي ظهرت في زمن معيّن ولم تدم للأبد، بل الحجة بالقرآن قائمة على كل مخلوق على ظهر الأرض إلى أن يُرفع من الصدور والسطور في آخر الزمان.

        وملازمة تلاوة القرآن من المصحف وعن ظهر قلب من أعظم أبواب العلم والإيمان، كما روي عن علي رضي الله عنه قال: «كتابُ الله، فيه بيانُ مَنْ قَبلَكم، وخبرُ من بعدكم، وحكمُ ما بينكم، هو الفصلُ ليس بالهزْل، مَنْ تركه من جبّارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذى لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألْسُن، ولا يخلق عن كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الذى لم تنته الجنُّ إذ سمعَتْه حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد) من قال به صَدَقَ، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجِرَ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم» ([26]).

       قال القرطبي رحمه الله تعالى: «قال المهلَّب: المهارة في القرآن: جودة التلاوة، بجودة الحفظ، ولا يتردّد فيه؛ لأنه يسّره الله تعالى عليه؛ كما يسّره على الملائكة، فهو على مثلها في الحفظ والدرجة، والسَّفَرة: جمع سَافِرٍ، وهم ملائكة الوحي، سُمُّوا بذلك لأنهم يسفرون بين الله وبين خلقه. وقيل: هم الكتبة، والكاتب يسمى: سافرًا، ومنه أسفار الكتاب. وعلى هذا فيكون وجه كونهم مع الملائكة: أنّ حملة القرآن يبلّغون كلام الله إلى خلقه، فهم سفراء بين رسل الله وبين خلقه، فهم معهم؛ أي: في مرتبتهم في هذه العبادة. ويستفيد من هذا حملة القرآن: التحرُّز في التبليغ والتعليم، والاجتهاد في تحصيل الصدق، وإخلاص النية لله؛ حتى تصح لهم المناسبة بينهم وبين الملائكة.

     وقوله: «يتتعتع فيه»؛ أي: يتردّد في تلاوته عِيًّا وصعوبة. والتعتعة في الكلام: العِيُّ. وإنما كان له أجران؛ من حيث التلاوة؛ ومن حيث المشقة، ودرجات الماهر فوق ذلك كله؛ لأنه قد كان القرآن مُتَعْتَعًا عليه، ثم ترقَّى عن ذلك إلى أن شُبِّه بالملائكة. والله أعلم» ([27]).

      وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: «قوله: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة»: يريد الملائكة، قال ابن الأنباري سُمّوا بذلك لأنهم ينزلون بوحي الله وما يقع به الصلاح بين الناس، فشُبِّهُوا بالسفير الذي يصلح بين الرجلين، وقال ابن عرفة: سُمّوا بذلك لأنهم يسفرون بين الله وأنبيائه، وقيل: سفرة: كتبة، وسمى الكاتب سافرًا لأنه يبيّن الشيء ويوضحه، والأسفار: الكتب، والماهر: الحاذق بالقراءة. قال الهروي: وأصله الحذق بالسباحة، وقال المهلب: المهارة جودة القراءة بجودة الحفظ، ولا يتردّد فيه، يسّره الله عليه كما يسّره على الملائكة، فهو معها في مثل حالها من الحفظ، وفي درجة واحدة إن شاء الله.

      قال القاضي: يحتمل ــ والله أعلم ـــ أنَّ له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقًا للملائكة السفرة، لاتصافه بوصفهم بحمل كتاب الله، ويحتمل أن يكون المراد: أنه عامل بعملِ السَّفَرة، وسالكٌ مسلَكهم، كما يقال: فلان مع بني فلان، إذا كان يرى رأيهم ويذهب مذهبهم.

      وقوله: «فله أجران» قال القاضي: ليس فيه دليل أنه أعظم أجرًا من الماهر، ولا يصح هذا إذا كان عالمًا به، فإن من هو مع السفرة فمنزلته عظيمة، وله أجور كثيرة، ولم تحصل هذِه المنزلة لغيره ممن لم يمهر مهارته، ولا يستوي أجر من علم بأجر من لم يعلم، فكيف يَفْضُلُه؟!» ([28]). وقال شيخنا العبّاد حفظه الله تعالى: «وقوله: «مع السفرة الكرام البررة» يدل على علوِّ منزلته، وأنه يكون معهم، والسفرة هم الملائكة، فمعيّته معهم أنه يُذكر في الملأ الأعلى مع هؤلاء الأخيار ومع هؤلاء الأطهار، فثوابه عظيم، ولا حدّ لثوابه، وإذا كان الذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران؛ فكيف بالذي هو ماهرٌ به ويقرؤه بسهولة ويسر، ويُكثر من قراءته وفهمه وتدبره وتعلمه وتعليمه؟!» ([29]).

     وقال النووي رحمه الله تعالى: «قال القاضي وغيره من العلماء: وليس معناه الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل وأكثر أجرًا؛ لأنه مع السفرة، وله أجور كثيرة، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره، وكيف يَلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه واتقانه وكثرة تلاوته وروايته كاعتنائه حتى مَهَرَ فيه؟!» ([30]). وفي عون المعبود: «والحاصل: أن المضاعفةَ للماهرِ لا تُحصى، فإنّ الحسنةَ بعشرِ أمثالها، إلى سبع مئة ضعف وأكثر، والأجر شيء مُقدّر، وهذا له أجران من تلك المُضاعفات» ([31]).

    وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: «وقوله تعالى: ﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾، أي: خَلْقُهُم كريمٌ حسنٌ شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارَّة طاهرة كاملة. ومن ها هنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السَّدَاد والرَّشاد» ([32]).

      ومَن حفظ القرآن وعمل بما فيه؛ أثابه الله على ذلك أعظم ثواب وأجزل عطاء وهي الدرجات العُلا من الجنة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارْتَقِ ورتِّلْ كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها» ([33]).

     وحامل القرآن ـــ فاعلم ـــ يشفع له القرآن يوم القيامة إن كان به عاملًا؛ لقول النبي ﷺ: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. يقول الصيام: ربِّ؛ منعتُه الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: ربِّ؛ منعته النوم بالليل فشفِّعني فيه؛ فيُشَفَّعَان» ([34]).

 

التغنّي بالقرآن الكريم

     التغنّي: هو تزيين الصوت، والترنّم به، وتحسين نغماته بالتلاوة، وعلى قارئ القرآن الكريم أن يزيّن صوته حال قراءته ويُجمّله ويُحسّنه ويحلّيه ويتغنّى به ويُحَبِّرُه تحبيرًا، على لحون العرب ([35]) بخشوعٍ وتلذُّذٍ وتحزُّنٍ، لا على لحون أهل الغناء والمجون، فإن من كمال القراءة جمال الصوت وحُسن الأداء، قال رسول الله ﷺ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْواتِكُمْ» ([36]). وقد سأل صالح والده الإمام أحمد فقال: قوله: «زَينُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ» ما معناه؟ قال أبي: «التزيين أَن يُحَسِّنَهُ» ([37]). وقال ﷺ: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن، يجهرُ به» ([38]). وقال رسول الله ﷺ لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه وقد سمعه يتلو: «لقد أوتيتَ مِزمارًا من مزامير آل داود». فقال: «أما إنّي لو علمتُ بمكانك لَحَبَّرْتُهُ لك تحبيرًا» ([39]). أي: لاجتهدت في تزيينه وتحسينه. والمراد بالمزمار: الصوت الحسن والنغمة الجميلة، وأصله آلة العزف المعروفة بالنَّاي، فشبّه جمال بصوت المزمار، أي: لقد أعطيتَ صوتًا حسنًا تتلو به القرآن كما أوتي داود عليه السلام صوتًا حسنًا يتلو به الزبور. وعن أبي عثمان النهدي قال: «صلى بنا أبو موسى الأشعري صلاة الصبح فما سمعت صوت صَنْجٍ ولا بَرْبَطٍ ولا نَايٍ قطّ كان أحسن صوتًا منه، إن كان ليصلّي بنا فنودّ أنّه قرأ البقرة من حسن صوته» ([40]). قال الحافظ ابن كثير: «فدلَّ على جواز تَعَاطِي ذلك وتَكَلُّفِهِ» ([41]). أي: بلا خروج عن أصول القراءة الصحيحة.

     ويرى علماء الصوتيات أنّ الجهاز الصوتي للإنسان لا تقاربه أعظم آلات المعازف في طبقات جمال الأصوات، فتبارك الله أحسن الخالقين.

     ومن الصحابة أيضًا من كان جميل الصوت جدًّا بالقرآن كسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أبطأتُ على رسول الله ﷺ ليلة بعد العشاء، ثم جئتُ فقال: «أين كنتِ»؟ قلت: كنتُ أسمع قراءة رجلٍ من أصحابك، لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد، قالت: فقام فقمت معه حتى أستمع له، ثم التفت إليَّ فقال: «هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا» ([42]).

     ومنهم أُسَيدُ بن حُضَير رضي الله عنه، ومن ذلك أنّه كان يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه فرس مربوط بشَطَنَيْنِ، فتغشّتْه سحابةٌ فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلمّا أصبح ذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: «تلك السكينة نزلت للقرآن» ([43])، وفي رواية أخرى قال: «تلك الملائكةُ دَنَتْ لصوتك، ولو قرأتَ لأصبح الناس ينظرون إليها لا تتوراى منهم» ([44])، وفي مسلم أيضًا: «فجعلت تدورُ وتدنو» ([45]). ودنوّ السكينة والملائكة لسماع قراءته أعظم من تسمّع الجبال والطير والوحش لصوت داود عليه السلام، وهذه كرامة لنبيّنا ﷺ فكلّ هذا من بركة اتّباعه وأخذ الهدى والنور الذي جاء به.

     والملائكة تطلب حلق الذكر والقرآن في كل زمان، قال النبي ﷺ: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» ([46]). فعلى أهل الذكر استشعار معيّتهم الطيبة فرحًا بفضل الله تعالى عليهم، وأعظم من ذلك استشعارُ معيّة ربهم الأعلى بحفظه لهم واطّلاعه عليهم وإعانتهم على ذكره وشكره وحسن عبادته تبارك وتعالى وسماعه تلاوتهم كلامه وذكرهم إيّاه، فأيُّ فضل أعظم هذا!

     وإذا كان هذا جمال أصوات الصحابة الكرام؛ فما ضنّك بجمال صوت أكرم الخلق وهو يتلو أعظم كتابٍ لله تعالى أنزله هدى للعالمين ﷺ؟! فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت النبي ﷺ يقرأ في العشاء: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١)﴾: «فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه» ([47]).

     وعليه؛ فينبغي للقارئ تحسن صوت بالتلاوة قدر طاقته تعظيمًا للقرآن العظيم، ورغَبًا ورَهَبًا وتخشُّعًا لله رب العالمين، وإكرامًا للملائكة الكرام المستمعين. قال القاضي عياض رحمه الله تعال: «من إعجاز القران أن قارئه لا يملّه، وسامعه لا يمجّه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة» ([48]). وقال الشّافعي رحمه الله تعالى: «لا بأس بالقراءة بالألحان وتحسين الصّوت بأيّ وجهٍ ما كان، وأحبّ ما يقرأ إليّ حدرًا وتَحْزِينا» ([49]). وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: «واتفق العلماء على أنه يستحب قراءة القرآن بالتحزين والترتيل والتحسين» ([50]).

     قلت: وفي الأمر تفصيل؛ فالأصل على الاستحباب بشرطين: الأول: سلامة القراءة من الإخلال بسبب المبالغة في التحسين. والثاني: عدم مشابهة ألحان أهل الغناء والمجون. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: «ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنّم أكثر من ميلها لمن لا يترنّم، لأنّ للتطريب تأثيرًا في رقة القلب وإجراء الدمع.

     وكان بين السلف اختلاف في جواز القراءة بالألحان. أما تحسين الصوت وتقديم حَسَنِ الصوت على غيره؛ فلا نزاع في ذلك.. ومحلّ هذا الاختلاف إذا لم يختل شيء من الحروف عن مخرجه، فلو تغيّر: قال النووي في «التبيان»: أجمعوا على تحريمه. ولفظه ([51]): أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حدّ القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفًا وأخفاه حرم» ([52]). وقال الحافظ أيضًا: «الذي يتحصل من الأدلة: أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن القارئ حسن الصوت فليحسّنه ما استطاع، كما قال ابن مليكة أحد رواة الحديث، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح، ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم، فإنّ حسن الصوت يزداد حسنًا بذلك، وإن خرج عن قوانين النغم أثّر ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاة قوانين النغم ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يفِ تحسين الصوت بقبح الأداء، فإن وجد من يراعيهما معًا فلا شك في أنه أرجح من غيره، لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين، ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء» ([53]).

     وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «الألحان التي كره العلماء قراءة القرآن بها هي التي تقتضي قصر الحرف الممدود، ومدّ الحرف المقصور، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرّك. يفعلون ذلك لموافقة نغمات الأغاني المطرّبة، فإن حصل مع ذلك تغيير نظام القرآن، وجعل الحركات حروفًا فهو حرام» ([54]). وقال السيوطي رحمه الله تعالى: «قراءة القرآن بالألحان والأصوات الحسنة والترجيع إن لم تخرجه عن هيئته المعتبرة فهو سنّة حسنة، وإن أخرجته فحرام فاحش» ([55]).

     وقال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد ذكر أدلة الفريقين: «وفصل النزاع أن يقال: التطريب والتغنِّي على وجهين:

     أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به، من غير تكلُّف ولا تمرين وتعليم، بل إذا خُلِّي وطبعَه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين، فهذا جائز، وإن أعان طبيعتَه فضلُ تزيين وتحسين كما قال أبو موسى للنبي ﷺ: «لو علمتُ أنَّك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا» ([56]).

     والحزين ومن هاجه الطربُ والحبُّ والشوقُ لا يملك من نفسه دفعَ التحزين والتطريب في القراءة، ولكنَّ النفوس تقبله وتستحليه وتستملحه لموافقة الطبع وعدم التكلُّف والتصنُّع فيه، فهو مطبوع لا متطبِّع، وكلِفٌ لا متكلِّف. فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويسمعونه، وهو التغنِّي الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثَّر به التالي والسامع. وعلى هذا الوجه تُحمَل أدلَّةُ أرباب هذا القول كلُّها.

     الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعةً من الصنائع، ليس في الطبع السماحةُ به، بل لا يحصل إلا بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن، كما يتعلَّم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركَّبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلُّم والتكلُّف. فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذمُّوها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها. وأدلَّةُ أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه.

     وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبيَّن الصواب من غيره. وكلُّ من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلَّفة التي هي على إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة ([57])، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها أو يسوِّغوها؛ ويعلمُ قطعًا أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسِّنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجًى تارةً، وبطرب تارةً، وبشوق تارةً. وهذا أمر في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارعُ مع شدَّة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه، وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: «ليس منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن» ([58]). وفيه وجهان، أحدهما: أنه إخبار بالواقع، أي كلُّنا نفعله. والثاني: أنه نفيٌ لهَدْيِ من لم يفعله عن هَدْيه وطريقته. والله أعلم» ([59]).

     وقد فسّر بعض العلماء التغنّي بالاستغناء، أي: بالقرآن عن غيره. وهذا التفسير ليس بصواب، ففرقٌ بين «يتغنّى» و«يستغني»، فالأولى من التغنّي والثانية من الاستغناء. قال المزني: سمعت الشافعي يقول: «لو كان معنى يتغنَّى بالقرآن على الاستغناء؛ لكان يَتَغَانَى، وتحسين الصوت هو يتغنَّى، ولكنه يراد به تحسين الصوت» ([60]).  فليس لتحسين الصّوت وتزيينه حدّ ينتهي إليه، وهو بحسب ما آتى الله الإنسان من ذلك، مع الانتباه لسلامة التلاوة فلا يجاوز أحكام التّجويد المرعية، وقواعد التّلاوة الشرعية.

     وتأمل حال تلاوة الفضيل رحمه الله تعالى، فعن إسحاق بن إبراهيم رحمه الله تعالى قال: «كانت قراءة الفضيل حزينة، شهيّة، بطيئة، مُترسِّلةً، كأنّه يخاطب إنسانًا. وكان إذا مرّ بآية فيها ذكر الجنة يُردِّدُها» ([61]).

     وتدبّر مليًّا وتفكّر جليًّا في جمال وجلال وهيبة الاستماع الرباني الدال على الرضا والقبول، فعن أبي هريرة أنه سمع النبي ﷺ يقول: «ما أَذِنَ اللهُ لشَيءٍ ما أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوتِ بالقرآنِ يَجْهَرُ بِهِ» ([62]). ومعنى «أَذِنَ الله»: أي اسْتَمَعَ. قال الغنيمان حفظه الله تعالى: «معنى «ما أذن»: ما استمع لشيء كاستماعه لنبيٍّ حَسَنِ الصوت يتغنّى بالقرآن، فالله تعالى يحب حسن الصوت فيمن يتلو كتابه، ويستمع لذلك الصوت أكثر من غيره، وإلا فهو تعالى لا يفوت سمعه صوت. والقرآن هنا اسم جنس لكل كتاب أنزله الله تعالى على نبيٍّ من أنبيائه» ([63]).

    وقال ابن بطّال رحمه الله تعالى: «قوله ﷺ: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن، يجهرُ به» ([64]). لأن تزيينه بالصوت لا يكون إلا بصوت يطرب سامعيه ويلتذّون بسماعه، وهو التغنّي الذي أشار إليه النبي ﷺ، وهو الجهر الذي قيل فى الحديث: «يجهرُ به» بتحسين الصوت المُليِّن للقلوب من القسوة إلى الخشوع، وهذا التزيين الذي أمر به ﷺ أمته» ([65]).  

     وقال ابن باز رحمه الله تعالى: «التَّزيِينُ: هو أن يقرأ بتلاوة واضحة بَيِّنَةٍ، فيها الخُشوعُ، فيها التَّحَزُّنُ، فيها التَّرتيلُ وعدمُ العَجَلَةِ، حتى يتأثَّر هو وغيرهُ» ([66]). وقال العبّاد حفظه الله تعالى في الحديث: «يعني حسن الصوت بالقراءة؛ لأن القرآن المنزل على نبينا محمد ﷺ إنما يتلوه نبينا ﷺ، وأما سائر الأنبياء فإنهم لا يتلون إلا كتبهم، كما جاء في الحديث أن أبا موسى أعطي مزمارًا من مزامير آل داود في حسن صوته وحسن قراءته، فالمراد به هنا حسن الصوت بالقراءة وليس بالقرآن الذي هو منزل على نبينا محمد ﷺ؛ لأن القرآن المنزل على نبينا محمد ﷺ لم ينزل على أحد قبله، ولكن الأنبياء السابقين نزلت عليهم الكتب وهم يقرأونها.

     وأما ذكر القرآن في الكتب السابقة فقد جاء في القرآن في قول الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء:١٩٦] والمقصود أنه جاء ذكره وليس هو؛ لأن القرآن لم ينزل على أحد قبل نبينا ﷺ» ([67]). وعن طاووس رحمه الله تعالى قال: «كان يقال: أحسن الناس صوتا بالقرآن أخشاهم لله». وفي رواية عنه أنه سئل من أقرأ الناس؟ فقال: «من إذا قرأ رأيته يخشى الله» ([68]). قال: «وكان طلقٌ من أولئك». أي: التابعي العابد طلق بن حبيب ([69]).

 

حكم التجويد

      التجويد هو حلية التلاوة، وزينة القراءة، ومعناه في اللغة: التحسين والإتقان، يقال: جوَّدت الشيء تجويدًا أي: حسنته تحسينًا، وأتقنته إتقانًا، والاسم منه: الجودة.

     وحكمه الاستحباب ـــ كما أسلفنا ـــ لأنه مُحَسِّنٌ للتلاوة ومُزيِّنٌ لها، فهو لا يتعلّق بمعاني الألفاظ، إنما يتعلّق بجمال الأداء. ولكن ينبغي الاعتناء به، لأنّه عبادة متعلّقة بتلاوة كتاب الله تعالى، وقد قرأ به الصحابة رضي الله عنهم كما وصل إلينا عنهم بالتواتر.

     وفائدة علم التجويد هي حفظ اللسان من الخطأ عند قراءة القرآن، وهو ما يسمّى باللحن. واللحن في القرآن نوعان: الأول: اللحن الجَلِيّ: وهو الخطأ الذي يطرأ على الألفاظ ويخلّ بالمعنى المقصود للآية، ومثاله استبدال حرف مكان آخر أو تغير حركة بأخرى. والثاني: اللحن الخفي: وهو الإخلال بكمال تطبيق أحكام التجويد كالغنة والإدغام والإظهار والإقلاب ونحو ذلك، وهو كان لا يُخِلُّ بالمعنى، ولا بالإعراب.

      قال ابن باز رحمه الله تعالى: «قراءة القرآن بالتجويد مستحبة، وفيها تحسين الصوت بالقرآن، والرسول ﷺ يقول: «ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن، يجهرُ به»([70]). يعني: يحسن صوته، ويقول ﷺ: «زَيِّنُوا القرآنَ بأصواتكم» ([71]). فالسنة للمؤمن العناية بتحسين الصوت بالقراءة؛ لأن هذا أخشع للقلب، وأنفع للمستمعين». وقال أيضًا: «أحكام التجويد مستحبة، وليست واجبة، فإذا قرأ الإنسان القرآن بلغة العرب؛ كفى، والحمد لله. لكن يشرع له أن يقرأها على من هو أعلم منه؛ حتى يتقنه جيدًا، وإذا قرأه بالتجويد على إنسان يعرف ذلك؛ كان هذا من باب الكمالات، ومن باب الفضل، ومن باب العناية بإتقان القرآن، وأن يقرأه على الوجه المرضي، وإلا فليس بشرط، وليس بواجب، ولا دليل على ذلك.

    فإذا قرأه بلغة العرب، وأقامه على لغة العرب، ولو كان ما أدغم، أو ما فخم الراء ونحوها، أو رقق كذا، أو أظهر في محل الإدغام، أو أدغم في محل الإظهار فلا يضره ذلك» ([72]).

     وقال العثيمين رحمه الله تعالى: «القراءة بالتجويد ليست واجبة ما دام الإنسان يقيم الحروف ضمًّا وفتحًا وكسرًا وسكونًا، فإنّ التجويد ليس إلا تحسين اللفظ فقط، إن تمكن الإنسان منه فهذا حسن، وإن لم يتمكن فلا إثم عليه.. فالقراءة بالتجويد إنما هي تحسين للفظ وليست بواجبة، والتعمق فيه والتنطع فيه والتكلف فيه من الأمور المنهي عنها، لأن النبي ﷺ قال: «هلك المتنطِّعُون» ([73]). قالها ثلاثًا». ([74]). وقال أيضًا: «التجويد في القرآن ليس بواجب، وإنما هو من باب تحسين الصوت بالقرآن، فإذا أمكن أن تؤدّي القرآن بالتجويد بدون تكلف ولا تنطع فهذا خير، وأما أولئك القوم الذين يتكلفون، وتجده يكاد ينجرح حلقه إذا أراد أن ينطق بالحاء أو الهاء أو غيرها من الحروف الحلقية؛ فلا شك أن هذا خلاف السنة، لكن المراد بالتجويد المعتدل.

     والصواب: أنه ليس بواجب وإنما هو سنة، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن الذين يعتنون بالتجويد ويتكلفونه يكون هذا سببًا لعدم تدبرهم القرآن؛ لأن الإنسان حينئذٍ ليس له هم إلا إصلاح اللفظ فقط، وصدق رحمه الله تعالى، ذكر هذا في الفتاوى، وقال: إنه لا ينبغي التكلّف في التجويد» ([75]).

     وقالت لجنة الإفتاء المصرية في جواب للسؤال: هل قراءة القرآن بالتجويد واجبة أم مستحبة؟: «تعلُّمُ أحكام القراءة والتجويد التي تحفظ اللسان من اللحن المفسد للمعنى واجب على كل مسلم ومسلمة، كي يقرأ الفاتحة وسائر سور القرآن الكريم قراءة صحيحة في مقتضى اللغة العربية الأصلية.

      أما تعلم الأحكام التحسينية التي تتعلق بصفات الحروف ومخارجها وأحكامها التي لا يُؤدّي الجهل بها إلى إفساد المعنى واللحن الجليّ فهو تعلم مندوب ومستحب، وليس بواجب.

     يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله: «واجب صناعة بمعنى ما لا بد منه مطلقًا، وبمعنى ما يأثم بتركه إذا أوهم خلل المعنى أو اقتضى تغيير الإعراب» ([76]). وقال أيضًا: «اللحن الجليّ: خطأ يعرض للّفظ ويُخلّ بالمعنى والإعراب، كرفع المجرور ونصبه. والخفيّ: خطأ يعرض للفظ ولا يُخل بالمعنى ولا بالإعراب، كترك الإخفاء والإقلاب والغنة» ([77]). ويقول المُلّا علي القاري الحنفي: «ينبغي أن تُراعى جميع قواعدهم وجوبًا فيما يتغيّر به المبنى ويفسد المعنى، واستحبابًا فيما يحسن به اللّفظ ويستحسن به النّطق حال الأداء». وأما اللحن الخفي فقال: «لا يُتصور أن يكون فرض عين يترتب العقاب على قارئه لما فيه من حرج عظيم» ([78]). والله أعلم» ([79]).

     فالأصل في سلامةِ القراءة سلامةُ الإعراب من اللحن، مع المدِّ وتزيين الصوت، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابيّ والأعجميّ، فقال: «اقرأوا، فكلٌّ حَسَنٌ، وسيجيء أقوامٌ يُقيمونه كما يقام القدح، يتعجّلونه ولا يتأجّلونه» ([80]). فقوله: «اقرؤا فكل حسن»: أي فكل واحدة من قراءتكم حسنة مرجوة للثوب، ولا عليكم ألاتقيموا ألسنتكم إقامة القدح وهو السهم قبل أن يُرَاش، «وسيجيء أقوام يقيمونه»: أي يصلحون ألفاظه وكلماته ويتكلّفون في مراعاة مخارجه وصفاته «كما يقام القدح»: أي: يبالغون في إظهار كمال الأداء للتلاوة لأجل الرياء والسمعة والمباهاة والشهرة والتّصدّر والظّهور وعاجل الدنيا وحظوظها، دون رجاء وخوف الآخرة.

     قال الطيبي رحمه الله تعالى: «وفي الحديث رفع الحرج، وبناء الأمر على المساهلة في الظاهر، وتحرّي الحسبة والإخلاص في العمل، والتفكّر في معاني القران» ([81]). «وهذا يعطي سعة في عدم التعمق في إتقان التجويد، والتساهل في ذلك ما دامت أصول القواعد ظاهرة، وذلك مثل وجود الحد الأدنى من المدود الفرعية، فيغض النظر عن توفر الكمال فيها» ([82]). فالتجويد الواجب هو عدم اللحن الجليّ، فحق التلاوة إعرابها، أما اجتناب الخفي فمستحب جليل، قال الخاقاني رحمه الله تعالى([83]):

فأوَّلُ علمِ الذكرِ إتقانُ حفظه
فكُن عارفًا باللحن كيما تزيلُهُ

 

ومعرفةٌ باللحن مِن فِيكَ إذ يجْرِي
ومَا للذي لا يعرفُ اللحنَ من عذرِ

     وجاء رجل إلى الإمام نافع رحمه الله تعالى فقال: تأخذُ عليّ الحدر؟ فقال نافع: «ما الحدر؟ ما أعرفها! أسمِعْنَا». فقرأ الرجل، فقال نافع: «حَدْرُنا ألّا نسقط الإعراب، ولا ننفي الحرف، ولا نُخفّف مُشدّدًا، ولا نُشدّد مُخفّفًا، ولا نقصر ممدودًا، ولا نمدّ مقصورًا، قراءتنا قراءة أصحاب رسول الله ﷺ، سهل جزل، لا نمضغ ولا نَلُوك.. » ([84]). وقال السخاوي رحمه الله تعالى في مطلع قصيدته المسمَّاة: «عمدة المفيد وعُدّةُ المُجِيد في معرفة التّجويد»:

يا من يَرُومُ تِلاَوَةَ القُـــــــرْآنِ
لاَ تَحْسَبِ التَّجوِيدَ مَدًاّ مُفْرِطًا

أو أَنْ تُشَدِّدَ بَعدَ مَدٍّ هَـــــمزَةً
أَو أَنْ تَفُوهَ بِهَمْزَةٍ مُتَهَــــوِّعًا
لِلحَرفِ مِيزَانٌ فَلاَ تَكُ طَاغِيًا

 

وَيَرُودُ شَأْوَ أَئِمَّـــــــــةِ الإِتْقَانِ
أَو مَدَّ مَا لاَ مَدَّ فِـــــــــيهِ لِوَانِ
أَو أَنْ تَلُوكَ الْحَرفَ كَالسَّكرانِ
فَيَفِرَّ سَامِعُهَا مِنَ الغَــــــــثَيَانِ
فِيه وَلاَ تَكُ مُخْســــِرَ الميزَانِ


      وبالجملة؛ فلا دليل مع من أوجب التجويد، وأَثَّمَ العبيد، وألزمهم ما لم يلزمهم الله تعالى ([85])، وإن كان لقوله وجاهة، ولكنها مرجوحة، والله أعلم.

كلُّ إمامٍ ليسَ قوله بحُجَّة

 

إلّا الذي مِنْ صَاحِبِ المَحَجَّة

     ولتبسيط فهم حجتهم في إيجاب التجويد على كل قادر: أنهم قالوا: إنا أُمرنا بالترتيل، ثم فسروا الترتيل بالقراءة بالتجويد، وأن الأمة قد أخذت القراءة المجوّدة خلفًا عن سلف، فهي مُطالَبة بقراءته كما أُنزل.

     وجواب هذه الدعوى هو مطالبتهم إثبات أن الترتيل هو التجويد، لأن الترتيل هو التّرَسُّلُ المُعرب المُبيّن، أما التجويد فهو زينةٌ وكمالٌ وجمالٌ، وليس له علاقة بالمعنى أو الإعراب، وعليه؛ فمن أدخله في معنى الترتيل فهو مُطالب بالدليل، ولا دليل فيما نعلم، والله أعلم.

     وقد تتبَّعتُ حجج من قال بالوجوب، وكثير منهم نقل الإجماع عليه، وأمثَلُ ما وجدت لهم التالي:

    استدلالهم بأمر الله تعالى بترتيل القرآن، ولا صارف للأمر عن الوجوب للاستحباب، وكذلك بترتيل النبي ﷺ قراءته وقوله: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» ([86])، والقراءة من أعظم أجزاء الصلاة.

     والجواب: أن الترتيل هو الترسُّلُ والتبيين، كما جاء عن ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم ([87]). فالترتيل: هو الترسّل والتؤدة، ويقابله الهَذُّ: وهو الإسراع. وكلاهما إقامة للمخارج والحروف والإعراب، ولكن الترتيل فيه زيادة الترسّل والمدّ. وتأمّل حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي ﷺ في قارئ القرآن، وفيه: «اقرَأ واصْعَدْ في دَرَجِ الجنَّةِ وغُرَفِهَا، فهو في صُعُودٍ ما دام يقرَأُ هَذًّا كان أو ترتِيلًا» ([88]). قال الحافظ رحمه الله تعالى: «هَذًّا: بفتح الهاء، وتشديد الذال المعجمة أي: سردًا وإفراطًا في السرعة، وهو منصوب على المصدر» ([89]).

     وقال الخضير حفظه الله تعالى: «فدلّ على جواز قراءة الهَذِّ، وأنها مُحَصِّلَةٌ لأجر الحروف، وأما أجر التجويد والتدبر فقدرٌ زائد على ذلك» ([90])، وقال أيضًا: «هذًّا كان أو ترتيلًا»: يدل على جواز قراءة الهذِّ، والحديث حسن. ومع جواز قراءة الهذِّ حتى في هذا المقام فالترتيل أفضل؛ لأن الهذّ ينتهي بسرعة فينتهي صعوده، والترتيل لا ينتهي بسرعة، فيستمرّ صعوده» ([91]).

     والمقصود؛ أن من ترسّل في قراءته وبيّن الحروف وأعربها وأحسن الوقوف فهو مرتِّل قائم بالترتيل الواجب، وإن كان الكمال في التجويد التام. ومن قرأ القرآن في صلاته بسلامةٍ من اللحن الجليِّ؛ فقد أتى بالحد الأدنى الواجب من القراءة، فلا يُلزم بأكثر من ذلك إلا بدليل، فيقال له: اثبت العرش ثم انقش. ويدخل في الترتيل الترسُّلُ بمدّ الممدود كما كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدًّا، كما روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه سُئل: كيف كانت قراءة النبي ﷺ فقال: «كانت مَدًّا، ثمَّ قَرَأَ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ» ([92]).  وهذا الحديث يدل على مشروعية التجويد، وإن كان المدُّ في القراءة دالٌّ على الترسّل والتؤدة.

     ومن ذلك ما روي عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله ﷺ يُصلي في سُبْحَتِه قاعدًا قطّ، حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعدًا، ويقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها» ([93]). وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله ﷺ مُفَسَّرَة حرفًا حرفًا ([94]). لذلك قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «وكانت قراءته ترتيلًا لا هذًّا ولا عجلة، بل قراءة مفسَّرة حرفًا حرفًا، وكان يُقَطِّعُ قراءته آية آية، وكان يمدُّ عند حروف المدّ، فيمدُّ الرحمن، ويمدّ الرحيم» ([95]).

     ومن أدلتهم أيضًا: ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنّه كان يُقرِئُ القرآن رجلًا، فقرأ الرّجل: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) مرسلة([96])، فقال ابن مسعود: «ما هكذا أقرأنيها رسول الله ﷺ، قال: كيف أقرأكها يا أبا عبد الرّحمن؟ قال: «أقرأنيها: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) فمدّها». ([97])

     والجواب: أنّ المدّ من الترسّل وهو من الترتيل، والمدّ قد ثبت في قراءة رسول الله ﷺ كما في حديث أنس الآنف، ويستفاد منه التؤدة في القراءة بترتيلها والترسل فيها. وفي صحة هذا الأثر كلام، ويجري عليه ما ذكروه من آثار كثيرة عن الصحابة في هذا الباب، وهي منقسمة إلى صحيح غير صريح، وصريح غير صحيح، فالصريح بإيجاب التجويد العُرفي لا يثبت، والصحيح منها غير صريح في مناط الخلاف، وهو وجوب التجويد بمعناه المعروف لدى أهل الشأن، ولا شكّ أنّ الاحتياط هو العمل به في النفس وعدم الإخلال به قدر الطاقة، أما الإفتاء بوجوبه ففيه نظر.

      ومثل ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه حينما سئل عن معنى الترتيل فقال: «هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف» ([98]). ولا نعلم له أسنادًا صحيحًا، وعلى القول بصحته فهل كان رضي الله عنه يعني بالتجويد إتقان الأداء للحروف والمخارج والحركات والوقوف، وهو السلامة من اللحن الجلي، أم أنه كان يعني التجويد المتعارف عليه عند أهل الفن من شموله لأطراف التجويد وسلامته من اللحن بنوعيه. فالأمر محتمل، وإذا دخل الاحتمال سقط الاستدلال إلا على سبيل الاحتياط، والمعنى الأوّل أرجح؛ لأن من كبار السلف من فسّره به، فحمله على المتعارف المشهور في لسانهم أولى من القصد إلى معنٍى خاصٍّ بلا مُرَجِّحٍ مِن خارجٍ. ومثله ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «جوِّدُوا القرآن، وزيّنوه بأحسن الأصوات، وأعربوه فإنه عربي، والله يحب أن يُعرَبَ به» ([99]).

     ومن أدلتهم: ما ثبت عن النّبيّ ﷺ أنّه حثّ أن يُقرأ القرآن كما أنزل، كما في الحديث الصّحيح في فضل عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه أن النّبيّ ﷺ سمعه يقرأ، فقال: «من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد» ([100]). فهذا دليل على أنّ قراءة القرآن على وجهه إنّما هو بقراءته كما أُنزل، وهو قد أنزل مرتّلًا بلسان عربيّ مبين، وابن مسعود من أئمّة القراءة الّذين على قراءتهم بنيت أحكام التّجويد، فعليه؛ وإذا كان اللّحن منفيًّا في الأصل عن القرآن، فإضافة اللحن إليه من تحريف الكلم عن مواضعه. وهو تلقّي القراءة عن النّبيّ ﷺ على الصّفة الّتي أنزل عليها القرآن، وعربيّة القرآن الّتي جاءت بأفصح ما في لسانهم وأبينه، قال الله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ )١٩٥ [الشّعراء: ١٩٣ - ١٩٥] فهذا القرآن مسند إلى الله تعالى بهذه الصّيغة العربيّة الفصيحة، الّتي لم يدخلها تصرّف النّاقل، بل تلقّاها الأمين جبريل، وعنه الأمين محمّد ﷺ، وعنه الأمناء من أصحابه، وهكذا من بعدهم، يتبع اللّاحق منهم السّابق، على الصّفة الّتي أنزله الله عليها، قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ٩ [الحجر: ٩]، فهو محفوظ في نفسه من أن يبدّل منه شيء حتّى في النّطق بحرف منه. فقراءة القرآن بغير التّجويد أو بغير النّحو عدول به عن المسموع من رسول الله ﷺ، وخروج به عن عربيّته، وهذا لا يحلّ ([101]).

     والجواب: أن من قرأه بدون لحن جلي في إعرابه ووقوفه فلم يخرج به عن العربية، وقرأه بمدٍّ وترسُّلٍ فقد رتّله، وأتى بالحد الأدنى المسموح به، ولم يخرج به عن لحون العرب، وإن كان الكمال والجمال والزينة إنما هي بالسلامة من اللحن به جليِّه وخفيِّه، فليس كل مشروع واجب، بل المأمور منه ما هو واجب ومنه ما هو مستحب، والتجويد من زينة القراءة وليس من إعرابها، والواجب إعرابها والمستحب زينتها، فليسا على مرتبة واحدة، ويجري على تزيينِ الأداء بنطقه تزيينُ الصوت والتغنّي به.

     ومن أدلتهم: ما جاء عن سليمان بن يسار رحمه الله تعالى قال: انتهى عمر إلى قوم يُقرئ بعضهم بعضًا، فلما رأوا عمر سكتوا. فقال: ما كنتم تراجعون، فقلنا: كنا نُقرئ بعضنا بعضًا، فقال: «اقرأوا، ولا تَلْحَنُوا» ([102]).

     والجواب: أنّ ظاهرَ كلام عمر رضي الله عنه أمْرُهُم بإعراب القرآن دون اللحن فيه، وليس ما زاد على ذلك. قال ابن منظور: «اللحْن واللحَن واللحانة واللحانية: ترك الصواب في القراءة» ([103]).

    ومن أدلتهم: ما جاء من أن القراءة سنة، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «قال لنا علي بن أبي طالب إن رسول الله ﷺ يأمركم أن تقرأوا كلما علمتم» ([104])، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «القراءة سُنَّة» ([105])، ونحو ذلك.

     والجواب: كما أسلفناه، فالقراءة سنة متّبعة، والناس فيها على درجات، وكلما كان أقرب لواجباتها ومستحباتها كان أمثل وأفضل. فكلها سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، إعرابها واجب، وتجويدها مستحب.

    ومن أدلتهم: ما جاء عن زر بن حبيش رحمه الله تعالى قال: قرأ رجل على عبد الله بن مسعود (طه) ولم يكسر ـــ أي: لم يُمِلْ ـــ فقال عبد الله بن مسعود (طه) وكَسَرَ، ثم قال: «والله هكذا علمني رسول الله ﷺ» ([106]).

    قلت: في هذا فضيلة ظاهرة للتجويد، وأنه مستقرٌّ عند الصحابة المرضيين كما علمّهم إياه رسول الهدى ﷺ. فينبغي على الأمة الحرص على تعلّمه وتعليمه والقراءة به، وعلى قدر نقصه في القراءة يكون نقص المهارة المحمودة فيها، والله المستعان.

     ومن أدلتهم: الإجماع على إيجابه. فقالوا: «إن الأمة قد أجمعت على تلقي القرآن وعرضه منذ نزوله جيلًا بعد جيل بهذه الكيفية التي عرفت بالتجويد، لا خلاف بينهم في ذلك، إذ القراءة عندهم سُنّة متبعة» ([107])، وأن أحكام التجويد من إظهار وإدغام وإقلاب وإخفاء وإمالة وتفخيم وتحقيق همز وتخفيفه؛ كل ذلك من لغة العرب التي نزل بها القرآن، وما من قارئ من قراء الأمصار: الحجاز والشام والعراق إلا وقد ورد عنهم الإدغام والإظهار والهمز والتليين والحدر والتحقيق والإمالة والتفخيم ([108]).

     والجواب: أنّ ما نقلوه من إجماع على الوجوب فلا يثبت. ولعلَّ من نَقَلُوه ـــ على جلالة أقدارهم ـــ قد نقلوه بالفهم لا بالنص، أي أنهم قصدوا بالإجماع نقله بهذه الكيفية وحفظِ الله تعالى له. ونحن نقول بذلك النقل المبارك بالتواتر عبر الأجيال المسلمة، ولكن من أين لكم نقل الإجماع على وجوبه بتلك الكيفية؟ فوجوده غير وجوبه، فهو مستحب مشروع، ولا ينبغي لقادر تركه، ولكن التأثيم شديد لمن لم يقرأ به بلا عذر، ومفتقر إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع.

     وبالجملة؛ فالذي يظهر ــ والله أعلم ـــ هو مشروعية التجويد، وأنّ الأمر به على سبيل الندب والاستحباب، لأنه من كمال القراءة وزينتها وجمالها، وهو سنةٌ عن رسول الله ﷺ وصحابته الكرام رضي الله عنهم، وعنهم تلقاها أئمة القراء، فلا ينبغي الإخلالُ بها، وتعظيمها من تعظيم القرآن، وتعظيم القرآن من تعظيم الله وإجلاله تبارك وتعالى، ونحن وإن قلنا بأنّ حكمه الاستحباب لا الوجوب، فإنّه لا يبعُدُ من قال بالوجوب، فلأدلتهم وجاهة ظاهرة، وإن كانت غير كافية ولا تنهض للاحتجاج لنقل مشروعيته من الاستحباب إلى الوجوب.

      أما الاشتغال بعلم التجويد وتعليمه فهو فرض كفاية، وهو علمٌ جليل شريف محفوظٌ بحفظ الله تعالى للقرآن الكريم ([109]).

    وينبغي أخذه وتلاوة القرآن به بلا تكلّف ولا غلوٍّ ولا شطط، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ من إجلال الله إكرامِ ذي الشيبة المسلم، وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه» ([110]). والغلو فيه يكون بالتكلّف وتجاوز الحدِّ في قراءته أو العمل به، أما التجافي فهو البُعد.

     وإنك لترى بكل أسف مظاهر وآثار الغلوِّ والتكلف في التجويد حتى صار لدى كثيرٍ من الناس صارفًا لهم عن تدبر القرآن العظيم، بدلًا من أن يكون عونًا على فهمه والتّلذّذ بقراءته وسماعه. وتأمّل كيف يَطرَبُون طرب النشوانين ويتمايلون تمايل الشارِبِين ([111]) عند قراءته بتلك الأوزان التي لا يخلو بعضها من إحداثٍ وحُرمة وقلّة توقير للقرآن العظيم.

    أما التمايل اليسير عند القراءة فلا بأس به عند الحاجة، لتنشيط النفس وإذهاب الكسل، شريطة ألا يزيد عن الحدِّ اليسير المعتاد، وألّا يتّخذه قُربةً وعبادةً ودينًا، فإن اتَّخذه دينًا فهو بدعة. وتركه مطلقًا أفضل وأخشع وأحوط. قال العثيمين رحمه الله تعالى عن هذا: «إن جاء تلقائيًا فهذا لا بأس به، لأن بعض الناس يستعين بالهزّ هذا على التلاوة، وإن جاء تعبُّديًّا فإنه لا يجوز، بل هو بدعة، ومع ذلك نحن نحثّ الذين يهزُّون تلقائيًا أن يعوّدوا أنفسهم ترك الهزِّ؛ لأنه قد يقتدي بهم غيرهم، ويظن أن هذا أمر مشروط» ([112]). وبهذا أفتى شيخنا الجبرين كذلك.

    ومما ينبغي التواصي به تعظيم مجالس القرآن وإجلالها عن الابتذال الذي يقع فيه بعض الناس ممن يتبعون نغمات الصوت الجميلة لا تدبّر المعنى العزيز، فشتّان ما بين حالهم وحال من مدحهم ربهم بقوله الأكرم: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ وعن الليث بن سعد رحمه الله تعالى، أنه قال: «يقال: ما الرحمة إلى أحدٍ بأسرع منها إلى مستمع القرآن؛ لقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾ ولعلَّ من الله واجبة» ([113]).

     قال الإمام محمد بن الجَزَرِي في منظومته الجزرية ([114]):

وَالأَخْذُ بِالتَّجْوِيدِ حَتْمٌ لَازِمُ
لِأَنَّهُ بِهِ الإِلَهُ أَنْــــــــــــزَلَا

وَهُوَ أَيْضًا حِــــلْيَةُ التِّلَاوَةِ
وَهُوَ إِعْطَاءُ الحُرُوفِ حَقَّهَا
وَرَدُّ كُلِّ وَاحِدٍ لِأَصْـــــــلِهِ

 

مَنْ لَمْ يُصَحِّحِ([115])القُرَانَ آثِمُ
وَهَكَذَا مِنْهُ إِلَيْنَا وَصَــــــــــــــــلَا
وَزِينَةُ الأَدَاءِ وَالــــــــــــــــقِرَاءَةِ
مِنْ صِفَةٍ لَهَا وَمُسْتَحَـــــــــــــقَّهَا
وَاللَّفْظُ فِي نَظِيرِهِ كَمِــــــــــــثْلِهِ


مُكَمَّلًا مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ
وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَرْكِـــهِ


 

بِاللّـُطْفِ فِي النُّطْقِ بِلَا تَعَـــسُّفِ

إِلَّا رِيَاضَةُ([116]) امْرِئٍ بِفَكِّهِ

 

 

مَنْ هم أهل القرآن؟

أهلُ القرآن هم أهل الله تعالى، وهم المعتنون به تلاوة وتدبرًا وحفظًا وعملًا وتعلُّمًا وتعليمًا وتعظيمًا، فنُسبوا إليه لِمَا اختصُّوا عمّن سواهم بمزيد العناية به، ورأسُ العناية العمل، جعلنا الله جميعًا ووالدينا وأحبابنا منهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ للهِ أهلين من الناس»، قالوا: يا رسول الله: من هم؟ قال: «هم أهلُ القرآن، أهلُ الله وخاصَّتُهُ» ([117]). أي: أولياؤه المُختصُّون به ([118]).

 فصاحب القرآن الّذي يعمل به هو القائم به ليله بالصّلاة به وتدبّره وتفهّم معانيه، ونهاره بامتثال أحكامه وشرائعه، قال ابن الأثير رحمه الله تعالى في معنى «أهل الله»: «أي: حفظة القرآن العاملون به، فهم أولياء الله والمختصّون به اختصاص أهل الإنسان به» ([119]).

وتدبر قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ). قال ابن عباس رضي الله عنمها: «فضلُهُ الإسلام، ورحمتُهُ القرآن» ([120]). فكفى بذلك لأهل القرآن فضلًا وشرَفًا وفرحًا.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ ﷺ، قال: «لا حسد إلّا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء اللّيل وآناء النّهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء اللّيل وآناء النّهار» ([121]).

وإن لحافظ القرآن فضلُهُ في الإسلام وفي الصلاة وفي الدفن، فهو المُقَدَّمُ لأشرف مقام بين يدي الله تعالى لإمامة الصلاة، والتقدم بين أيديهم إليه سبحانه، قال النبي ﷺ: «وليؤمّكم أكثركم قرآنًا» ([122]). فاحفظْ فكلُّ حافظٍ إمامُ.

 والأكثر حفظًا للقرآن هو المُقدّمُ في اللَّحد حال دفن أكثر من واحد في القبر، فالقرآن الذي في صدره قدّمه على إخوته، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النّبيّ ﷺ يجمع بين الرّجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثمّ يقول: «أيّهم أكثر أخذًا للقرآن؟» فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللّحد.. وذكر الحديث ([123]).

وليبشر صاحب القرآن بالدرجات العالية في جنات النعيم، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ﷺ، قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارقَ ورتّل كما كنت ترتّل في الدّنيا، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرأها» ([124]). وتأمل كيف نسب صحبته للقرآن، مما يقتضي مزيد العناية به، فاقرأ وارقَ ورتّل يا صاحب القرآن. وقد سئل العثيمين رحمه الله تعالى عن المراد بصاحب القرآن في هذ الحديث هل المقصود بالقراءة: النظر أم الحفظ؟ فأجاب: «النصوص الواردة في فضل تلاوة القرآن تشمل تلاوته نظرًا وتلاوته حفظًا؛ لأن النبي ﷺ لو أراد الحفظ فقط لقال: من قرأ عن ظهر قلب، فلمّا لم يقيّده فإن الواجب إطلاقه، وأن نقول: من قرأ من المصحف أو عن ظهر قلب فإنه ينال الأجر الثابت لتالي القرآن» ([125]).

 وليتفقّد صاحب القرآن نيّته على الدوام، فعليها مدار قبوله ورضوان الله عليه به، وليحرس خلجات نفسه وخطرات قلبه من واردات الوساوس الشيطانية التي تُملي وتزيّن وتحبّب أخذ الدنيا بعمل الآخرة، واتّباع حظ هوى النفس من التصدّرِ والظهورِ والعلوِّ واقتياتِ الحطام ونحو ذلك، وليتذكّر أنّ قارئ القرآن المرائي مِن أوّل المُسعّرين في النار عياذًا بالله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ  قال: «إنّ أوّل الناسِ يُقضى يوم القيامةِ عليه ـــ ثم ذكر أبو هريرة الحديث الطويل الى أن قال ـــ: ورجلٌ تعلّم العلم وعلّمهُ، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرّفهُ نعمته فعرفها قال: فما عملتَ؟ قال: تعلّمتُ العلم وعلّمتُه، وقرأتُ فيكَ القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمتَ ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ! فقد قيل، ثمّ أُمرَ به فسُحب على وجهه حتّى ألقي في النّار» ([126]). فلا بدّ من تصحيح النية للتزكية، وهل يستقيم الظلُّ والعودُ أعوجُ؟!

والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

إبراهيم بن عبد الرحمن الدميجي

15 رمضان 1445

aldumaiji@gmail.com

 

 

 



([1]) أخرجه ابن جرير ١٢/ ١٩٦ - ١٩٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٥٩، والبيهقي(٢٥٩٦).

([2]) البخاري 7/99 ، 100 (5427) ومسلم 2/194 (797) (243).

([3]) أخرجه أحمد (1/91) (704) والدارمي (3334) والترمذي (2906) ولا يصح مرفوعًا، وروي موقوفًا.

([4]) زاد المعاد في هدي خير العباد (4 / 352).

([5]) أحمد (٨٩٢٩) بسنده عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: «سَبَقَ دِرْهَمٌ دِرْهَمَيْنِ»، قَالُوا: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ، فَتَصَدَّقَ أَجوَدَهُمَا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَتَصَدَّقَ بِهَا». قال محققوه: إسناده قوي، رجاله ثقات رجال الصحيح غير ابن عجلان، فقد روى له البخاري تعليقًا ومسلم في الشواهد، وهو صدوق لا بأس به. ورواه النسائي في سننه (٢٥٢٦)، وابن خزيمة في صحيحه (٢٤٤٣)، وابن حبان كما في الإحسان (٣٣٤٧)، والحاكم في المستدرك (١/ ٤١٦)، وقال: «صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه»، ولم يتعقبه الذهبي بشيء.

([6]) المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن القيم (١/‏٢٩) والكتاب أجوبةٌ عن أسئلةٍ حديثيةٍ، يناقشها تصحيحًا وتضعيفًا ووضعًا مع شيء من فوائدها.

([7]) صيد الخاطر ١/‏٤٩١.

([8]) البخاري (٧٥٤٤) ومسلم (١/‏٥٤٥).

([9]) البخاري (٤٩٣٧)، ومسلم (٧٩٨)، وأبو داود (١٤٥٤)، والترمذي (٢٩٠٦).

([10])         النهاية ٤/ ٣٧٤.

([11])         النهاية ١/ ١٩٠.

([12]) لاحظ أنّ الطاء منقلبة عن الدال فأصلها تمديد، من مطَّ الشـيء إذا مدّه. ولعلهم قلبوها إلى الطاء في حال إشارتهم إلى الزيادة غير المقبولة، كما هو عرفهم الآن، قال ابن الأثير النهاية ٤/‏٣٤٠ في مادة (مَطَطَ): «في حديث عمرَ، وذِكْر الطِّلاء «فأدْخَل فِيهِ أصْبُعه ثُمَّ رفَعَها، فتَبِعها يَتَمَطَّطُ» أي: يَتَمَدَّدُ. أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ ثَخينًا. ومنه حديث سعد «ولا تَمُطُّوا بآمِينَ» أي: لَا تَمُدُّوا». وفي لسان العرب ٧/‏٤٠٣: «عن اللِّحياني: ومَطَّ الشـيء يَمُطُّه مَطًّا: مَدَّهُ». ولعلّهم اشتقوا منها المطّاط وهو معروف، ويستخرج المطاط الطبيعي من سيقان أشجار خاصة تنمو في المناطق الاستوائية.

([13]) أبو داود  (١٤٦٨) والنسائي (١٠١٥) وصححه الألباني.

([14])  مستخرج أبي عوانة (٣٨٠٢) وأخرجه مسلم في صحيحه، من طريق وكيع، عن هشام، به، ولم يذكر لفظه، وهذا اللفظ من زوائد أبي عوانة على مسلم، ولفظ: «وهو يتعاهده» أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٦/ ١١٠، من طريق أسود بن عامر، عن شعبة، به.

([15])  مستخرج أبي عوانة (٣٨٠٧).

([17]) البخاري (٤٩٣٧).

([18]) البخاري (٤٩٣٧)، ومسلم (٧٩٨)، وأبو داود (١٤٥٤)، والترمذي (٢٩٠٦).

([19]) قال ابن الأثير رحمه الله تعالى في معناها: «أي: يتردّد في قراءته ويتبلّد فيها لسانه». النهاية (١/ ١٩٠).

([20]) البخاري في صحيحه في تفسير قوله تعالى: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ [عبس: ١٥].

([21]) البخاري (٥٠٣١) ومسلم (٧٨٩).

([22]) انظر: «النهاية في غريب الحديث» (٣ / ٢٨١).

([23])  البخاري (٤٧٤٦) ومسلم (٧٩١).

([24])  فتح الباري (٨/‏٦٩٨).

([25]) البخاري (٤٩٨١) ومسلم (١٥٢).

([26]) أحمد (1/91) (704)، والترمذي (٢٩٠٦)، والدارمي (٣٣٧٤)، والبزار (٨٣٦)، وابن أبي شيبة (٣٠٦٢٨) عن علي رضي الله عنه، ولا يصح رفعه.

([27]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس القرطبي (٢/‏٤٢٤). وقال ابن باز رحمه الله تعالى: «السَّفَرةِ: هم الحَمَلَةُ للرسائل والأوامر والنواهي بين الله وبين الناس، بين الله وبين الملائكة، بين الله وبين الرسل، وليس مُجَرَّدَ الكاتبِ فقط، يقال: جبرائيل هو السَّفير بين الله وبين رسله، يعني الواسطة في التَّبليغ». شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، لابن باز (١/‏٤٠٦). وقد استبعد الشيخ تفسير السفرة بالكتبة، ورجح أنها من السفارة وهي الرسالة.

([28]) إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (٣/‏١٦٦).

([29]) شرح سنن أبي داود، لعبد المحسن العباد (١٧٥/‏٢١).

([30]) شرح النووي على صحيح مسلم (٦/‏٨٤-٨٥).

([31]) ) عون المعبود وحاشية ابن القيم، شرف الحق العظيم آبادي (٤/‏٢٣٠).

([32]) ) تفسير ابن كثير، (8/٣٢١).

([33]) ) أبو داود (١٤٦٤) ابن أبي شيبة (٣٠٠٤٨) وأحمد (٦٧٩٩) والترمذي (٢٩١٤) وقال: «حديث حسن صحيح، وله شواهد هو بها صحيح». والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٥/‏٢٨١) (٢٢٤٠)، وقال بعده: «واعلم أن المراد بقوله: «صاحب القرآن» حافظه عن ظهر قلب على حد قوله ﷺ: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله»  أي: أحفظهم، فالتفاضل في درجات الجنة إنما هو على حسب الحفظ في الدنيا، وليس على حسب قراءته يومئذ واستكثاره منها كما توهم بعضهم، ففيه فضيلة ظاهرة لحافظ القرآن، لكن بشـرط أن يكون حفظه لوجه الله تعالى، وليس للدنيا والدرهم والدينار، وإلا فقد قال ﷺ: «أكثرُ منافقي أمتي قراؤها»».أهـ. قلت: حديث: «أكثرُ منافقي أمتي قراؤها». رواه أحمد (٦٦٣٣) والبخاري في خلق أفعال العباد ١/‏١١٨ وصححه الألباني في صحيح الجامع (١٢٠٣).

([34]) أحمد في مسنده (٢/ ١٧٤)، والحاكم (١/ ٧٤٠)، والبيهقي في الشعب (١٩٩٤)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (٣٨٨٢)، وانظر: قول الهيثمي في المجمع (١٠/ ٦٩٣).

([35]) والمراد بلحون العرب طريقة أدائهم وأصواتهم ونغماتهم الميسّرة المطبوعة بلا تكلّف ولا تشبه بأهل المجون، وقد ورد في تسمية ذلك حديث لا يصح وهو: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق.. » أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: ١٦٥) والحكيم في «النّوادر» (٨٥٧) والطّبرانيّ في «الأوسط» (٧٢١٩) وغيرهم عن حذيفة، به مرفوعًا.

([36]) أبو داود  (١٤٦٨) والنسائي (١٠١٥) وصححه الألباني.

([37]) مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه أبي الفضل صالح ١/‏٣٦٦ (٣٣٩).

([38]) البخاري في (التوحيد) (٦٩٧٣). وقيل إن: «يَجْهَرُ بِهِ» مدرج من كلام أبي هريرة أو أبي سلمة. وانظر: بذل المجهود في حل سنن أبي داود، للسهارنفوري ٦/‏١٨٩ ومرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للمباركفوري ٧/‏٢٦٨

([39]) البخاري ( ٥٠٤٨) ومسلم (٧٩٣). قال الخطابي في غريب الحديث (١/ ٣١٨): «قوله: «آل داود» يريد داود نفسه، لأنه لم ينقل أن أحدًا من أولاد داود ولا من أقاربه كان أُعطي من حسن الصوت ما أعطي».

([40]) سير الأعلام ٢ / ٣٩٢ وفضائل القرآن (ص: ٧٩) . وقال الحافظ في الفتح ٩/‏٩٣: «سنده صحيح». وقال أيضًا: «والصنج هو آلة تتخذ من نحاس كالطبقين يضرب أحدهما بالآخر، والبربط آلة تشبه العود، والنّاي هو المزمار».

([41]) تفسير ابن كثير ١/‏٦٣

([42]) ابن ماجه (١٣٣٨) وقال البوصيري في «الزوائد» 1/٤٣١: «هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات». والحاكم ٣/ ٢٢٥-٢٢٦ وجوّد سنده ابن كثير في تفسيره ١/‏٦٣ وصححه الألباني.

([43]) البخاري (٦/ ١٨٨) (٥٠١١) ومسلم (١/ ٥٤٧) (٧٩٥). والشَّطَن: الحَبلُ، أي مَرْبوط بحَبْلَين من قُوَّته. وقيل: هو الحبل الطّويل الشّديد الفَتْل. و«السكينة» في الأصل: السكون والطمأنينة، والمراد بها هاهنا: الملائكة.

([44]) البخاري (٦/ ١٩٠) (٥٠١٨) ومسلم (١/ ٥٤٨) (٧٩٦)، بلفظ: «تلك الملائكة كانت تسمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم».

([45]) مسلم (٧٩٥/ ٢٤٠).

([46]) مسلم (٢٦٩٩).

([47]) البخاري (٩/ ١٥٨) (٧٥٤٦).

([48]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (١/ ٢٧٧).

([49]) الأم، للإمام الشافعي ٦ / ٢١٥

([50]) المغني، لابن قدامة 10/312)

([51]) التبيان في آداب حملة القرآن، للنووي. ص: (٨٨).

([52]) الفتح: (١٤ / ٢٤٠).

([53]) الفتح: (١٩/‏٨٧).

([54]) حاشية مقدمة التفسير، لعبد الرحمن بن قاسم (107).

([55]) الحاوي للفتاوي، للسيوطي ١/‏٢٩٦

([56]) البخاري ( ٥٠٤٨) ومسلم (٧٩٣).

([57]) قارن كلامه رحمه الله تعالى بما يسمونه المقامات، وهي ألحان بأوزان معينة، وجمعوها على ستة أوزان هي: (البيات، والرَّسْت، والنهاوند، والسيكا، والصبا، والحجاز).

([58]) البخاري في (التوحيد) (٦٩٧٣).

([59]) الزاد (١/ ٤٧٤).

([60]) مختصر المزني  ٨/‏٤٢٠

([61]) صفة الصفوة، لابن الجوزي ١/‏٤٢٨

([62]) البخاري ٩/ ١٩٣ (٧٥٤٤)، ومسلم ٢/ ١٩٢ (٧٩٢).

([63]) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، للغنيمان ٢/‏٥٩٣ وقد رجّح الشيخ أيضًا أن لفظ «يجهر به» مدرج في الحديث.

([64]) البخاري في (التوحيد) (٦٩٧٣).

([65]) شرح صحيح البخاري، لابن بطال ١٠/‏٥٤٤

([66]) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، لابن باز ١/‏٤٠٦

([67])  شرح سنن أبي داود، للعباد ١٧٧/‏٢١

([68])  ابن أبي شيبة (٣٠٥٦٤) وأحمد في الزهد (١١٩٥). ولا يصحّ مرفوعًا، وكان الألباني رحمه الله تعالى قد صححه، ثم توقف عن ذلك بأخرةٍ طلبًا للمزيد من التحقيق، كما في الصحيحة (٤/‏١١١). وقد تتبّع أبو إسحق الحويني طرق الحديث في إسعاف اللبيث بفتاوى الحديث ٣/‏٣٥١ وانتهى إلى عدم ثبوت رفعه.

([69])  وذكر المِزِّي رحمه الله تعالى عنه في ترجمته في تهذيب الكمال في أسماء الرجال ١٣/‏٤٥٣ قال: «عن بكر بن عبد اللَّه المزني: لما كانت فتنة ابن الأشعث، قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى. فقيل له: صف لنا التقوى، فقال: التقوى، العمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء رحمة الله، والتقوى، ترك معاصي الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله.

وعن عوف الأعرابي: سمعت طلق بن حبيب، يقول في موعظته: يا ابن آدم، إن الدنيا ليست لك بدار، إلا عن قليل، فإنك لا تلوذ فيها بحريم، فلا تستبق من نفسك باقيًا، اللهَ اللهَ في السرّ المفضي به إليه.

وعن سعد بن إبراهيم، عن طلق بن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، وإن نعمه أكبر من أن تحصى، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين».

([71])  أبو داود  (١٤٦٨) والنسائي (١٠١٥) وصححه الألباني.

([72])  موقع الشيخ الرسمي، نور على الدرب، حكم قراءة القرآن بالتجويد.

([73]) ) مسلم (٢٦٧٠). والمتنطّعون: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.

([74]) ) سلسلة اللقاء الشهري (49).

([75]) ) لقاء الباب المفتوح ١١٥/‏١٦

([76]) ) الدقائق المحكمة (ص/19).

([77])  الدقائق المحكمة (ص/38).

([78])  شرح الجزرية (ص/20).

([79])  لجنة الإفتاء. رقم الفتوى: (2081).

([80])  أخرجه سعيد بن منصور في «فضائل القرآن» من «سننه» (٣١) وأحمد ( ١٥٢٧٣) وأبو داود (٨٣٠) وغيرهم. وصححه الألباني، وله شواهد.

([81])  عون المعبود (٣/ ٤٢).

([82])  إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم، لعبد السلام المجيدي (244).

([83])  قصيدتان في تجويد القرآن، للخاقاني (٢١).

([84])  جامع البيان في القراءات السبع ٢/‏٤٨٢ والتحديد في الإتقان والتجويد، كلاهما لأبي عمرو الداني ١/‏٩٣

([85])  قال شيخنا عبد الكريم الخضير حفظه الله تعالى في ذلك التعليق على تفسير الجلالين ١٤/‏٦: «مسالة أحكام التجويد من المدود والغنة والإظهار والإقلاب والإخفاء وما أشبه ذلك، هذه يوجبها أهل التجويد «من لم يجوّد القرآن آثم» هذا عندهم، ويستدلون على ذلك بأنه تُلُقِّيَ هكذا، تلقّي عن الشيوخ طبقة عن طبقة هكذا، فلا بد من تطبيق الأحكام، وقد يتعارض عند طالب العلم مثل هذا الكلام مع ما يسمعه من شيوخه، ومع ما يسمعه من أهل التجويد أيضًا من خلل كبير بهذه الأحكام، فهل تتوقع أن أشهر القراء، وأمهر القراء في قراءته للركعتين الأولتين في الصلاة الجهرية يفعل مثلها، مثل هذه القراءة في الركعتين الأخريين، يعني يرتّل إذا أسرّ، نحن نسمعهم وهم يصلون بجوارنا، لا يرتلون، ولا يطبقون الأحكام، وليس هذا بدليل على الإيجاب ولا على المنع، لكن مما يدل على أن القرآن يُقرأ سهلًا سمحًا لا يمطط فيه، ولا يهذّ كهذّ الدقل، والمجزوم به أن هذه القراءة حينما أنزل القرآن على النبي ﷺ وقرأه على أصحابه، وفيهم كبار السن، وفيهم الصغار، وفيهم قبائل مختلفة، بعضهم يطاوعه لسانه أن يمدّ، وبعضهم لا يطاوعه، ولذلك جاء الأمر على قراءة القرآن على سبعة أحرف، كل هذا من باب التسهيل والتيسير لقراءة القرآن في أول الأمر، ثم بعد ذلك اتُّفِقَ على حرف واحد، لكن إذا أوجبنا التجويد فما الذي نوجبه على أي قراءة؟ يعني إذا كان إظهار حرف أو إخفائه -الهمز وعدمه- بعض القراء يهمز، وبعض القراء لا يهمز «النبيئون، والنبييون» مثلًا، أيهما أسهل أن نهمز، أو نظهر المدغم؟ ثم بعد ذلك إذا قلنا بالإظهار والإدغام فعلى أي قراءة؛ لأنا لسنا ملزمين بقراءة شخص بعينه؛ لأن القراءة كلها سبعيّة متواترة، واختلاف الأداء في هذه القراءات، واختلاف الأداء في هذه القراءات يدل على أن الأمر فيه سهل؛ لأنها كلها سبعية، كلها متواترة، يعني مَن مدَّ ستّ حركات وغيره يمد أربع حركات، هذه ثابتة بالتواتر، وهذه ثابتة بالتواتر، فما الذي يلزمني بست أو أربع أو اثنتين، كلها ثابتة بالتواتر.

فيدل على أن الأمر ليس كما يقولون، نعم تجويده وضبطه وإتقانه وإخراج الحروف من مخارجها هذا أمر مطلوب، لكن التأثيم يحتاج إلى دليل.

وينص كثير منهم على أنه واجب عندهم في فنهم، وأما تأثيم التارك فيحتاج إلى قول فقيه، هذا كلامهم، يقولون مثل هذا الكلام، يعني هل كلامهم في وجوب المد، في وجوب التجويد مثلًا، هل هو مثل كلام النحاة في وجوب رفع الفاعل، أو نصب المفعول يعني وجوب فني وليس بوجوب شرعي؟ لأنه حتى بعضهم ينص من أهل التجويد أن هذا الوجوب وجوب علم، وجوب تلقي، وجوب هذا الفن يعني بيننا يجب لا يفرط فيه، لكن مع ذلك تأثيم التارك يحتاج إلى قول فقيه مجتهد هذا كلامهم، مما يدل على أن المسألة فيها سعة.

 والمقصود؛ أن القرآن يقرأ، ويحسّن الصوت بالقرآن، ويزيّن القرآن بالصوت، ويتغنّى به، بحيث يتأثر القارئ، ويؤثّر في السامع، لكن التطبيق بدقة على ضوء ما قرروه، وتأثيم تاركه يحتاج إلى دليل، يعني حتى القُرّاء المجوّدون المتقنون إذا قرؤوا القرآن للاستدلال، أو في خطبة للاستشهاد مثلًا، أو قرأها غيرهم وهم يسمعون ذلك، هل يؤثّمونه؟ أحيانًا يورد الدليل بسـرعة كما هو شأن من يستدل للمسائل العلمية، يعني يندر أن تجد من يقرؤها على قواعد التجويد، وأنا أقول على المسلم أن يحرص على تطبيق هذه القواعد حتى في الخطبة، إذا قرأ القرآن يقرأه مجوّدًا، وحتى في قراءته للكتب يحرص على أن يجوده، وأن يميّزه عن كلام البشـر».

([86])  البخاري (٦٣١).

([87])  انظر: تفسير الطبري ٢٣/‏٦٨٠ وتفسير البغوي ٦/‏٨٣٩٧ وتفسير القرطبي ١٠/‏٣٣٩

([88])  حديث حسن، رواه أحمد ٥/ ٣٦١ (٢٢٩٥٠) والدارمي (٣٤٣٥)، والحاكم (١/ ٥٦٠، ٥٦٦) وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وحسنه ابن حجر في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية ١٤/‏٣٢٤ والبوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة ٦/‏٣٣٠ وحسين أسد في تحقيق مسند الدارمي ٤/‏٢١٣٥ وعبد الكريم الخضير في شرح سنن الترمذي ٣٥/‏٣

([89])  الفتح ٢/ ٢٥٩

([90])  شرح سنن الترمذي، عبد الكريم الخضير ٣٥/‏٣

([91])  شرح كتاب التوحيد، عبد الكريم الخضير ٧/‏٧ وقال في نفس السياق: «من قرأ القرآن على الوجه المأمور به كما قال شيخ الإسلام، حصل له من العلم والإيمان واليقين والطمأنينة وزيادة الإيمان والعلم بالقرآن، والعلم بالله وأسمائه وصفاته وآلائه ما لا يحصل لغيره إلا من جرّب.

نحن نقول هذا الكلام وقد تعودنا الطريقة الثانية التي هي قراءة الهذّ؛ من أجل أن نسـرع في إكمال القرآن؛ لأن الإنسان بين أمرين: إما أن يجعل له وردًا ثابتًا من القرآن، وحينئذ يحرص على إكماله على أيِّ وجه كان، أو يجعل القراءة كيفما تيسـرت، مع أنه يلتزم التدبر والترتيل، لكن مثل هذا إذا لم يجعل له نصيب محدد هذا يضيع؛ لأن المشاغل كثيرة، إذا كان ليس وراءَك عمل بيّن واضح، فسوف تُسوّف.

القرآن أمره عجب، يختلف عن سائر الكلام، إذا أكثرت من قراءته رغبت في الزيادة، هناك من كان يقرأ القرآن في كل سبع، ثم ترقّى في ذلك إلى أن صار يقرأ في كل ثلاث، فطلبت همته الزيادة من القرآن، لكنه مع كونه يقرأ في ثلاث اضطر إلى أن يسـرع أكثر، وتراوده نفسه أن يرجع إلى طريقته الأولى، فبدلًا من أن يقرأ في كل ثلاث يقرأ في كل سبع، لكن يعوقه عن ذلك أمران: الأول: أنه تعود قراءة الهذّ.

 الثاني: الاعتياد على عبادة ثم النقص منها، لأن هذا كأنه نكوص «فإن الله لا يملّ حتى تملّوا»؛ ، وإن كان إلى الأفضل؛ لأن الأفضل ليس بمضمون، والنفس يقع فيها شيء من التردد، هل يرجع إلى طريقته الأولى؟ مع أنها أفضل بلا شك، يعني كونه يقرأ القرآن في سبع مع التدبر والترتيل أفضل بكثير من أن يقرأ في ثلاث مع الهذّ، وأجر التدبر والترتيل أمره عظيم، يعني حتى في زيادة الإيمان والطمأنينة:

          فتدبّر القرآنَ إنْ رُمْتَ الهُدى

 

       فالعلمُ تحتَ تدبّرِ القرآنِ»

 

([92])   البخاري (٥٠٤٦).

([93])  مسلم (٧٣٣).

([94])  أحمد (٢٦٥٢٦) وأبو داود: ٢/‏٧٣ والترمذي: ٤/‏٢٥٤ وقال: حديث حسن صحيح. وضعفه الألباني والأرناؤوط.

([95])  زاد المعاد في هدي خير العباد: ١/‏٤٨٢

([96])  أي: لم يمدّ (للفقراء).

([97])  الطّبراني في «المعجم الكبير» ( ٨٦٧٧) وضعفه الجديع من جهة مسعود بن يزيد ضعفًا إما لجهالة عينه، وإما لعدم توثيقه من غير ابن حبان، وله علة أخرى من جهة الكنديّ انقطاعًا. وحسنه الألباني في الصحيحة ٥/ ٢٧٩ (٢٢٣٧).

([98])  النشر: ١/‏٢٠٩ والكامل للهذلي: لوحة: ١٩/ب

([99])  الوجيز للقرطبي (ص: ٨٨) والنشر ١/ ٢١٠

([100])  أحمد (٣٥، ٤٢٥٥، ٤٣٤٠، ٤٣٤١) وابن ماجه ( ١٣٨) من طريق عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، عن عبد الله، به. وصححه الجديع.

([101])  انظر: النشر في القراءات العشر ١/‏٣١٥ والتحديد في الإتقان والتجويد لأبي عمرو الداني ١/‏٨١ وهداية القاري إلى تجويد كلام الباري، للمرصفي (١/ 48) والمقدمات الأساسية في علوم القرآن، عبد الله الجديع ١/‏٤٣٧

([102])  المصنف لابن أبي شيبة: ١٠/‏٤٥٩، شعب الإيمان: ٥/‏٢٤٢، إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري: ١/‏١٩

([103])  لسان العرب، لابن منظور ١٣/‏٣٧٩

([104])  كتاب السبعة لابن مجاهد: ٤٧ والحاكم في المستدرك 2 /٢٢٣، ٢٢٤ وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. ورواه الإمام أحمد في المسند ١ /٤١٩ بلفظ «كما أقرئ» وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة ٤/ ٢٨

([105])  كتاب السبعة لابن مجاهد: ٤٩

([106])  الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي ١/‏٣١٤، جمال القراء وكمال الإقراء للسخاوي: ٢/‏٤٩٨، النشـر: ٢/‏٣١ ونقل السخاوي في جمال القرّاء ١/‏٥٩٨ بلا سند عن صفوان بن عسَّالٍ رضي الله عنه أنه سمع رسول اللَّه ﷺ يقرأ: ﴿يَا يَحْيَى﴾ فقيل له: يا رسول اللَّه؛ تُمِيلُ وليس هي لُغة قريشٍ؟ فقال: «هي لُغَةُ الأَخْوالِ بنِي سعدٍ».

([107])  الوجيز في حكم تجويد الكتاب العزيز، لمحمد بن سيدي محمد الأمين ١/‏٥٣

([108])  المصباح الزاهر، للشهرزوري ٣/‏٩٢٩

([109])  وانظر: نهاية القول المفيد ص: ٧، وشرح الجزرية للقاري ص: ١٩.

([110])  أبو داود (٤٨٤٣)، وحسنه الألباني.

([111])  نقل أبو حيان في البحر المحيط (4/420).عن الزمخشري: «أنَّه لمَّا نشرَ موسى عليه السَّلام الألواح وفيها كتابُ اللّه تعالى لم يبقَ شجرٌ ولا جبلٌ ولا حجرٌ إلَّا اهتزَّ؛ فلذلك لا ترى يهوديًّا يقرأ التَّوراة إلّا اهتزَّ وأنغض لها رأسَه. قال أبو حيان معقّبًا: "وقد سَرَتْ هذه النَّزعة إلى أولاد المسلمين فيما رأيتُ بديار مصر؛ تراهم في المكتب إذا قرؤوا القرآن يهتزّون ويحرِّكون رؤوسهم، وأمَّا في بلادنا ـــ بالأندلس والغرب ـــ فلو تحرّك صغيرٌ عند قراءة القرآن أدَّبه مؤدّبُ المكتب، وقال له: لا تتحرَّك فتشبه اليهود في الدّراسة». ولذلك فقد منع منه العلامة بكر أبو زيد رحمه الله تعالى لأنه من أمرِ يهود.

قلت: كثير من كبار حاخامات اليهود يكرهون تمايل المصلي والذاكر، إنما يبيحونه للحاجة، فهو ليس من أصل ما تواضعوا عليه من دينهم. والتمايل عند ترديد المحفوظ لا تختصّ به أمة من الأمم، بل لا تكاد تخلو منه أمة، وبخاصة صغارها.

([112])  سلسلة لقاء الباب المفتوح، شريط رقم (150) الوجه (ب) الدقيقة 10.15.

([113])  تفسير القرطبي (١/ ٩).

([114])  أبياتها: ١٠٧

([115])  في تحقيق الشيخ عبد المحسن القاسم: وفي حاشية ط: «في بعض النسخ: (من لم يُجوِّد القرآن آثم)، ولكن الذي رأيناه بخطِّ المصنف: (مَنْ لَمْ يُصَحِّحِ) فيكون أصح، وإن كان الثاني أنسب؛ للمجانسة».

ولفظة «يُصَحِّحِ» هي الأصحُّ؛ لعدم وجودِ دليلٍ يُثبتُ إِثمَ من لم يُجوّد القرآن، وأحكامُ التَّكليفِ تفتَقر إلى نَصٍّ لإثباتها وإثبات ما يترتب عليها، كما أنَّه يلزم على لفظِ: «مَنْ لَمْ يُجَوِّدِ القُرَانَ» إثمُ من لم يُكْمِل حَركات المد أو الغنَّة ونحو ذلك، ويلزم أيضًا أَنَّه عاصٍ للَّه تعالى بذلك، ولا دليل على ذلك، أمَّا من لم يُصحِّح قراءتَه للقرآن وهو قادرٌ على ذلك فهو آثم.

قال ابن المصنف رحمهما الله تعالى في شرح طيبة النشـر (ص: ٣٥): «(مَنْ لَم يُصَحِّحِ القُرآن)؛ أي: من لم يُصَحِّح القرآنَ مع قدرته على ذلك فهو آثمٌ عاصٍ بالتقصير، غاشٌّ لكتابِ اللَّهِ تعالى على هذا التقدير».

([116])  أي: أن القارئ يبلغ مرتبة الإتقان والمهارة بقراءته بالتريّض على النطق الصحيح بكثرة التمرين على ذلك، والممارسة الدائبة، وبرياضة اللسان على النطق القويم على شيخ متقن.

([117])  أحمد (١٢٢٧٩) وحسنه الأرناؤوط، وأخرجه ابن ماجه (٢١٥) وصححه الألباني.

([118])  قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله تعالى في تحقيقه لسنن ابن ماجه ١/‏٧٨: «أهلين»: جمع أهل، جمع بالياء والنون لكونه منصوبًا على أنه اسم «إنّ».

([119]) النّهاية في غريب الحديث (١/ ٨٣).

([120]) أخرجه ابن جرير ١٢/ ١٩٦ - ١٩٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٥٩، والبيهقي (٢٥٩٦).

([121]) البخاري (٤٧٣٧، ٧٠٩١) ومسلم (٨١٥). وفي رواية: «لا حسد إلّا في اثنتين: رجل علّمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء اللّيل وآناء النّهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحقّ، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل». رواه أحمد (١٠٢١٤، ١٠٢١٥) والبخاريّ (٤٧٣٨، ٦٨٠٥، ٧٠٩٠).

([122]) البخاري (٤٠٥١).

([123]) البخاري (١٢٧٨).

([124]) ابن أبي شيبة (٣٠٠٤٨) وأحمد (٦٧٩٩) وأبو داود (١٤٦٤) والترمذي (٢٩١٤) وقال: «حديث حسن صحيح، وله شواهد هو بها صحيح». وصححه الألباني. وقد جاء بألفاظ: ارق، ارقه، ارتق، اصعد. وكلها بمعنى.

([125]) لقاء الباب المفتوح ٤٦/‏١٨

([126]) أحمد (٨٢٧٧) ومسلم (١٩٠٥) والنسائي (٣١٣٧).