إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأحد، 4 أكتوبر 2015

الطاعة بين جناحي طمع

"الطاعة بين جناحي طمع"
جُبِلَ العربي ومن بعده الأمم على الأنفة من الطاعة، واعتبارها قيدًا لحريته وكسرًا لعزته.
ولما كانت أمور الناس لا تستقيم إلا بإمام مطاع؛ أبدأ الشرع فيها وأعاد، وكرر وحذر من المخالفة والخروج عن الجماعة، والشذوذ بالمنابذة.
لذلك كان المسمى الشرعي السائد لما عليه السلف الصالح هو: أهل السنة والجماعة، فهم يحرصون على العمل بالسنة قولًا وعملًا واعتقادً، ويحرصون كذلك على الاجتماع، ابتداء من الأسرة الواحدة وانتهاءً بالاجتماع للأمة خلف إمامها الأعظم، فإن تعددت الدول توثّقوا من بيعة إمامهم، ولم يشقوا عصا طاعته، مع موالاتهم للمؤمنين عامة.
المقصود: أن بعض القلوب والألسن تضعف عند ورود هذه المسألة عليها.
وللشيطان فيها نصيبان لا يبالي أيهما أصاب من العبد، إن لم يعصم منه الرحمن.
فتارة: ينتصب الشيطان للناظر فيها فيلقي في روعه تعظيم الإنكار دون اعتبار أهمية الاجتماع وخطر الفرقة وبذور الفتنة والشقاق، وأن من عظّم أمر الاجتماع فهو متّهم بالمداهنة أو ممالأة السلطان، وله في ذلك أحابيلٌ آخيّتها صولة الإنكار وقلّة البضاعة في العلم. وقد يؤتى المرء من طمع في جاه أو ثناء من العامة والرفاق، ولهو أشد على كثير من جاه من ذي سلطان! فيلبس مسوح الزهادة على جثمان الطمع.
والثانية: بالركون إلى الظالم - بزعم الحرص على الاجتماع - دون مراعاة تعظيم الأمر والنهي، ولو أفضى مآلًا لتبديل الدين! وقد يؤخذ بغفلة تارة أو بتفريط في بذل الوسع في الاجتهاد أخرى، أو بطمع في لعاعة دنيا من جاه مائل أو حطام زائل.
وبالجملة: فلا بد للمؤمن من تعظيم الأمرين جميعًا، وحسن الموازنة بينهما، فهما جناحا السلامة للمجتمع المسلم، وهذه جادة السلف الصالح، ألحقنا الله بهم غير مبدلين ولا مضيعين.

الجمعة، 10 أبريل 2015

عبدٌ حفظ الله فحفظه الله

عبدٌ حفظ الله فحفظه الله
   الحمد لله وبعد:
   لقد سُمِّي الإنسان من الاستئناس فهو مدني بطبعه، يستوحش في الوحدة ويأنس للجليس، فلا بد له إذن من أنيس وخليط يشاركه في ميوله ويقاربه في رغباته ويتحدث إليه بمكنون نفسه، وبالطبع سيتأثر به لا محالة، ومن هنا شدّد الشرع في شأن الجليس، إذ الطباع سراقة والجبلات نَزَّاعة!
   ومن بعض مداخل ذلك الباب ذكر الله تعالى قصص الأنبياء والمرسلين والصالحين في كتابه للائتساء والاستئناس والاعتبار، فحتى وإن لم تدركهم بحاضرك فأنت معهم بتاريخهم وأخبارهم وآثارهم. لذلك كان ذكر سير الصالحين من محفزات الأعمال الصالحة ومن موقدات كوامن الهمم لدى من يسمعها ويتلوها.
   ومن هنا جاءت هذه الوقفة الحزينة المودعة لرجل عرفته من قديم، فليست أحرفي للتأبين ولا العزاء – وإن سالت مقلة الروح على أسَلَةِ القلم بلا قصد فللمحبة أحكامٌ- والمؤمن في حاجة لِلَملمة شتات قلبه في هذه الدنيا المروّعة، ومن سبل تحصيل ذلك الاعتبار بسير الراحلين من الصالحين.
    لقد كان الراحل الفاضل ينقش في لوحة الذاكرة أجمل خطوط الذكريات وأبهى صور الماضيات، ذلكم هو سليل بيت النبوّة، وفرع الدوحة الرسولية، الشيخ غزاي بن منصور العبدلي الحسني الشريف رحمه الله، أحسبه ولا أزكي على الله أحدًا أنه ممن قام بحق نسبه من التقوى والعلم والعمل، وفي الله خلف من كل مفقود، والجنة ملتقى كل حبيب بحبيبه.
ألا من  لي  بأُنسكَ يا   أُخيّا        ومن  لي  أن  أبثّك  ما    لديّا
طوتكَ خطوبُ دهرٍ قد توالى        لذاك  خطوبه   نشرًا     وطيَّا
كفى  حُزنًا  بدفنك   ثم   إني        نفضْتُ تراب قبرك من    يديَّا
وكانت في حياتك لي عظات        وأنت اليوم أوعظ  منك    حيّا
فيا أسفي عليك وطول شوقي        إليك  لو  اْن  ذلك   ردَّ   شيّا
   لكل إنسان ملمحٌ راسخ وصفة تعلو ما سواها وتنتظم ما عداها مهما كان جامعا لأبواب برٍّ وسالكٍ لطرق ثواب وزلفى وقربى، وأحسب أن تلك الصفة الكاشفة لفقيدنا غزاي هي: الصرامة والحزم مع النفس والجد الذي لا يلين على مدى ستين عامًا، فمن شرخ شبابه حتى شيخوخته وهو مضرب الأمثال في الجد في معالي الآخرة! لذلك فلا عجب إذن من تنوّع توفيق الله له بفتح أبواب الإعانة له في العبادات على مدى هذه السنين – ولا نزكيه على الله – "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"
   نعم، لا يخلو المؤمن من أُويقات تهفو نفسه فيها لفضل عبادة أو علم أو صدقة أو ما سوى ذلك من أسهم البر، فلكل عابد شِرّةٌ ولكل شرّة فترة، ولكن أن يشرع المؤمن في ورع دقيق، وتتبع للسنة للعمل والتطبيق، وطلب للعلم جادّ، وصدقات هائلة، وإصلاح بين الناس، وعبادة طويلة، وذكر دؤوب، وورد للقرآن لا يتخلف عنه حتى مماته؛ فهذا منزل الخُلَّصِ من عباد الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقد قال ابن الفرخي رحمه الله في وصية تختصر وسائل السير إلى الله تعالى: ليكن همّك مجموعًا فيما يرضي ربك، فإن اعترض عليك شيء فتب من وقتك. وكما أوصى حاتم أحد خاصته: كل شيء تخشى الموت لأجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت!
   ومن أراد الاستقامة فسبيلها بفضل الله أمران: البصيرة والإرادة، فالبصيرة تهديه والإرادة تقوّيه، وعلى قدر تحصيله لهما يكون توفيقه بإذن ربه. التوفيق للعبادة والصبر عليها لا يأتي بعد فضل الله إلا بصلاح القلب مع الدأب على المصابرة في ذات الله، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
   ولطالما ذكّرني عزم الفقيد بجواب الإمام أحمد لمن سأله: متى الراحة؟ فقال: عند أول قدم تضعها في الجنة. (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)
      بدأ الشيخ غزاي رحمه الله بنفسه فغزاها في سبيل الله فانقادت، وجاهدها في ذات الله فاستقامت، بَرَّز على كثير من لِدَاته وبزّهم بعلو همّته. قد نحتت عقود السنين على محيّاه معالم القناة التي لا تلين لرغائب الفانية. قد كان الزهد حشو إهابه، والورع ملء ثيابه، ولطالما ذكّرني حاله قولَ ثابت البناني: جاهدتُ نفسي على قيام الليل عشرين سنة، فتلذذت به عشرين أخرى.
   هو عبدٌ من عباد الله الصالحين المصلحين – أحسبه والله حسبيه - جمع الله له بين العلم والعمل، كف الله بصره وفتح بصيرته، فحبب له الصلاة والقرآن والذكر والدعاء والنسك والصدقة والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتلك أبواب خير لا تنال بالهُوينى، فلا بد دون الشهد من إبر النحل، وقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين (أي ألحق صدقة بأخرى، أو أتبع عمل صالح بآخر من جنسه) في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعُي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة" قال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ فقال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم".
   بدأت بواكير صلاحه بحب القرآن العظيم، وقد كان شيخه محمد الدميجي رحمه الله حازمًا جادًّا – ولعله أفاد منه تيك السجية – فكان يأمره بعقد خمسين عقدة ثم يشرع في مراجعة حزبه المحفوظ، وكلما أنهى عرضةً حلّ عقدة حتى رسخ القرآن في قلبه، وقد كان شيخه يعقد لنفسه في صباه مئة عقدة فأثمر ذلك أن قرأ القرآن كله في جلسة واحدة عن ظهر قلب!
   وقد بلغ من وفاء الشيخ غزاي لشيخه محمد أن جمعه مع والديه في كل دعاء لهما في سجوده، رحمهم الله جميعًا. فحدثوني عن مثل هذا الوفاء في ذا الزمان؟!
   إذن فبداية خيط الصلاح هي العيش مع القرآن وبه، وكفى بالقرآن توفيقًا، ولصاحبه مصلحًا وشافعًا، فهو وربي نعم الأنيس، والسعيد حقًّا من حفظ له حقه. ولو كان للسعادة معيار حسّي لصُعق أهل المال والجاه والسلطان والصحة من افتقارهم لها إزاء غنى بعض أضدادهم منها! فلا تذهب بعيدًا في البحث عنها فهي بين عينيك فخذها واشكر ولا تكفر، (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
   لقد قد كان للقرآن شأن خاص عنده رحمه الله، فكان يتلوه آناء الليل وأطراف النهار الساعات الطويلة في صلاته وورده في بيته وبيت ربه، وعند الحميدي عن محمد بن المنكدر قال: "إن الله عز وجل ليحفظ بحفظ الرجل الصالح ولده وولد ولده ودويرته التي فيها والدويرات حوله، فما يزالون في حفظ وستر من الله عز وجل". حدّث عنه الشيخ فيحان بن ماجد أنه قد سمعه يتلو القرآن وهو في غيبوبته التي لم يفق منها، وكان يتلو قول ربه – وتأمل -: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا) يا إخوتاه: إن للإخلاص شأنٌ عظيم فاجتهدوا يا رحمكم الله في تحقيقه.
   لقد كان بناء بيوت الله ودور تعليم كتابه وكفالة معلميه من أولوياته رحمه الله، مع حرصه على طلب كتمان اسمه في سجل المتصدقين في الدنيا، وقد بنى المساجد وساهم في عمارتها في بلده وخارج بلده شرقًا وغربًا، مع العناية بتعليم القرآن فيها. وقد روى البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى لله مسجدًا يبتغى به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة" وقد بشر الله تعالى في سورة يونس أهل القرآن بقوله الجليل: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).
   كما كان رحمه الله حريصًا على تطييب المسجد بالبخور كل ليلة. وعند ابن حبان بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تُطيّب، وتنظف".
   وقد لزم مكة حرسها في أخريات سنينه في شهر رمضان، أما الحج فلا أعلم أنه قد فوّته قط، ولم يك يحج لوحده، بل كان يحمل معه من شاءوا الحج مجانًا، وتلك سجيّة العظماء.
   كان رحمه الله يقوم بضع ساعات من الليل لا يتخلف عنها حضرًا ولا سفرًا، ولحرصه على صلاح ذريته فكان مع إلحاحه بالدعاء لهم يأخذ أبناءه ومن بعدهم أحفاده لصلاة الفجر، ويتفقد أهل بيته حتى ينتبهوا للصلاة.
   أما جلوسه في مصلاة بعد الفجر حتى ارتفاع الشمس وقبل الغروب فتلك سنة دائمة له رحمه الله. وكان يُدرِّس من رغب تصحيح تلاوته بعد الفجر ويصبر على تلقينهم وتصحيح تلاوتهم بلا ضجر ولا تشاغل، وفي الصحيحين عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلّم القرآن وعلَّمه" إنها زكاة، وقد أدّاها طيبة بها نفسه، تقبّلها الله ورفعه بها.
   كان يرفض ركوب السيارة للمسجد، ويرحب بمن يقوده على قدميه ابتغاء فضل الخُطى، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "وما من رجلٍ يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة ٍ يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة".
   وقد كانت خاتمته حسنه إذ أُصيب في حادث سير وهو سائر ليشهد صلاة ربه، فكتب ربُّه أن يكمل مسيره إليه، فسقط وهو يقرأ القرآن حتى غشي عليه، ثم ردد الآي في غيبوبته، حتى أجاب رسلَ ربه، فاللهم اجعلها الحسنى وزيادة.. إله الحق آمين.
   كان الفقيد معظِّمًا للعلم مجلًّا لأهله، حريصًا على التعلّم حتى رحيله، يحضر دروس العلم بعقله وفؤاده، فإن طُلب منه طبع كتاب أو تأمين مكتبة كان جوابه الاحتفاء والإحسان.
   وقد كان من ورده الذي يردده بعد القرآن عن ظهر قلب: كتاب التوحيد والأصول الثلاثة والقواعد الأربع.
    ويا صاحبي: إن من أعظم النّعم والنعيم: تحبيب الله إليك العلم، والآن قد تيسر أمر التعلم ولكن الشأن كل الشأن في التوفيق لطلبه، فاسألِ الله أن يحبب العلم لقلبك، وأن يعظم رغبتك فيه، وأن يعلمك ما ينفعك، وأن يزيدك علمًا، إنه هو العليم الحكيم. وقد قال الإمام أحمد – وتأمل الشرط جيدًا -:  العلم لا يعدله شيء لمن صحّت نيته.
   قد شُرح في المسجد قبل سنين كتاب التوحيد للإمام المجدد، فطلب قبل نحو سنة ونصف السنة بإعادة الشرح مرة أخرى فشُرِع فيه حتى خُتم الشرح قبل أيام من رحيله، وكذلك الحال معه في كتاب سيرة النبي صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فقد رحل الجميع، فاللهم ألحقنا بهم في الصالحين.
   إن من أحب شيئًا أكثر من ذكره، وتأملها في حياة الناس بين مكثر ذكر التجارة أو الكرة أو الإبل أو الغناء.. ومكثر ذكر الله! ولقد كان الشيخ من نوادر الذاكرين وقد أوتي جَلَدًا ليس إلا للقليل رحمه الله. وله في عشية الجمعة شأن عجيب، فكان لا يخرج من المسجد بعد العصر، وليس هذا بعجيب فكثير من الصالحين هكذا، ولكن العجب كيف كان يطيق رفع يديه في دعائه حتى الغروب، وليس هذا في جمعة أو جمعتين، بل هذا دأبه حتى رحل لربه! إنه التوفيق، فاسألوا الله من فضله. ومتى صلح القلب ولانت الجوارح بالذكر فلا تسل عن لذة ما هنالك.
   لقد كان الشيخ غريبًا عن هذه الدنيا التي لم يحفل بحطامها، وأمثاله فيها قليل، والله المستعان، كان في وادٍ يأنس فيه بخلوته بربه ويلتذ بمناجاته، تاركًا خلفه الناس في غفلاتهم!
   كان يؤذن للعشاء أحيانًا، فإن كان درس العشاء عن سيرة نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يكاد فقيدنا يكمل الإقامة من التهدّج والتأثر لذكر الحبيب صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مِن أشد أمتي لي حباًّ ناسٌ يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله".
   كان محبًّا للناس ناصحًا لهم يسره إسعادهم، نحسبه والله حسيبه من أهل هذه الآية: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور . ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور).
   لم يكتف - رحمه الله - بالصدقة للأقارب بل شمل كثيرًا من فقراء أهل بلده ثم ديار المسلمين وتشهد له نفوس ترفع أكفها بالضراعة لمولاها برحمته إذ رحمهم، فلكم أطعم جائعًا وكفل يتيمًا وفطّر صائمًا، وحتى عامِلَ المسجد لم ينسه من الإحسان، فقد تكفل بإطعامه من طعامه وطعام عياله. (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) وعلى قلّة موارده إلا أن الله قد بارك له فيها (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم).
كان - رحمه الرحمن - لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولو كان القريب والعزيز، بل كان يبدأ بهما لتجرده – ولا أزكيه على الله – لهذا كان لنصحه قبول عند الناس.
   لقد كَثُر المصلون عليه والمشيّعون، وهذه من عاجل بشراه بإذن الله، فعند مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجلٍ مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه".
   أحسبه ممن وضع الله لهم القبول في الأرض، ولما رحل أصبح الناس يُعزي بعضهم بعضًا فيه، فمصابهم بفقده كبير.  وعند الشيخين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدًا نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانًا فأحِبَّه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض" نسأل الله الكريم من فضله. 
  ولا أشكّ أن لكل من خالطه خبر خاص أو أكثر عن سريرة هذا العابد العطرة الطاهرة، والمؤمنون شهود الله، وليس راءٍ كمن سمع! ولعل له عبادات سرٍّ لا يعلمها سوى علام الغيوب.
هذا وإن الحب شعور كامن، لذيذ أحيانًا وفي أخرى أليم! ومن الإيلام: أن لا تشعر بقدر حبك لشخص حتى يرحل عنك، وهو ما يُعبر عنه العامة بقولهم: "الله لا يبيّن غلاك" ولقد كان الفقيد على شدة حبي له، من أولئك الذين ظهر "غلاهم"! نعم، فالمحبة لا تشترى بالمال بل بجميل السجايا وكريم الخصال، وقد أحسن أمل دنقل حينما قال:
أترى حين أفقأ عينيك..
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى.
   شيخنا: يبكيه مسجد لطالما صفّ قدميه فيه لله، ورفع يديه فيه داعيًا، وأنفسًا قد أحبته بصدق وفقدته بعمق والتهبت أحشاؤها من لوعة فراقه!
   فلله قدمان لطالما صفتا بي يدي الله، ورجلان قد حفرتا جادةً في السير لشعيرة الله، وكفّان قد ارتفعا بالضراعة للملك الديان وبالصدقة على عباد الرحمن، ولسان طالما لهج بالذكر والاستغفار والأذان والقرآن، وجوف قد أعطشه الصيام طلبًا لرضى المنان ورغبة في ولوج باب الريان، ورأسًا قد كُشف للنسك في مشاعر البلد الحرام، وآذانًا قد أنصتت لدرس علمٍ وقرآن، وعينان قد احتسبهما منذ صباه عند الرحمن، وخرّج الترمذي بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: من أَذْهَبْتُ حَبِيبَتَيْهِ (أي بصر عينيه)، فصبر واحتسب، لم أرض له ثوابًا دون الجنةِ".
   جبر الله قلوبنا بفراقه، وعوضنا عنه الأجر، وعوّضَه عنّا الرضوان. ولقد كان فقيدنا من الخمسة الذين يُبكى عليهم.
إذا ما مات ذو عـــــلمٍ وتقوى   فقد ثلمت من الإســـلام ثلمة
وموت الحاكم العـــدل المولّى   بحكم الشرع مــــــنقصةٌ ونقمة
وموت العــــــابد القوّام ليــــلاً   يناجي ربـــــــه في كـــل ظلمة
وموت فتى كثير الجود محض   فإن بــــــــقائه خيــــــــرٌ ونعمة
وموت الفارس الضـرغام هدمٌ    فكم شهدت له في الحرب عزمة
فحسبك خمسةً يبـــكـى عليهـم    وباقي الناس تخفــــــيفٌ ورحمة
وباقي الناس هم همـجٌ رعـــاع    وفي إيجـــادهم لله حـكــــــــــمة

إبراهيم الدميجي

18/ 6/ 1436

الخميس، 25 سبتمبر 2014

الحصانُ الرزانُ

الحصانُ الرزانُ
 لقد توقّف العلماء كثيرًا متأملين متدبّرين عظمة وجلالة العِبَرِ من قصة الإفك الهائلة, وما في ثناياها من الرحمات الإلهيه لنبي الله صلوات الله عليه وسلامه وبركاته, ولأهله وأصهاره من آل أبي بكر, وللأمة المرحومة من بعدهم.
 إنّها الحادثة التي هزّت المجتمع الإسلامي النبوي, وأقلقت السادة, وقلقلت الكبار, وأنصعتْ طيب أهل اليقين, وضوّعت نَشْرَهم, وأشهرت فضلهم. وزلزلتْ إيمان من كان على حرفٍ, وحيّرت عقولًا وأدهشَت أفئدة! وأوهت أبنية بعض المتّقين, وأوهنت قوّة بعض الفضلاء, وهدّت عزائم آحادٍ من الحُلماء, وزاغ فيها من من زلّت به القدم إلى مراتع اللسان وسيء الظنون بأهل الإيمان, وثبّت الله أفئدة فئام من المؤمنين فأحسنوا الظن بعباد الرحمن, وأطلقوا على المفترين وحاملي الإفك سهام النكران, وعاتب الله تعالى المؤمنين الذين لم يلتزموا جانب الإحسان في ظنونهم تجاه الإخوان. وتولّى ربُّ العالمين ومالكُ الدنيا والدين, وجبارُ السماوات والأرَضين الدِّفاع عن الصِدِّيقة أم المؤمنين, وعتاب من زل فيها من الصالحين, ولَعَنَ الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين من المُفترين والأفّاكين والمُرجفين. وجعلها سبحانه وبحمده آيةً شاهدةً للمؤمنين إلى يومِ يقوم الأشهادُ ويلقى العبادُ رب العالمين. وأجمل بالمديحة الحسّانيّة حين قال شاعر الإسلام, وصدق:
رأيتُكِ ولْيَغْفِرْ لك الله حرَّةً        من المحصنات غير ذات غوائلِ
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ      وَتُصْبحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافلِ
عَقِيلَةُ حَي مِنْ لُؤَي بْنِ غَالِب     كِرَامِ المَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَةٌ قد طَيبَ الله خِيمَها     وَطَهَّرَهَا مِنْ كُل سُوءٍ وَبَاطِلِ
  وقد ذُكِرَت هذه القصة الجليلة المزلزلة في الصحاح والمسانيد بألفاظ متقاربة ومعانٍ متشابهة متوافقة, وخرّجها مُحَدِّثُ الإسلام وأميرُ المؤمنين في الحديث الإمامُ البخاري رحمه في صحيحه في عدّة مواضع, ومن أجمعها سياقه الطويل رحمه الله للحديث في تبويبه: حَدِيثِ الْإِفْكِ. وهي قصة جديرة بالدراسة والنشر والتكرار, ففيها قواعد كلية للأمة. وكان الإمام ابن باز رحمه الله لا يتمالك نفسه من البكاء عند قراءة هذا الحديث عليه حتى تعلو مجلس درسه سكينة وخشوع ودعاء.
في الخصائص الصغرى: ومن قذف أزواجه صلى الله عليه وسلم فلا توبة له البتة, كما قال ابن عباس وغيره. قلت: أي لا تقبل ظاهرًا وإن قبلها الله بينه وبين عبده, وهذا فرعٌ عن سبّ الرسول صلى الله عليه وسلّم فإن توبته ظاهرًا لا تقبل على المشهور, كما حرّره شيخ الإسلام في الصارم المسلول, ويُقتل, كما نقله القاضي عياض وغيره.
   قال تبارك وتعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ"  
قال ابن كثير: وأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة, لا سيّما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سبّها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية؛ فإنه كافر لأنه معاند للقرآن.
قال ابن القيم ومَنْ قَوِيَتْ معرفته لله, ومعرفته لرسوله, وقدره عندَ اللهِ في قلبه، قال كما قال أبو أيوب وغيره مِن سادات الصحابة، لما سمعوا ذلك: "سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ"
قال البقاعي: واستمر أهل الإفك في هذا أكثر من شهر، والله تعالى عالم بما يقولون، وبأن قولهم يكاد يقطع أكباد أحب خلقه إليه، وهو قادر على تكذيبهم عند أول ما خاضوا فيه، ولكنه سبحانه أراد لناس رفعة الدرجات، ولآخرين الهلاك، فيا لله ما لقي النبي صلى عليه وسلم والصديق وآله رضي الله عنهم وكل من أحبهم, وهم خير الناس، والله سبحانه وتعالى يُملي للأفّاكين ويمهلهم، وكأن الحال كما قال أبو تمام الطائي:
كذا فليجلّ الخَطْبُ وليفدح الأمرُ      فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذرُ
قلت: وفي فضلها علم كثير نافع, ففي الصحيحين من حديث أنس وأبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضل عائشة على النساء, كفضل الثريد على سائر الطعام" وفي الصحيحين من حديثها رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائش هذا جبريل يُقرئك السلام" قالت: فقلت: عليه السلام ورحمة الله وبركاته, ترى ما لا أرى.  ولهما عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُكِ في المنام ثلاث ليال, جاءني بك الملك في سَرَقَةٍ من حرير, فيقول: هذه امرأتك, فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي, فأقول إن يك من عند الله يُمْضِهِ" وعند الترمذي وحسّنه: "هذه زوجتك في الدنيا والآخرة"
وللترمذي وصحّحه من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله, أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: وتأمّل كيف نسبَ أباها إليها لعظيم محبته لها صلوات الله وسلامه عليه.
وللترمذي وصحّحه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ما أشكل علينا أصحاب رسل الله صلى الله عليه وسلم حديث قطّ, فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا. وله وحسّنه أن رجلا نال من عائشة عند عمّار فقال: اغرب مقبوحًا منبوحًا, أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وله وصحّحه عن موسى بن طلحة قال: ما رأيت أحدًا أفصح من عائشة. وقال مسروق رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وكان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة ابنة الصديق, البريئة المبرأة من فوق سابع سماء. وكان الشعبي يذكرها، فيتعجب من فقهها وعلمها، ثم يقول: ما ظنكم بأدب النبوة؟!
ورآها عروة تصدّقت بسبعين ألفًا, وإنها لترقَعُ جانب درعها رضي الله عنها. وعند ابن سعد عن أم ذرة، قالت: بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين، يكون مئة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست، قالت: هاتي يا جارية فطوري. فقالت أم ذرة: يا أم المؤمنين، أما استطعت أن تشتري لنا لحما بدرهم؟ قالت: لا تعنفيني، لو أذكرتيني لفعلت. وعن عطاء: أن معاوية بعث إلى عائشة بقلادة بمئة ألف، فقسمتها بين أمهات المؤمنين. وفرض عمر لأمهات المؤمنين عشرة آلاف، عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين، وقال: إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن إبراهيم النخعي، قال: قالت عائشة: يا ليتني كنت ورقة من هذه الشجرة! وهذا من ورعها وعظيم خوفها من الله, وشدة تواضعها وإزرائها بنفسها رضي الله عنها وأرضاها, وألحقنا بها في السابقين المقربين.
وتوفيت أُمّنا سنة سبع وخمسين على المشهور, في ليلة سابع عشر شهر رمضان, وأمرت أن تدفن ليلا فدفنت بعد الوتر بالبقيع, وصلى عليها أبو هريرة.
وفي " المستدرك  بإسناد صالح، عن أم سلمة: أنها لما سمعت الصرخة على عائشة، قالت: والله لقد كانت أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أباها.

الجمعة، 19 سبتمبر 2014

النصرانية بين التوحيد والوثنيّة

النصرانية بين التوحيد والوثنيّة
الحمد لله وبعد: فدين المرسلين جميعًا هو التوحيد, قال الله تبارك وتعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" ولما كفرت بنو إسرائيل أرسل الله إليهم عيسى المسيح عليه السلام ليردهم لمحجة الإيمان ويبشرهم بالرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم, وينذرهم غضب الله وعذابه. وآتاه الإنجيل فيه هدى ونور, فماذا كان بعد؟
لقد آمن به من آمن من بني إسرائيل وكفر به من كفر, ولم يطل به الزمن حتى تآمر ذوو الرئاسة على قتله فرفعه الله إليه حتى ينزل في آخر الزمان فيحكم بالقرآن. وقد قال الحبيب صلوت الله وسلامه وبركاته عليه فيما رواه الشيخان: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد وليس بيننا نبي»
رُفع المسيح عليه السلام وبقي بعض إنجيله محفوظًا في صحائف من آمنوا به واتبعوه ممن ثبتوا على دينه التوحيدي الصافي النقي.
ثم وقع الابتلاء لأتباعه بالقتل والسجن والتشريد وإحراق الصحائف فضرب الرعيل الأول منهم أروع آيات الاستشهاد والصبر في ذات الله, حتى دخل دينهم نفاقًا يهودي فِرِّيسي يسمى شاؤول فآلى على نفسه أن يُبدل دين المسيح ليجنح به لوثنية الفلاسفة الإغريق – إذ كان شاؤول متأثرًا بفيلون السكندري وفلسفة الغنوصية والإشراق – فبدّل اسمه لبولس وزعم أن المسيح تراءى له ثم ابتدأ مشروعه المدمّر لبنية المسيحية الحقيقية وإبدالها بديانة خليطة بين غنوصية الهنادكة ووثنية الإغريق ومحالات التصورات مع شيء من النظام الأخلاقي المسيحي القديم. فركب صهوة التبديل والتحريف, ولكن أبى الحواريون وغالب أتباعهم ذلك الانحراف, فاصطرعوا فكريّا وأخلاقيّا وجسديّا فكانت الحرب الجسدية سجالًا مع الحرب الضروس من الرومان لكلى الطائفتين الموحدة والمشركة مع رجحان كفة الموحدين في الغالب, حتى دخل الربع الثاني من القرن الميلادي الرابع فانعطف من هنالك التاريخ المسيحي من التوحيد والإيمان إلى الشرك والوثنية بعد أن دخل في الميدان امبراطور الرومان قسطنطين فمالت كفة الميزان ضد الموحدين ولا زالت في ميول حتى ينزل المسيح فيقيمها بإذن ربه على دين المرسلين.
إلا أن هناك ملامح باقية للتوحيد على مستوى تدوينات الكتاب المقدس المعترف بها وغيرها, وكذلك على مستوى الطوائف الموحّدية المتمسكة بما وجدته من بقايا العهد الإنجيلي القديم مع نقصه الكثير وتحريفه المتكرر.
فمن الكتابات الباقية على سبيل المثال ما جاء في متى «قال له يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلـٰهك تسجد وإياه وحده تعبد» (متى 4: 7) وغيره كثير في العهدين القديم والجديد, وكذلك ما اكتشف من مخطوطات نجع حمادي وإنجيل توماس وبرنابا ويهوذا ومخطوطات البحر الميت وغيرها.
أما الطوائف الموحدة فمنهم – في غالب الظن - فرقة بولس الشمشاطي، وفرقة أبيون، وفرقة ميلينوس، وفرقة آريوس، وفرقة الأسينيين، وطائفة الجوهريين وغيرهم. 
لقد تعرض هؤلاء لاضطهاد هائل من الكنائس الرسمية، ولعنتهم المجامع الكنسية المخالفة، ووصمتهم بالكفر والهرطقة، ومزقتهم كل ممزق، مع هذا فلم يُستأصلوا، ولما أشرق نور الإسلام، وأضاء ما بين الخافقين كان في مقدّمة المهتدين إليه من أهل الكتاب تلك البقايا الموحدة التي انتظرت طويلًا نبيًا عظيمًا ينير لها جادة المرسلين, وبقي منهم كثير لم يشهدوا لرسول الله بالرسالة لانطماس نورهم من هذه الجهة.
ولما ظهرت حركة الإصلاح الكنسي نشط الموحدون في أوروبا حتى إن ملك المجر  سيجسموند (ت: 1571م) كان موحدًا.
وفي ترانسلفانيا ازدهر التوحيد ومن مشاهير الموحدين فيها فرانسيس داود. وفي بوليونية ظهر سوسنس الموحد، وكان له أتباع يعرفون بالسوسنسيين وقد أنكروا التثليث ونادوا بالتوحيد.
ومن القامات البارزة سرفيتوس الذي نادى بالتوحيد في أسبانيا وفرنسا وسويسرا وألف الكتب في ذلك، وكانت نهايته أن أُحرق بجنيف حيًا بعد أن ربطوا معه كتابه "خرافة التثليث" عام (1553م) على يد مدّعي الإصلاح والتسامح كلفن!
(وكل من أعلن التوحيد منهم أو هدم خرافة التثليث وصموه بالهرطقة, لذلك – وهذا نداء لكل مؤرخ مسلم - نحن بحاجة لإعادة كتابة التاريخ الأوروبي من وجهة نظر إسلامية تمامًا كما يكتبون تاريخنا من وجهة نظرهم)
وحينما اضطٌهِد الموحدون في أسبانيا وفرنسا وإيطاليا فرّوا بدينهم لإنجلترا في عهد هنري الثامن وأسسوا كنائس أسموها كنائس الغرباء.
ثم ظهرت جمعيات تحارب التثليث، ومنها الحركة المضادة للتثليث في شمال إيطاليا في أواسط القرن السادس عشر، تلتها الحركة المعادية للتثليث التي ترأسها الطبيب المشهور جورجيو بندراثا عام (1558م)
وكان من رواد التوحيد في تلك القرن السابع عشر جون بيدل وسُمي: أبو التوحيد الإنجيلزي، وقال بردنوفسكي: «كان العلماء في القرن السابع عشر يشعرون بالحرج من التثليث».
وفي القرن التاسع عشر الميلادي أسست في عدة مناطق كنائس موحدة، وقد اجتذبت شخصيات مهمة مثل وليام شانينج، وتكوّنت عام (1825م) جمعية التوحيد الأمريكي، كما أضحت مدينة ليون الهولندية وجامعاتها مركزًا للتوحيد.
وفي مطلع القرن العشرين تزايد الموحدون وازداد نشاطهم، وأثر بوجود ما يقرب من (400) كنيسة في بريطانيا ومستعمراتها، وما يقرب من (160) كنيسة أو كليّة في المجر، وغير ذلك في قارة أوروبا, وإن كان مذهب الربوبيين قد ساهم بشدّة في منافستهم.
وفي أمريكا قام الرئيس الثالث توماس جيفرسون بتأليف إنجيل جديد هذّب فيه الأناجيل المعروفة في نسخة منقحة، وحذف منها كل ما يدل على التثليث.
وفي سنة (1825م) أسست المنظمة الموحدية في أمريكا، ثم المجمع الوطني للموحدين (1865م) ومن رؤساء الولايات المتحدة الذين نبذوا خرافة التثليث جون آدمز و توماس جيفرسن و جون قوينسي آدمز و ميلارد فلمون و وليام تافث.
وللعلم فلا توحيد على الحقيقة إلا ما أرسل الله به رسله وأنزله في كتبه، وهو الإيمان بأن الله تعالى واحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وعبادته وحده لا شريك له؛ فهذا هو التوحيد المطلق، أما إذا قيد بطائفة أو مذهب أو نحلة فهو بحسب ما قيد به ولا يعدو كونه مطلق توحيد.
هذا وعقيدة الموحدين المسيحيين تعود جذورها إلى الدين نفسه الذي علمه المسيح عليه السلام لأتباعه وهي الإسلام في العقيدة, واتباع التوراة في الشريعة مع بعض التـخفيف, فهم في الأصل ربما يكونون هم الطائفة التي آمنت بالمسيح عليه السلام وناصرته كما قال تعالى: "فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة"
 وظل بعضهم على هذا الإيمان حتى إشراق نور البعثة المحمدية على صاحبها صلوات الله وسلامه، وخلط آخرون ذلك الإيمان المسيحي الأصيل بشيء من البدع والمحدثات. مع التنبيه لبطلان كل دين غير الإسلام بعد بعثة رسولنا صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" وعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار».
إبراهيم الدميجي

22/ 11/ 1435

الأحد، 17 أغسطس 2014

براءة إلى الله من داعش وموبقاتها

براءة إلى الله من داعش وموبقاتها
الحمد لله وبعد: يقول أحد الدعاة من ذوي المشاركة في الحوارات مع المخالفين من أهل القبلة وغيرهم: لاحظت أن ظاهرة داعش أصبحت مشجبًا للتنفير من منهج سيد المرسلين وصحابته المرضيين وقفلًا مرتجًا دون وصول الرسالة السامية الصافية لقلوب أولئك، فالنصارى يصرخون بنا: هذا القتل للأبرياء هو دين محمد الذي تدعوننا إليه، فليس بنا إليه حاجة، وقد وجدت منظمات التنصير وجبة إعلامية كاملة الدسم من جرائم تلك الفئة المارقة. أما المبتدعة من غلاة المتشيعة والمتصوفة والمتكلمة وغير الغلاة بل والليبرالية فيرفعون عقائرهم بأن داعش فرع عن السلفية (ويزيدون الوهابية) وهذا دليل على أن السلفية منهج باطل يلبّس على الناس ويقتلهم بغير حق، وأن السلفية منهج غالٍ منحرف وهكذا يسحبون عوار داعش المجرمة للسلفية الرفيقة الرحيمة، ولن أعجب حين أرى بعض القراء الكرام يصعّرون خدودهم استهجانًا لوصفي السلفية بالرفق واللطف فهذا من غربة الزمان، وكم ظلمت السلفية من منتسبة لها زورًا، فكل ما خالف الكتاب والسنة فأهل السنة منه برآء وإن زعم الفاجر خلاف ذلك, فالعبرة بالحقائق لا الشعارات (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)
داعش - وما أدراك! - هي فصيل مختلط من ثلاث فئات:
الأولى: ضباط مخابرات من رافضة وأهل كتاب ومهمتهم قيادة التنظيم ووضع الاستراتيجية (غير المعلنة) ومن مهامها تأمين الدعم المالي واللوجستي، وصناعة قادة الصف الثاني (القيادة التكتيكية المحدودة) باختراق أو بعمالة، وبينهم تنسيق بسبب تقاطع مصالحهم وإن لم يتفقوا، فوحدة الهدف جمعتهم وهذا الهدف هو ضرب أهل السنة في معتقدهم وهويتهم ووحدتهم، وإشغالهم عن الإثخان في عدوهم، وإن شئت برهان ذلك فتأمل المستفيد من ضربات داعش ودعايتها بالنظر لأماكن العمليات وأوقاتها سواء في سوريا أو العراق أو لبنان أو مصر أو الخليج أو غيرها وقريبا سترونهن في غزة آن غفل حماتها عنهم، بل وفي أوروبا وأمريكا إن احتاجت تلك الدول لمبرر ما!
 ومن أهداف أولئك إشهار بشاعة أفعال داعش بشكل قُصِد منه نحت مضامين مروّعة في الخلفية الذهنية للمتلقي هنا وهناك.
وطريقة دفع هذه الفئة هي أن نكافحهم بنفس سلاحهم الماضي, فيجب أن تنبري مخابراتنا لاختراق هذا التنظيم وإعادة صياغته أسوة بغيرنا، فسلاح التجنيد والاختراق هو من أمضى الأسلحة في الميدان وما قبله وما بعده.
 الثانية: خوارج على مذهب الأزارقة وأشباههم من أفراخ ذي الخويصرة الذين يكفرون بالكبائر, ويظنّون أن من أجل القربات استباحة الدماء المعصومة والأموال المصونة لا على شيء إلا أنهم ليسوا من فئتهم, فيقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.
 وهذه الفئة ليست قليلة العدد للأسف وخطرها شديد جدًّا من جهة شدة ضلال مذهبهم ودمويته (وقد صح حديث رسول الله في تضليلهم ووعيدهم من عشرة أوجه بعضها في الصحيحين، وهم شر الخلق والخليقة، وقد توعدهم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه لئن أدركهم ليقتلنهم قتل عاد، وكذلك من جهة صدقهم وحماستهم الذاتية في ترويجه والدفاع عنه (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك ليهم حسرات آن عليم بما يصنعون)
وطريقة مدافعة هؤلاء بسلاحين هما اللسان والسنان، فباللسان تدفع شبههم وتهتك ستور مآلات مقالاتهم وتقام عليهم حجة القرآن، إضافة لجهادهم بالسلاح والقتال, ولنا في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أسوة في الأمرين, فقد أذن أولًا لابن عباس رضي الله عنهما أن يناظرهم ويكشف زيفهم, ثم قاتلهم بنفسه وبمن معه في النهروان, وفي الصحيحين: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد). وقد سجد لله شكرًا حين واتاه تحقيق البشرى السابقة بقتل ذي الثدية. فخطر هذه الفئة المارقة يكمن في تبديلهم حدود الدين سواء في النظر العلمي أو التطبيق العملي.
الفئة الثالثة: شبيبة ذوو غيرة وحماسة وحب للقتال في سبيل الله مع جهل مطبق بمناطات الأحكام ومدارك الشرع، وسوء نظر لعواقب الأمور, فساقهم الغضب مما يرونه من تقصير أو مظالم إلى ركوب أعظم المفسدتين, وأُتوا أكثر ما أُتوا من إساءة تطبيقات الولاء والبراء والردة ودار الحرب ونحوها فهم لم يلتزموا مذهب الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة ابتداءً لكنهم قلبوا قضية الواسع والمضيّق، فحجّروا الواسع مما تكلم فيه الأئمة الأعلام من شروط وأحوال أحكام الردة والكفر وإقامة الحجة وكفر الوصف ودرء الشبهة والحد ونحو ذلك مما يلزم التريث الطويل فيه والصدور عنه ببصيرة تامة لا مغبشة معتمة, وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى عن مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده؛ فليس مني ولست منه)
وفي المقابل فإنهم يوسّعون ما ضيّقه الشرع كتشديده في الدماء والأعراض والأموال, فحينما تدرأ الشريعة الحد بالشبهة نراهم يستحلونه بها (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)
والجدير ذكره أن هذه الفئة الساذجة هي حطب داعش ووقودها الأعظم، وكم من مريد للخير لم يبلغه (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)
 وفرض الوقت تجاه هذه الفئة البائسة أربعة أمور سابقان ولاحقان: فالسابقان: تحصين أفكار الناشئة والشباب ضد الغلو الفكري والانحراف المنهجي, وتلك مهمة منابر الدعوة ومحاضن والتربية ومراكز الإعلام. والثاني: تحصين نفوسهم بنشر العدالة والوضوح والرفق تطبيقًا عمليًّا لا ادعاء وتنظيرًا، وذلك حتى نمنع طفيليات الحقد وجراثيم المقت من النمو والتكاثر في خلايا جسدنا الواحد.
والأخران اللاحقان هما: مدافعتهم برفع بلائهم وشرهم باللسان فإن أبوا الفيئة فبالحرب والسنان (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) فبغيهم وظلمهم وتعديهم واضح للعيان، كفاهم الله شر نفوسهم وكفى الأمة شرهم.
أخيرًا إن كان ثمّة خير في هذه النازلة فهي نفخ روح اليقظة لدى أهل العلم والدعوة والتربية والإعلام للقيام بما يجب عليهم حيالها, فقد انتهى وقت التردد لمن كان مشتبهًا في أمرهم, فحتى وإن قيل ببعض الأكاذيب الدعائية ضدهم _ وهي ليست بقليلة _ فما لم يُقل أكثر, فالبكور البكور قبل قرع سن الندم ولا لات حين السلامة!
ومضة: هناك علاقة طردية بين علم وعقل المرء وبين احتماله لخلاف الناس وحمل الأعذار لهم, فالعلم يوسّع التسامح المنضبط في الدين, والعقل يوسّعه في الدنيا.
إبراهيم الدميجي
18/ 10/ 1435