إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

العزمُ على الرِّضا لا يستلزم الرِّضا

 

العزمُ على الرِّضا لا يستلزم الرِّضا

 

الحمد لله، وبعد؛ فزمن العزم متقدم على زمن الرضا، فالعزم سابق ماضٍ والرضا آنٍ حاضر، لذا  فقد يعزم الإنسان على أمر من الأمور كالرضا أو غيره فيعرض له عارضُ عجزٍ أو ملال أو تغيّر قناعة أو نسيان أو استغناء أو طروء أمر جدَّ له فتنفسخ عزيمته وتبرد إرادته خاصة مع طول المدى وامتداد الزمن، لذلك كان القليل الدائم خير من الكثير المنقطع، والثبات والاستمرارية على العمل الصالح محض توفيق الرب الرحيم سبحانه، فأنت تريد والله يفعل ما يريد.

فقد يعزم المرء على الرضا حتى إذا نزلت به النازلة عجز عن احتمال ورودها فخارت عزيمته ونقض ما كان أبرمه من عزمه على الرضا، والله المستعان. قال ابن تيمية رحمه الله: " الرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه والرضاء بعد وقوعه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة: "اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق؛ أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي. اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرّة، ولا فتنة مضلة، اللهم زيّنّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين".  (1)

وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لا حقيقة الرضا، ولهذا كان طائفة من المشايخ يعزمون على الرضا قبل وقوع البلاء، فإذا وقع انفسخت عزائمهم، كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره، كما قال تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل ان تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) نزلت هذه الآية لمّا قالوا: "لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه"، فأنزل الله آية الجهاد، فكرهه من كرهه.

 ولهذا كُره للمرء أن يتعرّض للبلاء بأن يوجب على نفسه مالا يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك، أو يطلب ولاية، أو يقدم على بلد فيه طاعون، كما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل".(2) وثبت عنه في الصحيحين أنه قال لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفّر عن يمينك". (3) وثبت عنه في الصحيحين أنه قال في الطاعون: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها".  (4) وثبت في الصحيحين أنه قال: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". (5) وأمثال ذلك مما يقتضي أن الإنسان لا ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء فيبخل بالوفاء، كما يفعل كثير ممن يعاهد الله عهودًا على أمور، وغالب هؤلاء يُبتلون بنقض العهود. وينبغي أن الإنسان إذا ابتُلي فعليه أن يصبر ويثبت، ولا يكلّ، حتى يكون من الرجال المُوفين القائمين بالواجبات". (6) "وما أكثر انفساخ العزائم، خصوصًا عزائم الصوفية، ولهذا قيل لبعضهم: بماذا عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم". (7)

ومن حسنت نيته وعظمت همته وصدق حاله فإن الله لا يخيبه في إراداته وعزائمه، ولكن خبث المعدن وسوء الطوية وضَعَة الهمة أسباب لرفع المعونة الربانية عنه. والله المستعان.

مَن ظَنَّ بِاللَهِ خَيرًا جادَ مُبتَدِئًا  ...   وَالبُخلُ مِن سوءِ ظَنِّ المَرءِ بِاللَهِ

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

.................................................

1.    أحمد (18351) والنسائي (1305) وصححه الألباني في الكلم الطيب (106)

2.    البخاري (8/176) مسلم (5/77 و 78)

3.    البخاري 9/79 ( 7146 ) ، ومسلم 5/86 ( 1652 ) ( 19 )

4.    البخاري 4/212 (3473) ومسلم 7/26 (2218) (92) قال العثيمين رحمه الله: "قال بعض أهل العلم: إنه نوع خاص من الوباء، وإنه عبارة عن تقرحات في البدن تصيب الإنسان وتجري جريان السيل حتى تقضي عليه، وقيل: إن الطاعون وخزٌ في البطن يصيب الإنسان فيموت، وقيل: إن الطاعون اسم لكل وباء عام ينتشر بسرعة، كالكوليرا وغيرها، وهذا أقرب". شرح رياض الصالحين (4/355)

5.    تمامه: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم". رواه البخاري 4/62 ( 2966 ) ومسلم 5/143 ( 1742 ) قال العثيمين: "في الحديث: ألا يتمنى الإنسان لقاء العدو، وهذا غير تمنّي الشهادة، تمني الشهادة جائز بل قد يكون مأمورًا به. وفيه أن يسأل الله العافية والسلامة، وإذا لقيت العدو فاصبر، وينبغي لأمير الجيش أن يرفق بهم ويختار الوقت المناسب من الناحية اليومية والفصلية، وفيه الدعاء على الأعداء بالهزيمة". شرح رياض الصالحين (1/131)

6.    أمراض القلوب (1 / 53-54) مجموع الفتاوى (10/  37-39)

7.    مجموع الفتاوى (10 / 689)

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق