إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الجمعة، 17 أكتوبر 2025

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ (13) خَلِيلَيَّ هذا رَبْعُ عَزَّةَ فَاعقِلَا

 

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ

(13)

خَلِيلَيَّ هذا رَبْعُ عَزَّةَ فَاعقِلَا

 

     وصلنا جَبَلَة وتنقّلنا بين هضابها ووهادها وطلحها ونقاها، ونحن نتأمل عظيم خلق الله وجميل صنعه وإبداعه، ثم نتذاكر شهودها لحال العرب الأقدمين وأيامهم وأحوالهم منذ التاريخ الغابر البعيد، وإيمان من آمن منهم وكفر من كفر، ومثُلات الجبار بهم وإنعامه وإمهاله، ثم تفرقهم وحروبهم وأكل بعضهم بعضاً، ثم رحمة الله ببعثة سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام وإتمام نعمته بالإسلام المُرتَضى الكامل، وإنزال القرآن الكريم وما فيه من صراط السعادة بتفاصيلها، وسبيل الفلاح بحذافيره.

    ثم تأملنا دِقَّةَ العرب في لغتهم وأصواتهم وتسمياتهم، فترى الشِّعب أو الجبل أو الهضبة بل حتى الأدوات والأواني والبهائم لمسماها علاقة بمبناها وحقيقتها صوتاً أو شكلاً أو غاية ونحو ذلك، فلم تغب عنهم حتى الأمور الصغيرة فسمّوها بسجيِّتهم وطبيعتهم اتفاقاً وتعاوراً دون اجتماع وتشاور، ومن أمثلة الأمور الدقيقة على سبيل المثال تسميتهم أسنان الإنسان الاثنين والثلاثين، فهي عندهم كالتالي: فالأسنان أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، وأربعة ضواحك، واثنتا عشرة رحى، ثلاثٌ في كل شقٍّ، وأربعة نواجذ، وهي أقصاها. والناجذ: ضرس الحلم، ومنه أخذ رجلٌ منجذٌ إذا أحكم الأمور. فخذ هذا مثالاً وقس عليه، وفي ضبطه تسهيل لكثير من أمور اللغة، هذا في الشكل والآلة أما الأصوات فأكثر وأبدع، خذ مثلاً كلمة جَرّ، كيف اشتقّوها من صوتها جررر، كذلك خرير وهديل وهواء وصهيل ونهيق وعواء..وبالاعتبار يكون الاستبصار.

       ثم ختمنا الرحلة بهضبتَي الدّخول وحومل وما حولهما من جبال وهضاب حمر شامخة راسخة، نزلناها ثم أطلقنا عنان المشي على الأقدام حتى رقينا طرفاً من هضبة حومل وبها نقرةٌ فيها ماءٌ كالزجاج الأزرق، ونحن نتأمل حال الملك الضليل ودياره وغدير بناته، وعلى مدِّ البصر كثبانُ كأنها كافور منثور، ودونها روضة كثوبٍ موشّى بألوان النواوير، بأرج رياحين الزهور، وقد توسطها غدير كعين الشمس ترقرقت فيه دموع السحائب. وتذكرت قول يونس الرصافي:

وكأنّ سوسَنَهُ مداهن فضّةٍ ... تحوي خلوقاً بالعبير مُطيّبا

وتخال نرجسه بها تِبْراً على ... قضب الزمردِ حين قام مركّبا

وكأن أعينه عيون خرائدٍ ... قد أبصرت يوم الندى مترقّبا

والورد تحسبه خدود كواعبٍ ... كادت من التوريد أن تتلهّبا

وكأنما الخيري خدٌّ عضَّهُ ... لَحْظٌ الحبيبِ صبابةً وتحبّبا

كذلك أبيات لحاجب أبي الحسن جعفر المصحفي وفيها تشبيهات عذبةٌ رائقة:

انظر إلى الروض الأريض تخاله ... كالوشي نمق أحسن التنميقِ

وكأنما السوسان صبٌّ مدنف ... لعبت يداه بجيبه المشقوقِ

يوم الوداع ومزقت أثوابه ... جزعاً عليه أيّما تمزيقِ

والنرجس الغض الذكي محاجر ... تعبت من التسهيد والتأريقِ

يحكي لنا لون المحب بلونه ... وإذا تنسّم نكهة المعشوقِ

وكأن دائرة الحديقة عندما ... جاد الغمام لها برشف الريقِ

فَلَكٌ من الياقوت يسطع نوره ... فيه كواكب جوهر وعقيقِ

     ثم قال صاحبي: يا رفيقي ما ترى في التربيعات والشعر العمودي؟ قلت: لئن كانوا يقولون: الرجز حمار الشعر، فالتربيعات بغلته، فهي أهون الشعر وليس فيها كبير مشقة، أما الشعر العمودي الحر  فهو لِفِرَاشِ النثر أما نسبته للشعر فأشبه به السفاح! لأنه يولد على فراش الشعر فلا وزن له ولا قافية، إنما هو السجع بعد الجُمَلِ، وهذا نثر محض حتى وإن كتبوه عمودياً فلا يغير من حاله شيئاً، وإني لست ضدّه من حيث الفن، فهو لطيف المأخذ والمسمع، وله رواده ومتذوقته، لكن يعزّ علي أن ينسب للشعر ما ليس منه، وهو ذريعة لهدم الأوزان والقوافي. ومن التربيعات قولي:

يا صاح ما هذا حسنْ   ...   تروي الصبابة بالعفنْ

ما هكذا يُرقى الشَّجنْ  ...   تُطفي اللظى زعموا بفنْ

يا صاح هذا الصبح لاحْ  ...   قم للمعالي وللفلاحْ

واغنم سويعات الصباحْ  ...  فالرزق يا هذا حَزَنْ

أَتُراكَ من عُشاقها   ...  أعني الدُّنا وفُتاتَها

ما بالهُم عُشَّاقها   ...  جزعوا إذا حُطَّ الكَفَنْ

إنّي أرى الدنيا صغيرةْ   ...   وهُنيهاتٍ  يسيرةْ

ونهاياتٌ مريرةْ   ...   فاغتنمها قبل أنْ!

قبل أن تسكُنَ لحْدَكْ   ...  وتوارى فيه وحدكْ

فاغتنم يا صاحِ عمركْ ...   آه ما أدهى الفتنْ!

يا بن الجزيرة مالكا؟   ...  أفخفتهم عُذَّالكا؟

أفرحتهم حُسَّادكا   ...   أذهبت من عيني الوسنْ

أنسيته الجبَّارا؟ ...   أوَقَدْ أَمِنتَ النَّارا؟

أوَما تخافُ العارا؟  ...  عُد يا حبيبي قبل أن!

    ثم قلت: هات من عندياتك أشعاراً وأخباراً مقولة أو منقولة: قال: على الرَّحب يا رحيب،  فمن ذلك قول البحتري:

إذا ارتفق المشتاقُ كان سهادُهُ   ...   أحقّ بجفني عينِه من هجوعهِ

   ولتميم بن المعز، وهذا أحلى أبياته وقد وقع فيه على فتحة القلب:

في وجهه شافعٌ يمحو إساءته   ...   من القلوب وجيهٌ حيثما شفعا

   ولأبي الشيص الخزاعي:

دموع العاشقين إذا تلاقوا   ...   بظهر الغيب ألسنة القلوبِ

    وقال كشاجم في خيال عجيب:

أيا نشوان من خمرٍ بفيهِ   ...   متى تصحو وريقك خندريسُ

أرى بك ما أراه بذي انتشاء   ...   ألحّ عليه بالكأس الجليسُ

تورد وجْنَةٍ وفتور لحْظٍ   ...   تُمرّضه وأطراف تميسُ

   ولعباس بن مرداس في الجسارة:

أكرّ على الكتيبة لا أُبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها

   وللطُّغُرُّائي وفيه رقَّةٌ ذائبة:

إني لأذكركم وقد بلغ الظما   ...   مني فأشرقُ بالزلال الباردِ

ولصقر قريش عبد الرحمن الداخل في تشبيه رائق ومعنىً بديع:

أيها الراكب الميمّم أرضي   ...   أقري السلام من بعضي لبعضي

فإن جسمي كما تراه بأرضٍ   ...   وفؤادي ومالكيه بأرضٍ

   ولحافظ إبراهيم من قصيدة الماتعة العمرية وبيت قصيدته:

قد كنتَ أعدى أعاديها فصرت لها   ...   بفضل ربك حصناً من أعاديها

  ولمعن بن أوس في جزالة فاخرة، وعزِّةٍ باذخة:

وفي الناس إن رثّتْ حبالُك واصلٌ   ...   وفي الأرض عن دار القلى متحوّلُ

إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته   ...   على طرف الهجران إن كان يعقلُ

ويركب حدّ السيف من أن تضيمُه   ...   إذا لم عن شفرة السيف مَزحلُ

إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد   ...   عليه بوجهٍ آخر الدهر تقبلُ

   وقال الإمام الشافعي أو الخواص:

إِذا نطقَ السفيهُ فلا تجبْهُ ... فخيرٌ من إِجابتِه السكوتُ

سَكَتُّ عن السفيهِ فظنَّ أني ... عييت الجوابِ وما عييتُ

فإِن كَلَّمْتهُ فَرَّجْتَ عنه ... وإِن خليته كمداً يموتُ

   وللمتنبي:

لولا العقول لكان أدنى ضيغمٍ   ...   أدنى إلى شرف من الإنسانِ

ولربّما طعن الفتى أقرانه  ...   بالرأي قبل تطاعن الأقرانِ

    ولزهير:

وذي خطل في القول يحسب انه   ...   مصيب فما يُلممْ به فهو قائلُه

عَبَأتُ له حلماً وأكرمتُ غيره   ...   وأعرضت عنه وهو بادٍ مقاتلُه

   ولله من قال:

سأترك ماءكم من غير وِرْدٍ   ...   وذاك لكثرة الورّاد فيهِ

اذا سقط الذبابُ على طعام   ...   رفعت يدي ونفسي تشتهيهِ

وتجتنب الأسودُ ورودَ ماءٍ   ...   إذا كان الكلاب ولغن فيهِ

   وللميداني في تشبيه أليم:

تنفّسَ صبحُ الشيب في ليل عارضي   ...   فقلت عساه يكتفي بعذاري

فلما فشا عاتبته فأجابني   ...   ألا هل يُرى صبحٌ بغير نهارِ

   ولكعب الطائي:

يُبَيِّنُ طرْفانا الذي في نفوسنا   ...   إذا استعجمت بالمنطق الشفتانِ

   وقال أبو تمام الطائي في تشبيهٍ أخّاذ:

كأن الغمام الغر غَيَّبْنَ تحتها   ...   حبيباً فما ترقى لهن مدامعُ

    أما الهجَّاءُ الحطيئةُ فله بيتين صالحين ذائعين على ألسنة الوعَّاظ، ولا يَدرِي الأكثرون أنهما له وهما:

ولست أرى السعادة جمع مال  ...  ولكن التقيّ هو السعيدُ

وتقوى الله خير الزاد ذخراً   ...   وعند الله للأتقى مزيدُ

   وقال أبو عمرو بن العلاء: أصدق بيت قالته العرب بيت الحطيئة:

من يفعل الخيرَ لا يُعدم جوازيَهُ   ...   لا يذهبُ العرف بين الله والناسِ

    وقال الحطيئةُ مفتخراً بالثبات عند الفزع والفرح والشهوة:

وإن جياد الخيل لا تستفزّنا   ...   ولا واضعات العاج فوق المعاصمِ

    ومعنى لا تستفزنا أي لا تخرجنا عن طورنا ورزانتنا.

    وللرائع جرير:

يكلفني رد العواقب بعدما   ...   سبقن كسبق السيف ما قال عاذلُهُ

    ولامرئ القيس الكندي في ألم وشدة ضنّى:

فلو أنها نفس تموت سويةً   ...  ولكنها نفسٌ تُساقطُ أنفساً

    وللحصين بن الحمام وقد بين حدبه على من حاربهم من قومهم وتأمل إنصافه:

يفلّقن هاماً من رجال أعزَّةٍ   ...   علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

نحاربهم نستودع البيض هامهم   ...   ويستودعونا السمهريّ المقوّما

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا   ...   ولكن على أقدامنا تُقطرُ الدِّما

    ولحسان في قومه الأنصار الغطاريف في تشبيه حسن:

يتطهرون كأنه نسك لهم   ...   بدماء من علقوا من الكفارِ

ورثوا السيادة كابراً عن كابر   ...   إن الكرام همُ بنو الأخيارِ

    ولكعب بن زهير بن أبي سلمى محذِّراً:

مقالة السوء إلى أهلها   ...   أسرع من منحدر سائلِ

ومن دعا الناس إلى ذمِّه   ...   ذموه بالحق وبالباطلِ

    وقال الرياشي في وصف المسوّف النادم، كما قالت العرب: أخزى الله الرأي الدَّبَرى، أي الرأي القوي الجيد لكن بعد فوات أوانه:

وعاجزُ الرأيِ مِضْياعٌ لفرصتِه ... حتى إِذا فاتَ أمرٌ عاتبَ القدرا

    وللبيد العامريّ:

واكذب النفس إذا حدَّثْتَهَا   ...  إنّ صدق النفس يزري بالأملِ

    وقال الفرزدق واصفاً طعنة:

يودّ لك الأدنون لو مُتَّ قبلها   ...   يرون بها شراً عليك من القتلِ

    وقال الكُمَيْتُ الأسدي في براعة هجاء ونضج تجربة، والعجيب أنّه واقعٌ في ما نهى عنه، فهو مبتدع شيعي! والأعجب أنه مخالِلٌ للطرماح الخارجي!:

لهم كل عام بدعة يحدثونها   ...   أزلوا بها أتْبَاعَهم ثم أوحلوا

كما ابتدع الرهبانُ ما لم يجىءْ به   ...   كتابٌ ولا وحي من الله منزلُ

     وللفحل الوحشي ذي الرِّمة العدوي التميمي واسمه غيلان بن عقبة، وهو وإن كان معاصراً لشعراء الأمويين إلا أن طابع الشعر الجاهلي مختوم في قصائده، وهو من شعراء البادية. لذا فقد قال بعض النقاد الأقدمين: فُتح الشعر بامرئ القيس، وخُتم بذي الرمة.

     قلت: لقد غلب ذو الرمَّة فحْلَي تميم _الفرزدق وجرير_ وفحْلَي طيّء أبا تمام والبحتري_ لولا تأخره عنهم في الهجاء والمديح، أما الوصف والتشبيه فقد علاهما. وقد اشتهر ببائيته ولو تقدّم زمنه لعدوها معلّقة ومطلعها:

ما بال عينك منها الماء ينسكبُ   ...   كأنّه من كُلى مفريّةٍ سلبُ

    أما بائيةُ ذي الرمّة المذكورة فهي وصف البادية ومرابعها وفتياتها وصيدها ومياهها وكثبانها وهي كالصورة الشمسية وصفٌ دقيق خالٍ من عاطفة، ومنها:

ما بالُ عَينِكَ مِنها الماءُ يَنْسَكِبُ ... كَأَنّه من كُلى مَفْرِيّةٍ سَرَبُ

أَستحدثَ الركبُ عَنْ أشياعِهِمْ خبراً ... أَمْ رَاجَعَ القلْبَ من أَطْرَابِهِ طَرَبُ

مِن دِمْنَةٍ نَسَفت عَنْهَأ الصَّبا سُفَعاً ... كما يُنَشَّرُ بَعْدَ الطِيَّةِ الكُتُبُ

سَيْلاً مِنَ الدعْصِ أَغْشَته مَعَارِفَها ... نَكْبَاءُ تَسْحَبُ أَعْلاَهُ فَيَنْسَحِبُ

لاَ بَلْ هُوَ الشّوْقُ مِنْ دارٍ تَخَوّنَها ... مَرّاً سَحابٌُ ومَرّاً بَارِحٌ تَرِبُ

بِبُرْقَةِ الثّوْرُ لم تَطْمِسْ معالِمَها ... دَوارِجُ المُور والأمطارُ والحِقَبُ

يَبْدُو لِعَيْنَيْكَ منها وَهِيَ مُزمِنةٌ ... نُؤيٌ ومُسْتَوْقَدٌ بالٍن ومُحْتَطَبُ

إلى لوائحَ من أَطلالِ أَحْوِيةٍ ... كَأَنّها خِلَلٌ مَوْشِيّةٌ قُشُبُ

دَارٌ لِمَيّةَ إذْ مَيٌّ تُسَاعِفُنَا ... ولا يَرَى مِثْلَها عُجْمٌ ولا عَرَبُ

عَجْزَاءُ مَمْكُورَةٌ خُمْصَانةٌ قَلِقٌ ... منها الوِشَاحُ وَتَمّ الجِسْمُ وَالقَصَبُ

زَينُ الثّيَابِ وَإنْ أَثْوَابُها اسْتُلِبَتْ ... على الحَشيّةِ يوماً زانَها السّلَبُ

بَرّاقَهُ الجِيدِ وَاللَّبّاتُ واضِحَةٌ ... كَأَنّها ظَبْيَةٌ أَفْضَى بِهَا لَبَبُ

بَيْنَ النهار وبينَ اللّيلِ من عَقَدٍ ... على جوانِبِهِ الأسباطُ والهَدَبُ

لَمْيَاءُ في شَفَتَيْها حُوّةٌ لَعَسٌ ... وَفي اللِّثاتِ وفي أنيابها شَنَبُ

كحْلاءُ في دَعَجٍ صَفْراءُ في بَرَجٍ ... كَأَنّها فِضّةٌ قد شَابَها ذَهَبُ

تُريكَ سُنّةَ وَجْهٍ غَيرَ مُقرِفةٍ ... مَلْساءَ لَيْسَ بها خالٌ ولا نَدَبُ

تَزْدَادُ في العينِ إبهاجاً إذا سَفَرَتْ ... وَتَحْرَجُ العينُ فيها حِينَ تَنْتَقِب

والقِرْطُ في حُرّةِ الذِّفرَى مُعَلَّقَةٌ ... تَبَاعَدَ الحبل فيه فهو يضْطَرِبُ

إذا أخو لَذّةِ الدّنْيا تَبَطّنَهَا ... وَالبَيْتُ فَوْقهما باللّيلِ مُحْتَجَبُ

سافَتْ بطيّبَةِ العِرْنِينِ مارِنُهَا ... بالمِسْكِ وَالعَنْبَرِ الهِنْدِيّ مُخْتَضَبُ

تِلْكَ الفتاةُ التي عُلّقْتُها عَرَضاً ... إنّ الكريمَ وذا الإِسلامِ يُخْتَلَبُ

لَياليَ الدّهْرُ يَطْبِيني، فأَتْبَعُه ... كأنّني ضاربٌ في غَمْرَةٍ لَعِبُ

لا أَحْسَبُ الدهْرَ يُبلي جِدّةً أَبَداً ... ولا تُقَسِّمُ شَعْباً واحِداً شُعَبُ

زارَ الخيالُ لِمَيٍّ هاجعاً لَعِبَتْ ... به المَفاوِزُ والمَهرِيّةُ النُّجُبُ

مُعرِّساً في بَيَاضِ الصّبْحِ وَقْعَتُهُ ... وَسَائِرُ اللّيْلِ إلاّ ذَاكَ مُنْجَذِبُ

أَخَا تَنَائِفَ أَغْفى عِنْدَ سَاهِمَةٍ ... بِأَحْلَقَ الدّفّ من تَصْدِيرِهَا جَلَبُ

تشكو الخَشاشَ ومجْرى النّسعتَينِ كما ... أنّ المريضَ إلى عُوّادِهِ الوَصَبُ

كَأَنّها جَمَلٌ وَهْمٌ وما بَقِيَتْ ... إلاّ النّحيزَةُ والألواحُ والعَصَبُ

لاَ يَشْتَكي سقطةً منها وإن رَقَصَتْ ... بِهَا المعاطسُ حتى ظهْرُها حَدِبُ

كَأَنّ راكِبَها يَهْوي بِمُنْخَرِقٍ ... مِنَ الجَنُوبِ إذا ما صَحَبُه شَحَبوا

تُصْغي إذا شدّهَا بالكُور جانِحَةً ... حتى إذا ما اسْتَوى في غَرْزِهَا تَثِبُ

وَبِالشَمَائِلِ من جَلاَّنَ مُقْتنِصٌ ... رثُّ الثيابِ خَفِيُّالشخص مُنْزَرِبُ

يَسْعَى بِزُرْقٍ هَدَتْ قُضْباً مُصَدَّرةً ... مُلسَ البطونِ حَدَاها الرّيشُ والعَقَبُ

كَانَتْ إذا وَدَقَتْ أَمْثَالُهنّ له ... فَبَعْضُهُنّ عَنِ الآلاف مُنْشَعِبُ

حَتّى إذا لَحِقَتْ أَهْضَامَ مَوْرِدِهَا ... تَغَيّبَتْ رَابَها منْ خِيفَةٍ رِيَبُ

فَعَرّضَتْ طَلَقاً أَعْنَاقَها فَرَقاً ... ثُمّ اطَّبَاها خَرِيرُ الماءِ يَنْسَكِبُ

فَأَقْبَلَ الحُقْبُ والأكبادُ ناشِزَةٌ ... فَوقَ الشّراسيفِ من أَحشائها تَجبُ

حَتّى إذا زَلَجَتْ عن كلّ حَنْجَرةٍ ... إلى الغَلِيلِ وَلَمْ يَقْصَعْنَه نُغَبُ

رَمى فأَخطَأَ والأقْدَارُ غَالِبَةٌ ... فَأنْصَعْنَ والوَيْلُ هِجّيراهُ والحَرَبُ

يَقَعْنَ بِالسّفْحِ مما قد رَأَيْنَ بهِ ... وَقعاً يَكادُ من الإِلهابِ يَلْتَهِبُ

كأَنّهُنّ خَوافي أَجْدَلٍ قَرمٍ ... وَلّى ليسبقَهُ بالأمعَزِ الخَرَبُ

أَذَاكَ أَمْ نَمِشٌ بِالوَشي أَكْرُعُهُ ... مُسَفَّعُ الخدِّ عارٍ ناشطٌ شَبَبُ

تَقَيّظَ الرّمْلَ حَتّى هَزَّ خِلْفَتَهُ ... تَرَوَّحُ البردِ ما في عَيْشِهِ رَتَبُ

رَبْلاً وَأَرطَى نَفَتْ عَنْهُ ذَوَائِبُهُ ... كَواكِبَ القَيْظِ حتى ماتَتِ الشُّهُبُ

أَمْسىَ بِوَهْبِينَ مجتازاً لِمَرْتَعِهِ ... مِنْ ذي الفوارِسِ تَدْعُو أَنْفَهُ الرِّبَبُ

حتى إذا جَعَلْتَهْ بين أَظْهُرِها ... مِنْ عُجْمةِ الرملِ أَثْباجٌ لها خِبَبُ

ضَمّ الظَّلامُ على الوحشيّ شَمْلَتَهُ ... ورائحٌ من نِشاصِ الدّلوِ مُنْسَكِبُ

وَبَاتَ ضَيْفاً إلى أرطاةِ مُرتَكِمٍ ... مِنَ الكَثيبِ لها دَفٌّ وَمُرْتَقَبُ

مَيْلاَءَ مِنْ مَعْدِنِ الصِّيرانِ قَاصِيَةٍ ... أَبْعَارُهُنّ على أَهْدافِها كُثَبُ

وحَائِلٌ مِنْ سَفِيرِ الحَوْلَ حَائِلةٌ ... حَوْلَ الجراثِيم في أَلْوَانِهِ شَهَبُ

كَأَنّما نَفَضُ الأحْمَالِ ذَاوِيةٌ ... عَلَى جَوَانِبِها الفِرْصَادُ والعِنَبُ

كَأَنّها بَيْتُ عَطّارٍ تضَمّنَهُ ... لَطَائِمَ المِسْكِ، يَحْويها وَيَنْتَهِبُ

إذا اسْتَهَلّتْ عليهِ غَبيةً أَرِجَتْ ... مرابضُ العين حتى تَأَرَجَ الخَشَبُ

وَالوَدَقُ يَسْتَنُّ في أَعْلَى طَرِيقَتِهِ ... حولَ الجُمَانِ جَرَى في سِلكه النُّقَبُ

يغشى الكِناسَ بِرَوْقَيْهِ وَيَهْدِمُه ... من هائلِ الرّملِ مُنْقَاضٌ وَمُنْكَثِبُ

إذا أراد انْكِراساً فيه عَنَّ له ... دونَ الأرومةِ من أَطْنَابِها طُنُبُ

حَتى إذا ما انجلى عن وَجْهِهِ فَرَقٌ ... هَادِيهِ في أُخْرياتِ اللّيلِ مُنْتَصِبُ

أَغْبَاشُ ليلٍ تمامٍ كان طَارِقَه ... تَطخْطُخُ الغَيْبِ حتى ما لَهُ جُوَبُ

غدا كَأَنّ به جنّاً تذاؤُبُهُ ... مِنْ كلّ أَقْطَارِهش يُخْشى وَيُرتَقَبُ

حتى إذا ما لها بالجَدْرِ واتّخَذَتْ ... شمس الذُّرورِ شُعاعاً بَيْنَهُ قُبَبُ

وَلاَحَ أَزْهَرُ مَعْروفٌ بِنُقْبَتِهِ ... كَأَنّه حين يعلو عاقراً لَهَبُ

هَاجَتْ بِهِ جُوَّعٌ زُرْقٌ مُخَصَّةٌ ... شَوازِبُ لاحَها التّقرِيبُ والخَبَبُ

غُضْفٌ مُهْرّتهُ الأشْدَاقِ ضَارِيَةٌ ... مِثْلُ السّراحِينِ في أَعْنَاقها العَذَبُ

وَمُطْعَمُ الصّيدِ هَبّالٌ لبُغْيَتِهِ ... ألفى أباه لذاكَ الكَسْبِ يكتسب

كَأنّهُ كَوْكَبٌ في إثرِ عِفْريَةٍ ... مُسَوَّمٌ في سَوَادِ الليلِ مُنْقَضِبُ

فَهُنّ مِنْ واطيءٍ ثِنْيَي حَوِيَّتِهِ ... وَنَاشِجٍ وَعَواصي الجَوْفِ تَنْشَخِبُ

أذاك أَمْ خاضِبٌ بالسِّيّ مَرْتَعُهُ ... أَبو ثلاثينَ أمسى وهو مُنْقَلِبُ

شَخْتُ الجُزارةِ مِثْلُ البيتِ سائرهُ ... مِنْ المُسُوحِ خِدَبٌّ شَوْقَبٌ خَشِبُ

كَأَنَّ رِجْلَيْهِ مِسماكانِ من عُشَرٍ ... صَقْبَانِ لم يتقشّرْ عَنْهُما النَّجَبُ

أَلْهَاهُ آءٌ وَتَنُّومٌ وَعُقْبَتُهُ ... من لائحِ المَروِ والمرعى له عُقَبُ

فَظَلّ مُخْتَضِعاً يَبْدو فَنُنْكِره ... حيناً وَيَزْمُرُ أحياناً فَيُنْتَسَبُ

كَأَنّهُ حَبَشيٌّ في خَمَائِلِهِ ... أَوْ مِنْ مَعَاشِرَ في آذانها الخُرَبُ

أَضَلَّهُ راعيا كَلْبِيّةٍ غَفَلا ... عَنْ صادرٍ مُطلِبٍ قُطْعَانُهُ عُصَبُ

فَأَصْبَحَ البَكْرُ فرداً من صَواحِبِهِ ... يَرْتادُ أَحليِةً أَعْجَازُها شَذَبُ

كلٌّ منَ المَنْظَرِ الأعلى لَهُ شَبَهٌ ... هذا وهذانِ قَدُّ الجِسْمِ وَالنُّقَبُ

حَتّى إذا الهِيقُ أَمْسى سامَ أَفْرُخَهُ ... وَهُنّ لا مُؤيِسٌ منه ولا كَثَبُ

يَرْقَدُّ في ظلّ عَرَّاصٍ ويلفحُهُ ... حَفِيفُ نَافِحَةٍ عُثْنُونُها حَصَبُ

تبري لَهُ صَعْلَةٌ أَدْماءُ خَاضِعَةٌ ... فَالخَرْقُ بَيْنَ بناتِ القَفْرِ مُنْتَهَبُ

كَأَنّه دَلْوُ بِئْرٍ جَدّ مَائِحُها ... حتى إذا ما رآها خانَهُ الكَرَبُ

فَرَوَّحا رَوْحَةً وَالرِيحُ عَاصِفَةٌ ... والغَيْثُ مُرْتَجزٌ واللّيلُ مُرْتَقَبُ

لاَ يَذْخَران من الإِيغالِ باقيةً ... حَتى تكادُ تَفَرّى منهما الأَهَبُ

فَكلّما هَبَطا، في شأوِ شوطِهما ... مِنَ الأماكنِ مفْعولٌ بِهِ العَجَبُ

لا يَأمَنانِ سِباعَ اللّيل أو يَرِدا ... إن أهبَطا دون أطلاءٍ لَهَا لَجَبُ

كَأَنّما فُلِقَتْ عَنْهَا بِبَلْقَعَةٍ ... جَمَاجِمٌ يُبَّسٌ أَو حَنْظَلٌ خَرِبُ

مِمّا تَقَيَّضَ عَنْ عُوجٍ مُعَطَّفَةٍ ... كَأَنّها شَامِلٌ أَبْشَارَها جَرَبُ

جَاءَتْ مِنَ البَيْضِ زُعراً لا لِبَاسَ لها ... إلاّ الدَّهاسُ وَأُمٌّ بَرَّةٌ وأَبُ

أَشْدَاقُهَا كَصُدُوع النّبْعِ في قُلَلٍ ... مِثْلِ الدَّحارِيجِ لَمْ يَنْبُتْ لها زَغَبُ

كَأَنّ أَعْنَاقَها كُرَّاثُ سَائِفَةٍ ... طَارَتْ لَفَائِفُهُ أَوْ هَيشَرٌ سُلُبُ

     والكلى: جمع كلية، وهي رقعة تكون في أصل عروة المزادة. و المفرية : المقطوعة المخروزة. وقال جرير: ما تمنيت من شعر ذي الرمّة إلا قصيدته: ما بال عينك..فإن شيطانه كان له فيها ناصحاً!

   وهذه الشيطنة هي من خرافات العرب، فقد كانوا يظنون أن للشاعر رئياً من الجن يلقِّنه القصائد. وكان الشاعر إذا أراد الهجاء لبس حُلَّةً خاصة، ولعلّها كحلل الكهان، وحلق رأسه وترك له ذؤابتين ودهن أحد شقي رأسه وانتعل نعلًا واحدة استحضاراً للجانّ! وقد ادَّعى بعض فحول الشعراء أنه له رئياً يلقي الشعر على فيه، ولكل رئي اسم معروف، ومن ذلك مسحل شيطان الأعشى وفيه يقول:

دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له ... جهنام جدعاً للهجين المذمّمِ

    وذكروا أن خال مسحل هميم شيطان الفرزدق! وقد قال عمرو بن كلثوم:

إني وإن كنت صغيراً سني ... فإن شيطاني كبير الجنِّ

    ومن طرائفهم أن أبا النجم الفضل بن قدامة العجلي راجز العَجَّاجَ يوماً في المربد، فخرج العجّاج على ناقةٍ له كوماء، وعليه ثياب حسان، وخرج أبو النجم على جملٍ مهنوءٍ _أي مطلي بقطران_ وعليه عباءةٌ، فأنشد العجاج أرجوزته: قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإِلَهُ فجَبَرْ، فأجابه أبو النجم: تَذَكَّرَ القَلْبُ وجَهْلاً ما ذَكَرْ..حتى إذا بلغ إلى قوله:

إِنِّي وكُلُّ شَاعِرٍ مِنَ البَشَرْ ... شَيْطَانُهُ أُنْثَى وشَيْطَاني ذَكَرْ

فما رَآني شاعِرٌ إِلاَّ اسْتَتَرْ ... فِعْلَ نُجُومِ اللَّيلِ عايَنَّ القَمَرْ

    فلما فرغ من إنشاده حمل جمله على ناقة العجاج يريدها! فضحك الناس وانصرفوا وهم ينشدون قوله: شَيْطَانُهُ أُنْثَى وشَيْطَاني ذَكَرْ!

    وأنشد أبو النجم هشام بن عبد الملك أرجوزته التي أولها:

الحَمْدُ للهِ الوَهُوبِ المُجْزِلِ  ... أعطَى فَلَمْ يَبْخَلْ ولم يُبَخِّلِ

وهي أجود أرجوزةٍ للعرب، وهشام يصفق بيديه من استحسانه لها، فلما بلغ قوله في الشمس:

حَتَّى إِذا الشَّمْسُ جَلاَها المُجْتَلى ... بَيْنَ سِمَاطَيْ شفَقٍ مُرَعْبَلِ

صَغْوَاءَ قد كادَتْ ولَمَّا تَفْعَلِ ... فَهِيَ على الأُفْق كَعَيْنِ الأَحْوَلِ

أَمَرَ هشامٌ بوجءِ رقبته وإخراجه، إذ ظنّ أنه يعرِّض به.

        وهناك من الشعراء من أشهرته قصيدة واحدة، ولولا أن الله أجراها على ألسنة الركبان لخمل ذكره، كأبي البقاء الرّندي في بكائيته ذائعة الصيت، التي تتجدد مع لوعات المسلمات وصراخ العفيفات من أسنان أهل الصليب، وقد قالها حَدَباً على أهل الإسلام، ورثاءً للأندلس، وما أشبه الليلة بالبارحة!:

لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ   ...   فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ

هي الأمورُ كما شاهدتها دُولٌ   ...   مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ

وهذه الدار لا تُبقي على أحد   ...   ولا يدوم على حالٍ لها شانُ

يُمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ   ...   إذا نبت مشْرفيّاتٌ وخُرصانُ

وينتضي كلّ سيف للفناء ولوْ   ...   كان ابنَ ذي يزَن والغمدَ غُمدان

أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ ...   وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ

وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ  ...   وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ

وأين ما حازه قارون من ذهب  ...  وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ

أتى على الكُل أمر لا مَرد له  ...   حتى قَضَوا فكأن القوم ما كانوا

وصار ما كان من مُلك ومن مَلِك  ...  كما حكى عن خيال الطّيفِ وسْنانُ

دارَ الزّمانُ على دارا وقاتِلِه  ...   وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ

كأنما الصَّعب لم يسْهُل له سببُ  ...   يومًا ولا مَلكَ الدُنيا سُليمانُ

فجائعُ الدهر أنواعٌ مُنوَّعة   ...   وللزمان مسرّاتٌ وأحزانُ

وللحوادث سُلوان يسهلها  ...   وما لما حلّ بالإسلام سُلوانُ

دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاءَ له  ...   هوى له أُحدٌ وانهدَّ ثهلانُ

أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ   ...  حتى خَلت منه أقطارٌ وبُلدانُ

فاسأل بلنسيةً ما شأنُ مُرسيةً  ...   وأينَ شاطبةٌ أمْ أينَ جَيَّانُ

وأين قُرطبةٌ دارُ العلوم فكم   ..   من عالمٍ قد سما فيها له شانُ

وأين حمصُ وما تحويه من نزهٍ  ...   ونهرهُا العَذبُ فياضٌ وملآنُ

قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما   ...   عسى البقاءُ إذا لم تبقَ أركانُ

تبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ   ...  كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ

على ديار من الإسلام خالية   ...   قد أقفرت ولها بالكفر عُمرانُ

حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما  ...  فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصُلبانُ

حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ  ...  حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ

يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ  ...  إن كنت في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ

وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ  ...  أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ

تلك المصيبةُ أنستْ ما تقدمها  ...  وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ

يا راكبين عتاق الخيلِ ضامرةً  ...  كأنها في مجال السبقِ عقبانُ

وحاملين سيُوفَ الهندِ مرهفةُ  ...   كأنها في ظلام النقع نيرانُ

وراتعين وراء البحر في دعةٍ  ...  لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ

أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ  ...  فقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم  ...  قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ

ماذا التقاُطع في الإسلام بينكمُ  ...  وأنتمْ يا عبادَ الله إخوانُ

ألا نفوسٌ أبَّاتٌ لها هممٌ  ...  أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ

يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهمُ  ...   أحال حالهمْ جورُ وطُغيانُ

بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم  ...  واليومَ هم في بلاد الكفرِّ عُبدانُ

فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ  ...  عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ

ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ  ...  لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ

يا ربَّ أمّ وطفلٍ حيلَ بينهما  ...  كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ

وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت  ...  كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ

يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً  ...  والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ

لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ  ...  إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ

     والآن يا صاحبي فلنُلِمّ ببديع النثر وقويمه، فمن ذلك ما حدّث به الأصمعي قال: اجتزت ببعض أحياء العرب، فرأيت صبية معها قربةٌ فيها ماءٌ وقد انحلّ وكاء فمها. فقالت: يا عمّ، أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها. فأعَنْتُهَا وأنا أتعجب كيف جمعت العربية في ثلاث! ثم قلت: يا جارية، ما أفصحك ! فقالت يا عمّ، وهل ترك القرآن لأحدٍ فصاحةً؟ وفيه آيةٌ فيها خبران وأمران ونهيان وبشارتان، قلت: وما هي؟ قالت: قوله تبارك وتعالى: " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين" قال: فرجعت بفائدةٍ، وكأنّ تلك الآية ما مرّت بمسامعي.

     ثم تأمل فصاحة أعرابية أخرى، فقد ذكروا أن رجلاً من الأعراب ضرير البصر قال لابنته، وهي تقوده في المرعى: يا بنية انظري كيف ترين السماء؟ قالت كأنها قرون المعزى. قال: ارعي. فرعت ساعة، فقال: انظري كيف ترين السماء؟ قالت كأنها خيل دهم تجرّ جلالها. قال:ارعي. فرعت ساعة ثم قال: انظري كيف ترين السماء؟ قالت: كأن الرّباب نعام تعلّق بالأرجاء من السماء، قال: ارعي. ثم قال: انظري كيف ترين السماء؟ قالت: ابيضت واسودت ودنت، فكأنها عينُ نفسٍ تطرف. قال: انجي ولا أراك ناجية!

     وكان عمرو بن حجر ملك كندة، وهو جد امرئ القيس، أراد أن يتزوج ابنة عوف من محلم الشيباني الذي يقال فيه: لا حر بوادي عوف؛ لإفراط عزه. وهي أم إياس، وكانت ذات جمال وكمال. فوجه إليها امرأة يقال لها عصام، ذات عقل وبيان وأدب لتنظر إليها، وتمتحن ما بلغه عنها. فدخلت على أمها أمامة بنت الحارث، فأعلمتها ما قدمت له. فأرسلت إلى ابنتها: أي بنية، هذه خالتك، أتت إليك لتنظر إلى بعض شأنك، فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه من وجه وخلق، وناطقيها فيما استنطقتك فيه. فدخلت عصام عليها، فنظرت إلى ما لم تر عينها مثله قط، بهجةً وحسناً وجمالاً. فإذا هي أكمل الناس عقلاً، وأفصحهم لساناً. فخرجت من عندها وهي تقول: ترك الخداع من كشف القناع. فذهبت مثلا. ثم أقبلت إلى الحارث، فقال لها: ما وراءك يا عصام؟ فأرسلها مثلاً. قالت: صرح المخض عن الزبدة. فذهبت مثلاً. قال: أخبريني، قالت: أخبرك صدقاً وحقاً، رأيت جبهةً كالمرآة الصقيلة، يزينها شعر حالك كأذناب الخيل المضفورة، إن أرسلته خلته السلاسل، وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلاه الوابل، ومع ذلك حاجبان كأنهما خطا بقلم، أو سودا بحمم، قد تقوسا على مثل عين العبهرة التي لم يرعها قانص ولم يذعرها قسورة، بينهما أنف كحد السيف المصقول، لم يخنس به قصر، ولم يمعن به طول، حفت به وجنتان كالأرجوان، في بياض محض كالجمان، شق فيه فم كالخاتم، لذيذ المبتسم، فيه ثنايا غر، ذوات أشر، وأسنان تعد كالدر، وريق تنم إليك منه ريح الخمر، أم نشر الروض بالسحر، يتقلب فيه لسان ذو فصاحة وبيان، يقلبه عقل وافر، وجواب حاضر، يلتقي دونه شفتان حمراوان كالورد، يحلبان ريقاً كالشهد، تحت ذاك عنق كإبريق الفضة، ركب في صدر تمثال دمية، يتصل به عضدان ممتلئان لحماًًمكتنزان شحماً، وذراعان ليس فيهما عظم يحس، ولا عرق يجس، ركبت فيهما كفّان رقيقٌ قصبهما ليّنٌ عصبهما، تعقد إن شئت منها الأنامل، وتركب الفصوص في حفر المفاصل، وقد تربع في صدرها حُقّان كأنهما رمانتان. من تحت ذلك بطن طوي كطي القباطي المدمجة، كسي عُكَنًا كالقراطيس المدرجة. تحيط تلك العكن بِسُرَّةٍ كمدهن العاج المجلو، خلف ظهرٍ كالجدول ينتهي إلى خصر لولا رحمة الله لانخزل، تحته كفل يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت، كأنه دعص رمل، لبده سقوط الطل، يحمله فخذان لفّاوان كأنهما نضيد الجمّار، تحملهما ساقان خُدُلُجَتَانِ كالبردى، ويحمل ذلك قدمان كحدّ السِّنان تبارك الله في صغرهما كيف تطيقان حمل ما فوقهما، فأما سوى ذلك فتركتُ أن أصفه، غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر. قال: فأرسل إلى أبيها يخطبها فزوجه إياها.

     لقد كان العرب ملوك أعنّةِ الفصاحة، وهم من فتقوا بديع البلاغة شعراً وخطابة، ولم تجارهم في ذلك أُمَّة، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم التميمي عن الزبرقان بن بدر فقال: إنه لمانعٌ في حوزته، مطاع في أدنيه. فقال الزبرقان: يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر مما قال، ولكنه حسدني في شرفي فقصَّر بي. فقال عمرو: أنا أحسدك، أما وقد قال ما قال؛ فهو والله زَمِرُ المروءة، ضيِّقُ العَطَن، لئيمُ الخال، حديث الغنى. فلما رأى الإنكار في عين النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ رضيتُ فقلتُ أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبتُ في الأولى، ولقد صدقتُ في الآخرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً" رواه الحاكم، واتفق الشيخان على آخره.

     ومن نسل ابن الأهتم خالد بن صفوان بن الأهتم بليغ دولة بني أمية، ولم يُحفظ له لفظٌ مولّد، ومن درر كلامه: نظرت في أمري فوجدت الذي منعنيه القدرُ _أي بأمر الله_ لا سائق له، ووجدت الذي أعطانيه لا حابس له، فعلام أُعنّي نفسي؟!

    وقال أيضاً: بِتُّ ليلتي كلّها أتمنّى، فكسيت البحر الأخضر بالذهب الأحمر، فإذا الذي يكفيني من ذلك رغيفان وكوزان وطمران!

    وقال: احترزوا من العين، فإنها أنمُّ من اللسان. وقال: ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة. ومن حِكَمِه: من لم بين له سبب دائه، كثرت ألوان دوائه.

    وذكر عنده المزاح فقال: يصكُّ أحدكم قفا أخيه بأصلب من الجندل، ويُنْشِقه أحرّ من الخردل، ويُفرغ عليه أحرّ من المِرْجَل، ثم يقول: أنا أمازحك!

    وقال في وصف النخل: هن الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، تخرج أسفاطاً عظاماً وأوساطاً، كما ملئت رياطاً، ثم تتفرى عن قضبان اللجين منظومة باللؤلؤ الأبيض، وتصير ذهباً أحمر منظوماً بالزبرجد الأخضر، ثم تصير عسلاً في نحاء، معلقاً بالهواء، ليس في مسك ولا سقاء، بعيداً من التراب، لا يقربه الذباب، دونه الحراب، ثم يصير ورقاً في كيس الرجال، يستعان به على العيال.

    وقد كان خالد بن صفوان من سمار أبي العباس، ففخر ناس من اليمانيّة وأكثروا، فقال أبو العباس: لم لا تتكلم يا خالد؟ قال: أخوال أمير المؤمنين وأهله؛ قال: فأنتم أعمام المؤمنين وعصبته، فقال خالد: ما عسى أن أقول لقوم كانوا بين ناسج برد، وقائد قرد، ودابغ جلد، دل عليهم هدهد، وغرقتهم فأرة، وملكتهم امرأة.

    ودخل خالد الحمّام وفيه رجل مع ابنه، فأراد أن يعرّف خالداً ببلاغته فقال لابنه: يا بني، ابدأ بيداك وثن برجلاك، ثم التَفَتَ إلى خالد وقال: يا ابن صفوان، هذا كلام قد ذهب أهله، فقال خالد: هذا كلام ما خلق الله له أهلاً!

    وتكلم أبو حاضر الأسيدي في وجوه أهل البصرة بين يدي ابن الزبير رضي الله عنه، فقال له: اسكت، فو الله لوددت أن لي بكل عشرة من العراق رجلاً من أهل الشام صرف الدينار بالدرهم! فقال: يا أمير المؤمنين، إن لنا ولك مثلاً أفتأذن في ذكره. قال: نعم. قال: مثلُنا ومثلُك ومثلُ أهل الشام قولُ الأعشى:

عُلّقتُها عَرَضا وعُلِّقتْ رجلاً   ...   غيري وعُلِّقَ أخرى غيرَها الرجلُ

أحبك أهل العراق، وأحببت أهل الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك بن مروان!

    ومن بديع الكتب السلطانية؛ أنه لما بايع الناس يزيد بن الوليد، وأتاه الخبر عن مروان بن محمد ببعض التلكؤ؛ كتب إليه: أما بعد، فإني أراك تُقَدِّم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت، والسلام.

    وكتب آخر متوعِّداً وهذا من الإيجاز المروّع: عما قليل تجني ثمرة ما جنيت، والسلام عليك، تسليم سُنَّةٍ لا تسليم رضا.

     وقال زياد بن أبيه_وهو من عجائب الناس في الفصاحة والحزم_: ما قرأت كتاب رجل قط إلا عرفت عقله فيه.

     وكتب الحجاج إلى المهلب في حرب الأزارقة فأسمعه قارص الكلام، فردّ المُهَلَّبُ: إن البلاء، كلّ البلاء؛ أن يكون الرأي عند من يملكه دون من يبصره. وبنو المهلب عند بني أمية كالبرامكة عند بني العباس.

    وهذا يذكرنا بما نقله الجاحظ عن بعضهم في بيانه: المعاني إذا كُسيت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرفيعة؛ تحوّلت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما زُيِّنَتْ، وعلى حسب ما زُخرفت.

    ولما نظر النعمان بن المنذر إلى دمامة وقِلّة ضمرة بن ضمرة قال ساخراً: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فقال: أبيتَ اللعن، إن الرجال لا تُكال بالقُفْزَان، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فينطق ببيان ويصول بجنان.

    وكتب الحسن لعمر بن عبد العزيز: أما بعد، فكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل، والسلام. وصدق رحمه الله في هذا الإيجاز والإعجاز، ولا جرم فعقل المرء مدفون بلسانه.

    وكثير من المبتدعة إنما صالت عليهم الشبهات من قبل ضعفهم في العربيّة، فلا تستغرب إذن حِرْصَ الأئمة على تعليمها الناس. قال الحسن عن سبب ابتداع كثير من الناس في زمنه: انما أُتوا من العُجْمَةِ. وقال النحوي: أكثر زندقة أهل العراق بسبب العجمة. وقال أبوعمر بن العلاء لعمرو بن عبيد وقد احتج الأخير بآية وعيدٍ في إنفاذ الوعد: من العجمة أُتيتَ، ألم تسمع قول الشاعر:

وإنِّيَ إن أوعدتُهُ أو وَعَدْتُهُ   ...   لمُخْلِف إيعَادِي ومُنْجز موعِدِي

    وأكثر علماء اللغة سنة ليسوا مبتدعة وخَطَل من قرّر غير ذلك.

    وقال الفضل بن سهل الفارسي ذو الرياستين _وكان يتقلد بسيفين أحدهما أحمر الجفر مكتوب عليه رياسة الحرب والآخر أسود الجفر مكتوب عليه رياسة التدبير ولهذا سمى ذو الرياستين_ وهو من وزراء المأمون وجلسائه: الرأي يسدّ ثلم السيف، والسيف لا يسد ثلم الرأي.

    وقال الحسن بن سهل وزير المأمون وجليسه ولقب بذي الرياستين كأخيه الفضل: كُتب الشفاعات زكاة الجاه. وقال أيضاً: ما زلت أدخل فيما يرغب بي عنه حتى استغنيت عمّا يرغب لي فيه. وقال: من ثقل نفسه عليك وغمك بسؤاله فأعره أذناً صماء وعيناً عمياء. وقال: يجب على كلّ مبتدئ مقالةً أن يبتدئَ بحمدِ اللّه قبل استفتاحها، كما بُدئ بالنعمة قبل استحقاقها.

    وقال أيضاً: ثلاثةُ عقلاء يعودون إلى أجَنّ المجانين؛ الغضبان، والغيران، والسكران. فقال له أبو عبدان: ما تقول في المُنْعِظ؟ فضحك حتى استلقى وقال:

وما شرُّ الثلاثة أمّ عمرو   ...   بصاحبك الذي لا تُصبِحِينا

    ومن الأدباء الوزراء لبني العباس محمد بن عبد الملك الزيات وله كتابات وتوقيعات عالية البلاغة والإيجاز.

    وقال أبو الأسود الدؤلي: إذا أردت أن تعظُم فَمُت! وصدق رحمه الله، فالنفوس لا تُحْضَرُ الشّحّ والحسد للأموات، وكم خاملٍ في حياته، قد رفعهُ مماتُه!

    ومهما بسطنا فما من عربي أفصح وأبلغ من رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه.

    ومن خطبة زياد بن أبي سفيان البتراء لأهل البصرة وقد كثر فيهم الفسق _والبتراء هي التي لم تبتدأ بالحمد أما الشوهاء فهي الخالية من القرآن_ قال: وإني اقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالضاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، حتى يلقى الرجلُ منكم أخاه فيقول: انج سعدُ فقد هلك سعيد، وإيّايَ ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة؛ فمن غرّق قوماً غرّقناه، ومن أحرق قوماً أحرقناه، ومن نقب بيتاً نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبراً دفناه حياً فيه!

    فارتاع الناس لمقوله وفزعوا، ورب قولٍ أنفذ من صولٍ. وقد ساسهم زياد بهذه السياسة قولاً وفعلاً، حتى إذا هَلك رتعوا في الفتن، حتى سفَكَهُم الحجاج. قال الحسن: تشبّه زياد بعمر فأفرط، وتشبّه الحجاج بزياد فأهلك الناس.

    نعم قد أهلك الناس، لأنه قد وضع سيفه موضع سوطه، وسوطه موضع قوله.

    وقد خَرج الحجّاج يريد العراق والياً عليها في اثني عشر راكباً على النَّجائب، حتى دَخل الكوفة حين انتشر النهار، وقد كان بِشْر بن مَرْوان بَعث المُهلَّب إلى الحَرُوريِّة، فبدأ الحجّاج بالمسجد فدخله، ثم صَعِد المِنْبر وهو مُلَثَّم بعمامة حمراء، فقال: عليّ بالناس، فحَسبوه وأصحابَه خوارج، فَهمُّوا به، حتى إذا اجتمع الناس في المَسجد قام، ثم كَشف عن وجهه، ثم قال:

أنا ابن جَلا و طلّاعُ الثَّنَايَا ... متى أضَع العِمامةَ تَعْرِفُوني

صَليب العُود مِن سَلَفي رباحٍ ... كنَصْل السَّيف وضّاح الجَبِينَ

    إنّي واللّه يأهل العِراق، ومَعْدِنَ الشِّقاقْ والنِّفاق، ومَسَاوِئ الأخلاق، لا يُغْمَز جانبي كَتغْماز التّين، ولا يُقَعْقع لي بالشِّنان، ولقد فُرِزْتُ عِن ذكاء، وفُتشت عن تَجْربة، وأجْرِيت إلى الغاية القُصْوِى، وإنّ أميرَ المُؤمنين نثر كِنَانته بين يديه، ثم عَجَم عِيدانَها، فَوَجدني أمرَّها عُوداً، وأشدَّها مَكْسِراً، فَوَجهني إليكم، ورَماكم بي، فإنّه قد طالما أوضعتم في الفتن، وسنَنْتم سُنَن الغَي، وايم اللّهِ لألْحونكم لَحْو العصا، ولأقرعنّكم قَرْع المَرْوَة، ولأعْصِبنّكم عَصْب السَّلَمة، ولأضْربنَكم ضَرْب غَرائب الإبل. أمَا واللّه إني لا حمل الشرّ بَحْملَه، وأحذوه بنَعْله، وأجْزيه بمثله، وإنّي لأرى رءوساً قد أيْنعَت وحان قِطافها، وإني لصاحبها، وإنِّي؛ أنْظر إلى، الدِّماء بين العمائم واللَحى تَتَرقرق: قد شَمَّرت عن ساقها فشَمِّرى..ثم قال:

هذا أوانُ الشَّد فاشتدِّي زِيَم ... قد لَفّها الليلُ بسَوَّاق حُطَمْ

ليس براعِي إبلٍ ولا غَنم ... ولا بجزّار على ظَهَر وَضَم

    ثم قال:

قد لَفّها الليلُ بعَصْلبي ... أروَع خَرّاج مِن الدَويّ

مُهاجِر ليس بأعْرابيّ

قد شَمَّرتْ عن ساقها فَشُدوا ... ما عِلَّتي وأنا شَيْخ إدُّ

والقَوْس فيها وَتر عُردُ ... مثلُ ذِراع البَكْر أو أشَدُّ

      أمَا واللّه لا أعد إلّا وَفَّيت، ولا أخلُق إلّا فَريْت. وإياي وهذه الشُفَعاء والزًرافات والجماعات، وقالًا وقيلاً، وما يقولون، وفيم أنتم وذاك؛ الله لتَسْتقيمُنَّ على طريق الحق أو لأدعنّ لكُل رجل منكم شُغلاً في جَسده، مَن وجدتُه بعد ثالثة من بَعْث المُهلّب سفكتُ دمَه، وانتهبت مالَه، وهدمتُ منزله، فشمًر الناس بالخُروج إلى المهلَّب. فلما رأي المُهلّب ذلك قال: لقد وَلِي العراق خيرُ ذكر.

    وقال الحجاج على منبره وقد سمع في السوق تكبيراً: يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق؛ إني سمعت تكبيراً ليس بالتكبير الذي يُراد به الله في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف فتنة، أي بني اللكيعة وعبيد العصا وبني الإماء، والله لئن قَرَعْتُ عصاً لأتركنّكم كأمس الدابر، فإنكم لكأهلِ "قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون".

    وقال مالك بن دينار: ربما سمعت الحجاج يخطب، ويذكر ما صنع به أهل العراق وما صنع بهم، فيقع في نفسي أنهم يظلمونه وأنه صادق، لبيانه وحسن تخلصه بالحجج!

    ولما مات ولده محمد وأخوه محمد في يوم واحد خطب فقال: أيها الناس، محمّدان في يوم واحد، أما الله لقد كنتً أحِبًّ أنهما معي فِي الدنيا، مع ما أرجو لهما من ثواب اللّه يا الآخرة، وايم اللّه، ليُوشكنَّ الباقي منَا ومنكم أن يَفْني، والجديدُ منَّا ومنكم أن يَبلى، والحيّ منَّا ومنكم أن يموت، وأن تُدال الأرض منّا كما أدِلنا منها؛ فتأكل من لحومنا، وتَشْرب من دمائنا، كما مَشَينا على ظَهرها، وأكلْنا من ثمارها، وشربنا من مائها، ثم يكون كما قال اللّه: "ونُفِخ في الصُور فإذا هم مِن الأجداث إلى ربهم يَنْسِلون " ثم تَمثل بهذين البيتين:

عَزَائي نبي اللّه مِنْ كْل مَيتٍ ... وحَسْبي ثوابُ الله مِن كُلّ هالِك

إذا ما لقيتُ الله عنِّيَ راضِياً ... فإن سرُورَ النًفس فيما هُنالِك

     وخطب مرّة فقال: سَوْطى سَيْفيِ، ونجاده في عُنقي، وقائمُه في يَدي، وذُبابه قِلادة لمن اغترِّ بي. فقال الحسن: بُؤساَ لهذا، ما أغَرِّه بالله!

   وحلف رجل بالطلاق: إن الحجّاج في النار. ثم أتي زوجتَه، فمنعتهُ نفسها، فأتى ابن شُبرمة يَستفتيه، فقال: يا بن أخي، امض فكُن مع أهلك، فإنّ الحجاج إن لم يكن من أهل النار، فلا يَضرُك أن تَزْني!

    وحينما أدركته الوفاة سُمع يدعو ربه فكان مما قال: اللهم إنهم يزعمون أنك لن تغفر لي، اللهم فاغفر لي.

وتأمل حاله مع هذا الجبروت وكيف أذله الله تعالى بامرأة! فقد حُكي أنّ هِندَ ابنةَ النُعمانِ كانتْ أحَسَنَ أهلِ زَمانِها فوُصِفَ للحَجّاج حُسنُها فأَنفذَ إِليها يَخطِبها، وبَذَلَ لَها مالاً جَزيلاً وتَزوّجَ بها، وشُرِطَ لَها عَليهِ بَعدَ الصداقِ مائتي ألف دِرهَم، ودَخَلَ بِها، ثم إنها انحدرت مَعَهُ إلى بلدِ أبيها المعرّة، وكانت هِندُ فَصيحةً أديبةً فأقام بِها الحجاج بالمعرةِ مدةً طَويلةً، ثم إنّ الحجاج رحل بها إلى العراق فأقامت معه ما شاء الله، ثم دخل عليها في بعضِ الأيامِ وهي تَنظُرُ في المرآةِ وتقول:

وما هندُ إلا مُهرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ... سَليلَةُ أفراسٍ تَحلّلَها بَغلُ

فإن وَلدَتْ فَحلاً فللهِ دَرُّها ... وإن وَلدَتْ بَغلاً فَجاءَ بِه البَغلُ

      فانصرفَ الحجاجُ راجعاً ولَم يَدخُلْ عَليها، ولَم تَكنْ عَلِمت بِه، فأرادَ الحجاجُ طَلاقَها فأَنفَذَ إليها عَبدُ الله ابن طاهر وأَنفَذَ لَها مَعَهُ مائتي الفِ درهم وهي التي كانت لَها عليه وقال: يا ابن طاهر طَلِّقها بِكَلِمَتينِ ولا تُزِدْ عَليهِما، فَدخَلَ عَبدُ اللِه بن طاهر عَليها فقال لها يَقولُ لَكِ أبو مُحمدٍ الحجاجُ: كُنْتِ فَبِنْتِ، وهذهِ المئتا ألفِ دِرهم التي كانت لَكِ قبله، فقالت إعلم يا ابن طاهر أنّا والله كُنّا فَما حَمدنا، وبِنّا فما نَدِمنا، وهذه المائتا ألف درهم التي جِئتَ بِها بِشارةُ لَكَ بِخلاصي مِن كَلبِ بني ثقيف.

     ثُمّ بعد ذلك بَلغَ أميرُ المؤمنين عبد الملك بن مروان خَبرُها ووُصِفَ لَهُ جَمالُها فأرسَلَ إليها يَخطِبُها، فأرسلتْ إليه كتاباً تقولُ فيه بعدَ الثناءِ عليهِ: اعلمْ يا أميرَ المؤمنين أنَّ الإناءَ وَلَغَ فِيهِ الكَلبُ. فَلمّا قَرأَ عَبدُ الملكِ الكتابَ ضَحِكَ مِن قَولِها وَكَتَبَ إليها يقول: إذا وَلَغَ الكَلبُ في إناءِ أحَدِكُم فَلَيغسِلُهُ سَبعاً إحداهُنَّ بالترابِ، فاغسلي الإناءَ يَحلُّ الاستعمالُ، فَلمّا قَرَأَتْ كِتابَ أميرِ المؤمنين لَمْ يُمكِنها المخالفةُ، فَكَتَبَت إليهِ بعدَ الثناءِ عليهِ: يا أميرَ المؤمنين واللهِ لا أحُلُّ العقدَ إلا بشرط، فَإنْ قُلتَ: ما هوَ الشرط؟ قُلتُ: أنْ يَقودَ الحجاجُ مَحمَلي مِن الَمعرَّةِ إلى بَلدكِ التي أَنتَ فيها، ويكُونُ ماشياً حافياً بِحليتهِ التي كان فيها أولاً. فلما قرأ عبد الملك ذلك الكتاب ضحك ضحكاً شديداً، وأنفَذَ إلى الحجاجِ وأمَرَهُ بذلك، _وسبحان المعزّ المذلّ_ فلما قرأ الحجاج رسالة أمير المؤمنين أجابَ وامتثلَ الأمر ولم يُخالف، وأنفذ إلى هندٍ يأمُرُها بالتَّجَهُّز فَتَجَهَّزَت، وسار الحجاجُ في مَوكبهِ حتى وصلَ الَمعرَّةَ بَلدُ هِندٍ، فَرَكِبَتْ هِندُ في مَحمَلِ الزِفَافِ وَرَكِبَ حَولُها جواريَها وخَدَمُها، وأخذَ الحجاج بزمام البعير يقودهُ ويسيرُ بها، فَجَعلَتْ هِندُ تَتواغَدُ عليهِ وتَضحَكُ مع الهيفاءِ دايَتُها، ثم إِنّها قالت للهيفاءِ: يا دايةُ اكشِفي لي سَجفَ الَمحمَل، فَكَشَفَتهُ فَوَقَعَ وَجهُها في وجه الحجاجِ فَضَحِكَت عليه فأنشأ يقول:

فإن تضحكي مِنّي فيا طولُ ليلةِ ... تَرَكتُكِ فيها كالقِباءِ الُمفَرّجِ

فأجابته هند تقول:

وما نُبالي إذا أرواحُنا سَلِمَتْ ... بِما فَقَدناهُ مِن مَالٍ ومِن نَشَبِ

 فالمالُ مُكتَسَبٌ والعِزُّ مُرتَجِعٌ ... إذا النُفوسُ وقاها الله مِن عَطَبِ

    ولَم تزلْ كذلكَ تَضحَكُ وتلعب إلى أن قَرُبَتْ مِن بَلدِ الخليفةِ، فَرَمَت بدينارٍ على الأرضِ ونادتْ: يا جَمّال، إنَّهُ قَد سَقَطَ مِنّا دِرهَمٌ فارفَعهُ إلينا، فَنَظَرَ الحجاجُ إلى الأرضِ فَلم يَجد إلا ديناراً فقال: إنّما هو دينارٌ! فقالت: بَلْ هُوَ دِرهمٌ، قال: بل دينار، فقالت: الحمدُ للهِ، سَقَطَ مِنّا دِرهَمٌ فَعَوَّضنا الله ديناراً! فَخَجِلَ الحجاج وسَكَتْ ولَم يَرُدّ جواباً. وقيل: إن القصة قد كذبها عليه خصومه، والله أعلم.

     كذلك فقد قدم الحجاج على الوليد بن عبد الملك، وركب الوليد فمشى الحجاج بين يديه، فقال له الوليد: اركب يا أبا محمد، فقال: يا أمير المؤمنين، دعني أستكثر من الجهاد، فإن ابن الزبير وابن الأشعث شغلاني عن الجهاد زمناً طويلاً، فعزم عليه الوليد أن يركب فركب مع الوليد، فبينا هو يتحدث ويقول: فعلت بأهل العراق وفعلت، أقبلتْ جاريةٌ فنادت الوليد ثم انصرفت، فقال الوليد: يا أبا محمد، أتدري ما قالت الجارية؟ قال: لا، قال: قالت: أرسلتني إليك أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان تسألك عن مجالستك هذا الأعرابي المستلئم في سلاحه وأنت في غلاله غرر، فأرسلت إليها أنه الحجاج بن يوسف فراعها ذلك وقالت والله لأن يخلو بن ملك الموت أحب إليّ من أن يخلو بك الحجاج وقد قتل أحباء الله له وأهل طاعته ظلماً وعدواناً.

     فقال الحجاج مازحاً: يا أمير المؤمنين، دع عنك مُفاكهة النساء بزُخرف القول، فإنما المرأة رَيحانة، ولست بقَهْرمانة، فلا تطْلعها على سرِّك، ومُكايدة عدوّك. فلما دخل الوليدُ عليها أخبرها بمقَالة الحجاج. فقالت: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تأمره غداً يأتيني مُستلئما، ففعل ذلك، فقال: أعفني يا أمير المؤمنين، قال: فلتفعلن. وأتى الحجاج فَحجبته، فلم يزل قائماً، ثم قالت له: إيه يا حجاج، أنت الممتنّ على أمير المؤمنين بقَتْلك عبد الله بن الزًّبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله علم أنك من شرِار خَلقه ما ابتلاك برَمْي الكَعبة، وقَتْل ابن ذاتِ النِّطاقين، وأوَّل مولود وُلد في الإسلام. وأما نَهْيك أمير المؤمنين عن مُفاكهة النساء وبُلوغ أوطاره منهن، فإنْ كُنّ يَنْفرجن عن مِثلك، فما أحقه بالأخذ عنك، وإن كن يَنْفرجن عن مِثله فغيرُ قابل لقولك. أما والله لقد نَقَص نساء أمير المؤمنين الطيّبَ عن غدائرهن، فبِعنه في أَعطية أهل الشام حين كنتَ في أَضيق من القَرَن قد أَظلّتك رماحُهم، وأثخنك كِفاحهم، فلعمري لقد استعلى عليك حتى عجعجت، ووالى عليك الهرار حتى عويت، وحين كان أمير المؤمنين أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم، فما نَجّاك  بعد الله إلا بحبّهم أمير المؤمنين، وإلا لكنتَ مأسوراً قد أُخذ الذي فيه عيناك، وأما أشرت على أمير المؤمنين من قطع لذّاته وبلوغ أوطاره من نسائه؛ فإن يَكُنَّ إنّما ينفرجْنَ عن مثل أمير المؤمنين فغير مجيبك إلى ذلك، وإن كن ينفرجن عن مثل ما انفرجت به أمُّك عنك من ضعف الغريزية وقبح المنظر في الخلق والخلق يالكع؛ فما أحقه أن يقتدي بقولك، وللّه دَرّ القائل إذ نظر إليك، وسنان غَزالة بين كَتفيك:

أسَدٌ عليّ وفي الحُروب نعامةٌ ... رَبداءُ تَجْفِل من صفير الصافرِ

هلاّ برزتَ إلى غزالةَ في الوَغى ... بل كان قَلبُك في مخالبِ طائرِ

صَدعت غزالةُ جمعَه بعساكر ... ترِكتْ كتائبَه كأمس الدابرِ

    ثم أمرت جارية لها فأخرجته، فلما دخل على الوليد قال: ما كنت فيه يا أبا محمد؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما سكتت حتى كان بطن الأرض أحب إلى من ظهرها. قال: إنها بنت عبد العزيز.

    وغزالة المذكورة هي غزالة الحرورية امرأة شبيب الخارجي، فقد نذرت أن تصلي الضحى بسورة البقرة في مسجد الكوفة عند قصر الحجاج استخفافاً به وإذلالاُ! فدخل شبيب بها الكوفة وحرسها بعمود حتى قضت صلاتها، والحجاج قد تحصن منها وأغلق عليه قصره، فكتب إليه عمران بن حطان بتلك الأبيات معيّراً وشامتاً، وقد كان الحجاج لج في طلبه.

    هذا ومما لا يسع تركه في هذا الموضع صحيفة كتبها بشر بن المعتمر، ذكر فيها البلاغة، ودل على مظانّ الكلام والفصاحة، يقول فيها:خذ من نفسك ساعة فراغك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قلبك تلك الساعة أكرم جوهراً، وأشرف حسّاً، وأحسنُ في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكدّ والمجاهدة، وبالتكلف والمعاندة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولاً قصداً، أو خفيفاً على اللسان سهلاً كما خرج من ينبوعه، ونجم من معدنه. وإياك والتوعُّرَ، فإن التّوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلِكُ معانيك، ويشين ألفاظك، ومن رام معنىً كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً؛ فإن حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن يصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أسوأ حالاً منك من قبل أن تلتمس إظهارهما، وترهن نفسك في ملابستهما وقضاء حقهما.

     وكُنْ في إحدى ثلاث منازل: فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً؛ إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما للعامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتّضع بأن يكون من معاني العامة. وإنما مدار الشرف مع الصواب وإحراز المنفعة، ومع موافقة الحال، ومع ما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظ العامّي والخاصّي، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك في نفسك على أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء؛ فأنت البليغ التام.

     فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسمحُ لك عند أول نظرك في أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصل إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة عن موضعها؛ فلا تُكْرِهْهَا على اغتصاب مكانها، والنزول في غير أوطانها؛ فإنك إذا لم تتعاط قرْضَ الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعِبْكَ بترك ذلك أحد؛ فإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقاً مطبوعاً، ولا محكماً لشأنك، بصيراً بما عليك ولك؛ عابك من أنت أقلّ منه عيباً، ورأى من هو دونك أنه فوقك. فإن أنت ابتُليتَ بأن تتكلّف القول وتتعاطى الصّنعة، ولم تسمح لك الطباع؛ فلا تعجل، ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك؛ فإنك لا تُعْدَمَ الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة، أو جريتَ في الصناعة على عرق.

    فإن تمنّعَ عليك بعد ذلك من غير حادث شغل، ومن غير طول إهمال؛ فالمنزلة الثالثة أن تتحول عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفها عليك؛ فإنك لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب، والشيء لا يحن إلا إلى ما شاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في صفات، والنفوس لا تجود بمكنونها إلا مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة.

    ومن فصحاء العرب وخطبائهم المبرَّزِين قس بن ساعدة الإيادي، وهو المضروب به المثل في البلاغة والحكمة، وقد كان يدين بالتوحيد، ويؤمن بالبعث، ويدعو العرب إلى نبذ العكوف على الأوثان ويرشدهم إلى عبادة الله وحده.

     ويقال: إنه أول من خطب على شرف، وأول من قال في خطبه "أما بعد" وأول من اتكأ على سيف أو عصا في خطابته، وكان الناس يتحاكمون إليه، وهو القائل: البيّنة على من ادعى، واليمين على من أنكر. ومن خطبته في سوق عكاظ: أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آتٍ آت. ليلٌ داجٍ، ونهار ساجٍ، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر وجبال مرساة، وأرض مُدْحاة، وأنهار مجراه. إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه: إن لله ديناً هو أرضى لكم وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، ثم أنشأ بعد ذلك يقول:

في الذَّاهبين الأوّلين  ...   من القرون لنا بصائرُ

لمّا رأيت موارداً   ...   للموت ليس لها مصادرُ

ورأيت قوميَ نحوها  ...  تمضي الأكابر والأصاغرُ

لا يرجع الماضي إليّ  ...    ولا من الباقين غابرُ

أيقنت أني لا محالة   ...   حيث صار القومُ صائرُ

    وبعد هذا التطياف الأدبي؛ نزلتُ وصاحبي إلى رَحْلِنَا فأصلحنا من شأنه، ومضى النهار في تعلّلٍ وتريّض حتى أقبل المساء، فأشعلنا حطب السمر وقت الأصيل، والشمس تتهادى للمغيب كأنها من مراكب الملوك الأقدمين، مُدبرة منحدرة من كثيب ذهبي مهيل، تحفّها حاشيتُها من الغيوم المذهّبة المسلسلة بالعسجد الساطع الصافي البهيّ.

    وامتد بنا المجلس حتى أكنَّتنا ليلةٌ صافيةُ الأديم، متلألئةُ نجومِ السماء تحت قبّة الفلك البهيم، لم يقطعها إلا ما لا بدّ منه. فقلت له بعدما انتهى من ورد ذكره: هلّا حدثتني قبل الرحيل عن شيء من الوداع الأخير؟ فقال_وهو يرشُف كأساً من الشاي_:  

 حضَرَتْ الصديقة أباها الصديق رضي الله عنهما وهو يجود بنفسه فقالت: هذا والله كما قال حاتم:

أماوّي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدرُ

    فقال لها أبو بكر: يا بنيةّ، لا تقولي هكذا، ولكن قولي: "وجاءت سكرة الموت بالحق" ولأبي العتاهية يرثى عليَّ بن ثابت وكان مؤاخيا له، وكان عليٌّ أديباً ناسكاً شاعراً ظريفاً:

ألا مَنْ لي بأنسك أيْ أُخيّا ... ومن لي أن أبثك ما لديّا

طوتك خطوب دهرك بعد نشر ... كذاك خطوبه نشراً وطيّا

فلو نشرت قواك لي المنايا ... شكوت إليك ما صنعت إلياّ

وكانت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيّا

    ودخل عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك وهو يجود بنفسه، فقال: كيف تجدك يا بني؟ قال: أجدني في الموت، فاحتَسِبْنِي يا أمير المؤمنين، فإن ثواب الله خيرٌ لك مني. قال: رضي الله عنك يا بني، فإنك لم تزل تسرّ أباك وأنت في الخِرَقِ، وما كنتُ قط أسرّ إلي منك حيث يُصيّرك الله في ميزاني، فرضي الله عنك وعن كل شاهد وغائب دعا لك بخير. فجعل الناس يدعون له رجاء أن يدخلوا في دعوة عمر. وعاش عمر بعده أربعين يوماً ثم هلك.

    وتُوفِّي رجلٌ وكان مُسرفاً على نفسه، فرَفع برأسه وهو يجود بِنَفْسِه، فإذَا أبواه يَبْكِيَان عند رأسه، فقال: ما يًبْكِيكما؟ قالا: نَبْكي لإسرافك على نفسك؛ قال: لا تَبْكيا، فواللّه ما يَسُرُّني أن الذي بيد الله منٍ أمريٍ بأيديكما، ثم مات.

    ونظر الحسن إلى رجل يجود بنفسه فقال: إن أمراً هذا آخره، لجدير بأن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لجدير أن يخاف آخره.

    وتأمل حسن وصف أحد الخطباء لقتلاه _وللأسف أنهم من الخوارج المارقة، عياذاً بربي من الضلال_: تخضَّبت بالدماء محاسن وجوههم، فأسرعت إليهم سِباع الأرض وطيور السماء، فكم من عين في مناقير طير طال ما بكت في جوف الليل من خشية الله! وكم من كف زالت عن معصمها طال ما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل من السجود لله! شبابٌ مكتهلون في شبابهم، غضيضةٌ عن الشر أعينهم، ثقيلةٌ عن الباطل أرجلهم.

    وقال ابن دحية: دخلت على الفقيه ابي بكر السلمي منزله بمدينة شاطبة في اليوم الذي توفي فيه وهو يجود بنفسه، فأنشد بديهاً:

أيها الواقف اعتباراً بقبري ... استمع فيه قول عظمي الرميمِ

أودعوني بطن الضريح وخافوا ... من ذنوبٍ كلومها بأديمي

تركوني بما اكتسبت رهيناً ... غَلِقَ الرَّهْنُ عند مولًى كريمِ

    ولصخر بن عمرو الشريد في أخيه معاوية:

اذا ذكر الإخوان رقرقْتُ عبرةً   ...   وحيَّيتُ رسماً عند لَثّة ثاويا

إذا ما أمرؤ أهدى لِمَيْتٍ تحية ... فحيّاك ربّ العرش عنّي مُعاويا

    وقال أحدهم مودّعاً غالِيه:

وهوّن ما ألقى من الوجد أنَّنِي   ...  أُساكنه في داره اليوم أو غدا

وقال الآخر في مشهدٍ حزين وموعظة بليغة:

فبات يروّي أصول الفسيل   ...   فعاش الفسيلُ ومات الرَّجلُ

 

 

****

*****

 

 

 

 

 

 

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com