إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

ماهيّةُ الرّضا

 

ماهيّةُ الرّضا

 

الرضا: هو طيب إحساس القلب نحو غيره، وشعوره بقبوله والاطمئنان إليه، وعدم سُخطه والنفور منه. وإذا كمُل فهو امتلاء القلب به.

والرضا: مصدر رضي يرضى، وهو مأخوذ من مادة (ر ض و) التي تدل على خلاف السخط. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السّخط". (1)

وقيل في حده كذلك: هو سرور القلب بمُرّ القضاء. وقيل: الرضا: ارتفاع الجزع في أي حكم كان، وقيل: الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلب، فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضا.

وقيل: استقبال الأحكام بالفرح. وقيل: سكون القلب تحت مجاري الأحكام. وقيل: نظر القلب إلى قديم اختيار الله للعبد فإنه اختار له الأفضل، وهو ترك السخط.

وقال المناوي: "الرضا طيب نفسيٌّ للإنسان بما يصيبه أو يفوته مع عدم التغيّر، وقول الفقهاء: "يشهد على رضاها"، أي: إذنها، فجعلوا الإذن رضا لدلالته عليه".(2)

 والرضوان: هو الرضا الكثير، ولما وصف الله ما أعدّه لأوليائه في الجنة نبّه إلى رضوانه – أو أنَّ جزءًا من رضوانه (3) - أعظمُ من الجنة وما فيها، فقال: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) وتأمل تأكيد الفوز بـ"هو". نسأل الله الكريم من فضله. 

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربَّنا وسعديك، والخيرُ في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأيُّ شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخطُ عليكم بعده أبدًا". متفق عليه. (4) ولعل هذا سبب تخصيص الصحابة بالدعاء بالرضا وغيرهم بالرحمة؛ لأن الرضا أرفع وأكمل، ففيه تضمُّنٌ للحُبّ والقبول، ولا يُشترط ذلك في حَدّ الرحمة؛ لأنها إنالة المقصود والحفظ من المخوف، فهي - وإن تضمّنت حبًّا وقبولًا- لكنها ليست بذلك الظهور والكثرة في الرضا، والله أعلم.

أما عن إملائها؛ فإنَ الأقعد والأشبه في كتابة الرضا أن تكتب بالألف الطويلة (رضا) وليس (رضى) لأنّ أصل هذه الألف هو الواو وليس الياء، فتقول: رضيَ يرضى رضًا ورضوانًا. وتثنيةُ رضا: رِضَوَان إذ أنّ أصلها واو (رضو). وفي الأمر سعة بحمد الله، فكلاهما صحيح ولا مشاحّة في ذلك، (5) فهي من الأفعال الواوية واليائية التي تكتب ألفها ممدودة ومقصورة، وقد قال الفرّاء في كتاب المنقوص والممدود: "الحما والرضا يكتبان بالألف والياء، لأن الكسائي سمع العرب تقول: حِمَوَان ورِضَوَان، وحِمَيان ورِضَيان". (6) أي في تثنية الرِّضا، فمِن العرب من يقولهما بالياء على الأَصل، والواو أَكثر.

قال ابن قتيبة: "وإذا ورد عليك حرف قد ثُنِّيَ بالياء وبالواو عملت على الأكثر الأعمّ، نحو رَحَى؛ لأن من العرب من يقول ( رَحَوْت الرَّحَا ) ومنهم من يقول ( رَحَيْت الرَّحى )، وأن تكتبها بالياء كان أحبّ إليَّ؛ لأنها اللغة العالية، وكذلك ( الرِّضَا ) من العرب من يثنيه ( رِضَيَانِ ) ومنهم من يثنيه ( رِضَوَانِ ) وأن تكتبه بالألف أحَبُّ إلَيَّ لأن الواو فيه أكثر وهو من ( الرِّضْوَانِ )". (7) إذن فكلاهما عربيّةٌ صحيحة على الجادة، فلا تثريب.

 فإن كانت على سياق المصدر راضا رضاءً بمعنى المراضاة فتكتب (رضاء). وقال ابن فارس: "(رضي) الراء والضاد والحرف المعتلّ أصلٌ واحد يدلُّ على خلاف السُّخْط. تقول: رضِي يرضَى رِضًى. وهو راضٍ، ومفعوله مرضِيٌّ عنه. ويقال: إِنّ أصله الواو؛ لأنّه يقال منه رِضوَان. قال أبو عبيد: راضانِي فلانٌ فرَضَوْتُه". (8)

وقال الأزهري: "قال الليث: رَضِي فلان يَرضَى رِضًى. والرَّضِيُّ: المَرْضِيُّ، والرِّضى مقصورٌ. قلت: وإذا جعلت الرِّضا مصدر راضيته رِضاءً ومُراضاةً فهو ممدود، وإذا جعلته مصدر رَضِي يَرضَى رِضًى فهو مقصور. والقرَّاء كلهم قرءوا الرِّضوان - بكسر الراء - إلا ما روى عن عاصم أنه قال: رُضوَان، وهما لغتان. ويقال: فلان مَرْضِيٌّ، ومن العرب من يقول: مَرْضُوٌّ، لأنه من بنات الواو، والله أعلم". (9) ونقل ابن سِيده عن ابن جِنّي: "والرِّضَاء مصدر راضَيْته رِضَاءً، وأنشد:

لم نُرَحِّب بما سَخِطتَ ولكنْ ... مَرْحبًا بالرِّضاءِ منك وأهْلًا

وإنما لم يُعادَل به الرِّضَى المقُصور لقِلَّة مدّ الرِّضى". (10) وقال ابن دريد: "والرِّضى: ضد الغضب. والرِّضاء، ممدود: مصدر راضيتُه مراضاةً ورِضاءً". (11)

أما ابن خلدون فقد بسطه كعادته فقال: "الرِّضا مقصورٌ ضدُّ السَّخَطِ، وفي حديث الدعاء: "اللهم إني أَعوذُ برضاكَ من سَخَطِكَ، وبمُعافاتِكَ من عُقوبَتِكَ، وأَعوذُ بك منك، لا أُحْصي ثَناءً عليك، أَنت كما أَثْنَيْتَ على نفسك". (12) ورَضيتُ عنك وعَلَيْكَ (13) رِضًى مقصورٌ مصدرٌ مَحْضٌ، والاسمُ الرِّضاءُ ممدودٌ. عن الأَخفش قال القُحَيْفُ العُقَيْلي:

إذا رَضِيَتْ عَليَّ بَنو قُشَيْرٍ   ...    لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَني رِضاها

ولا تَنْبو سُيوفُ بَني قُشَيْرٍ    ...    ولا تَمْضي الأَسِنَّةُ في صَفاها

عدّاه بـ"عَلى" لأَنَّها إذا رَضِيَتْ عنه أَحَبَّتْه وأَقْبَلَت عليه، فلذلك اسْتَعْمل على بمعنى عَنْ. قال ابن جني: وكان أَبو عَلِيٍّ يستحسن قول الكسائي في هذا لأَنه لمَّا كان رَضيتُ ضِدَّ سَخِطْت عَدَّى رَضيتُ بعَلى حملًا للشيء على نقيضه كما يُحْمَلُ على نَظيره.

وأَرْضاهُ: أَعْطاهُ ما يَرْضى به. وتَرَضّاهُ: طَلَب رِضاه. والرَّضِيُّ المَرْضِيُّ. ورَضيتُ الشيءَ وارْتَضَيْتُه فهو مَرْضيٌّ. وقيل: (في عيشَةٍ راضِيَة): أَي مَرْضِيَّة، أَي ذات رضًى". (14)

وهناك كلمات تأتي بمعنى الرضا أو تقاربه، مثل القناعة، فالقانع: هو الراضي باليسير. وأقنعه: أرضاه. وكذلك الركون وهو السكون برضى كما في قول الله تعالى: { وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } أي لا ترضوا أعمالهم. وقد يأتي الحمد بمعنى الرضا، كقولك: بلوته فحمدته، أي: اختبرته فرضيته، وإن كان في الحمد إظهار للمَمَادح وتنويه بها. وبالله التوفيق.

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

...........................

1-    البخاري 7/109 ( 5470 ) ، ومسلم 6/174 ( 2144 ) ( 23 ).

2-    التعريفات للجرجاني (111)، مدارج السالكين لابن القيم (2/ 185)، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (178) نضرة النعيم (6 / 2103)

3-    على قول الشوكاني رحمه الله تعالى، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في المدارج (2/208): "إن رضا الله عن العبد أكبر من الجنة وما فيها، لأن الرضا صفة الله والجنة خلقه، قال الله تعالى: (ورضوان من الله أكبر) بعد قوله: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم).

قال الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله تعالى: "الشوكاني صاحب علم وسياسة، استطاع أن يسلك بالزيدية طريق السنة". ثم قال: "الشوكاني المحدث الكبير الذي خدم الحديث خدمة لامثيل لها في ذلك الزمن".

4-    البخاري 8/142 (6549)، ومسلم 8/144 (2829) (9).

5-    ولا بأس بالترخص بدليله في اللغة نحوًا وصرفًا ودلالة تسهيلًا للناس، خاصة مع انتشار العُجمة.

6-    انظر: لسان العرب (14/  323).

7-    أدب الكاتب (1 / 205).

8-    معجم مقاييس اللغة لابن فارس (2/  402).

9-    تهذيب اللغة (4/  167).

10-                    المخصص (4/  104).

11-                    جمهرة اللغة (2/  100).

12-                    مسلم 2/51 (485) قال ابن الأَثير: "فإنما قدم الاستعاذة بالرِّضا على السَّخَط لأَنَّ المُعافاة من العُقوبة تحصل بحصول الرضا، وإنما ذكرها لأَنّ دلالة الأُولى عليها دلالة تضمن، فأَراد أن يدلّ عليها دلالة مطابقة؛ فكنّى عنها أَولًا ثم صرح بها ثانيًا، ولأَن الراضِيَ قد يعاقِب للمصلحة أَو لاستيفاء حقِّ الغير".

13-                    والثانية مشهورة على ألسنة العامة وهي كما ترى صحيحة، لأن لفظ الرضا يتعدَّى بعن وبعلى، فتقول: رضي الله عنك، ورضي عليك.

14-                    لسان العرب (14/  323) مختصرًا.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق