إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

إيثارُ رضا الله تعالى على رضا غيره

 

إيثارُ رضا الله تعالى على رضا غيره

 

الحمد لله، وبعد؛ فإيثار مرضاة الله تعالى على غيره في باب الرضا له جهتان، فمن جهةِ دافعه فهو تابع للإرادة والمجاهدة، ومن جهة سكينةِ صاحبه على الأمر المرضيّ لله فهو عين الرضا، ومرتبة الرضا هنا لديه تكون بقدر سكينة قلبه عليها، ولعلّ أكثر العُبّاد يتردّدون بين الدرجات الدنيا والمتوسطة من الرضا، أما الخُلّص فلهم التّامّ الخالص، نسأل الله تعالى من فضله وكرمه.

وعليه؛ فإيثار مرضاة الله تعالى أعمّ من مجرّد الرضا لاشتماله على الإرادة والمجاهدة، فالرضا سكون وطمأنينة وراحة وأُنس بالله وبتدبيره تبارك وتعالى، أما إيثار مرضاته وخاصة عند غلبة الهوى، ونزاع النفس الشديد، وجهاد وسواس الشيطان، واقتلاع العادة المستحكمة، فالسكون بعد ذلك عند اختيار الجانب الصعب الشديد فهو نوع خاص جميل من الرضا.

ومن الناس من يطوي مراحله سريعًا، ومنهم من يحتاج لزمان طويل، ومنهم بين ذينك، ومنهم السابق الفاذّ وهو الذي لا تنازعه نفسه أصلًا لطمأنينتها لأمر ربها، والتذاذها ابتداءًا ورضاها التام بأمره الشرعي بالائتمار بأمره، والقدري بالسكون والطمأنينة، فهي مؤثرة في ثوب راضية.

وهذا في الحقيقة راجع لجوهر الرضا ولُبابه، لأنّ معدن الرضا هو الدوران مع أمر  الله تعالى، فلله تعالى أمران: قدريّ، وشرعيّ، فالائتمار الشرعيّ هنا هو الإيثار، وهو أشقُّهما وأفضلهما، لأنّ القدري نافذٌ لا  محالة، وهو غالبًا رضًا بما مضى وقُدّر، فهو يرضى اضطرارًا ولو في ثاني وثالث الحال، وإنما يتفاوت الراضون هنا بسرعة الرضا عند نزول مرّ القضاء، أما الشرعي فهو غالبًا لما يُستقبل من الأمور، فهو يرضى اختيارًا، لهذا فهو أثقل على النفس؛ لأن الأمر بالنسبة لها لم يُفرغ منه من جهتها – لا من جهة الله تعالى-.

ولا تخلو حركة ولا سَكَنة في هذا العالم إلا ولله تعالى فيها حُكْمٌ وحكمة، والموفّق من دار مع أحكام شريعة ربنا حيث دارت، وتبعها حيثما ذهبت، ويمّم وجهتا حيثما استقلّت، ولزمها أينما حلّت.

والناس في تحقيق الرضا والامتلاء به وتقديمه على درجات متفاوتة كثيرة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال صاحب المنازل رحمه الله: "الإيثار: تخصيص واختيار، والأَثَرة: تحسُنُ طوعًا وتصحُّ كرهًا" فرّق الشيخ بين الإيثار والأثرة، وجعل الإيثار اختيارًا، والأثرة منقسمة إلى اختيارية واضطرارية، وبالفرق بينهما يُعلم معنى كلامه. فإن الإيثار هو البذل وتخصيصك لمن تؤثره على نفسك، وهذا لا يكون إلا اختيارًا، وأما الأثرة فهي استئثار صاحب الشيء به عليك وحوزه لنفسه دونك، فهذه لا يُحمد عليها المستأثَرُ عليه إلا إذا كانت طوعًا، مثل أن يَقْدِرَ على منازعته ومجاذبته فلا يفعل ويدعه وأثرته طوعًا فهذا حسن، وإن لم يقدر على ذلك كانت أثرة كُرْهٍ.

 ويعني بالصحة: الوجود، أي توجد كُرْهًا، ولكن إنما تحسُنُ إذا كانت طوعًا من المستأثَرِ عليه. فحقيقة الإيثار: بذل صاحبه وإعطاؤه، والأَثَرَةُ: استبداله هو بالمُؤثَرِ به، فيتركه وما استبدل به إما طوعًا وإما كرهًا، فكأنك آثرته باستئثاره حيث خلّيت بينه وبينه ولم تنازعه. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله". (1)

 قال الهروي: "وهو على ثلاث درجات؛ الدرجة الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يحرم عليك دينًا، ولا يقطع عليك طريقًا، ولا يفسد عليك وقتًا". يعني: أن تقدّمهم على نفسك في مصالحهم؛ مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدّي ذلك إلى ارتكاب إتلافٍ لا يجوز في الدين، ومثل أن تؤثرهم بمالك، وتقعد كَلًّا مُضطرًّا مستشرفًا للناس أو سائلًا، وكذلك إيثارهم بكل ما يُحرِّمُه على المؤثِرِ دينُه؛ فإنّه سَفَهٌ وعجز يُذمُّ المُؤثِر به عند الله وعند الناس.

 وأما قوله: "ولا يقطع عليك طريقًا" أي لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى؛ مثل أن تؤثر جليسك على ذكرِك وتوجُّهِكَ وجمعيّتك على الله، فتكون قد آثرته على الله، وآثرت بنصيبك من الله ما لا يستحقّ الإيثار، فيكون مثلك كمثل مسافر سائر على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخذ يحدّثه ويلهيه حتى فاته الرّفاق، وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى، فإيثارهم عليه عينُ الغبن، وما أكثر المُؤثِرِين على الله تعالى غيره، وما أقلّ المُؤثِرين الله على غيره!

 وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيحٌ أيضًا، مثل أن يؤثر بوقته ويفرّق قلبه، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمّه على الله، فيفرّق قلبه عليه بعد جمعيّته ويشتّت خاطره، فهذا أيضًا إيثار غير محمود.

 وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهمّاتهم ومصالحهم التي لا تتعيّن عليك على الفكر النافع واشتغال القلب بالله، ونظائر ذلك لا تخفى، بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم، وكلّ سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله؛ فلا تؤثر به أحدًا، فإن آثرت به فإنّما تُؤثر الشيطان على الله وأنت لا تعلم! وتأمّل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله مَن يضرُّهم إيثارهم له ولا ينفعهم، وأي جهالة وسفه فوق هذا؟!

 ومن هذا تكلّم الفقهاء في الإيثار بالقُرَبِ وقالوا: إنه مكروه أو حرام، كمن يُؤثر بالصفّ الأول غيرَه ويتأخّر هو، أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة، أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة، أو يؤثره بعلمٍ يحرمه نفسه ويرفعه عليه فيفوز به دونه.

 وتكلّموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها، وأجابوا عنه: بأنّ الميت ينقطع عمله بموته، فلا يُتصوّر في حقّه الإيثار بالقرب بعد الموت، إذ لا تَقَرُّبَ في حقّ الميّت، وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها، فالإيثار به قربةٌ إلى الله عز وجلّ للمؤثِرِ، والله أعلم.

 قال الهروي: "ولا يستطاع إلا بثلاثة أشياء: بتعظيم الحقوق، ومقْتِ الشُّحِّ، والرغبة في مكارم الأخلاق". ذكرَ ما يعين على الإيثار فيبعث عليه، وهو ثلاثة أشياء:

الأول: تعظيم الحقوق، فإنّ مَن عظمت الحقوق عنده قام بواجبها، ورعاها حقّ رعايتها، واستعظم إضاعتها، وعلم أنّه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدّها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطًا لأدائها.

 الثاني: مقتُ الشّحّ، فإنّه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار، فإنّه يرى أنه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلا بالإيثار.

 الثالث: الرغبة في مكارم الأخلاق، وبحسب رغبته فيها يكون إيثاره، لأنّ الإيثار أفضلُ درجات مكارم الأخلاق.

قال: "الدرجة الثانية: إيثارُ رضا الله على رضا غيره، وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن، وضعف عنه الطَّوْلُ والبدن". إيثار رضا الله عز وجل على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ولو أغضب الخلق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبيّنا صلى الله عليه وسلم. فإنّه قاوم العالم كلّه، وتجرّد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من كلّ وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم، بل كان همّه وعزمه وسعيه كلّه مقصورًا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته وإعلاء كلماته وجهاد أعدائه، حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمّت نعمته على المؤمنين، فبلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحدٌ من درجة هذا الإيثار ما نال صلوات الله وسلامه عليه. وأما قوله: "وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن". فإن المحنة تعظم فيه أولًا ليتأخّر مَنْ ليس من أهله، فإذا احتملها وتقدّم انقلبت تلك المحن منحًا، وصارت تلك المؤن عونًا، وهذا معروف بالتجربة الخاصة والعامة، فإنّه ما آثر عبدٌ مرضاة الله عز وجل على مرضاة الخلق، وتَحمَّلَ ثقل ذلك ومؤنته، وصبر على محنته؛ إلا أنشأ الله من تلك المحنة والمؤنة نعمةً ومسرّة ومعونة بقدر ما تحمّل من مرضاته، فانقلبت مخاوفه أمانًا، ومظانُّ عَطَبِهِ نجاة، وتعبُه راحةً، ومؤنته معونة، وبليّته نعمة، ومحنته منحة، وسخطه رضًا، فيا خيبة المتخلّفين، ويا ذلّة المُتهيّبين!

 هذا وقد جرت سنّة الله التي لا تبديل لها (2) أنّ من آثر مرضاة الخلق على مرضاته أن يُسخط عليه من آثر رضاه، ويخذله من جهته، ويجعل محنته على يديه، فيعود حامده ذامًّا، ومن آثر مرضاته ساخطًا؛ فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل، وهذا أعجز الخلق وأحمقهم.

 هذا مع أنّ رضا الخلق لا مقدور ولا مأمور ولا مأثور، فهو مستحيل، بل لا بد من سخطهم عليك، فلَأنْ يسخطوا عليك وتفوز برضا الله عنك أحبّ إليك وأنفع لك من أن يسخطوا عليك واللهُ عنك غير راض، فإذا كان سخطهم لا بد منه على التقديرين فآثِرْ سخطهم الذي يُنال به رضا الله، فإن هم رضوا عنك بعد هذا؛ وإلّا فأهونُ شيء رضا من لا ينفعك رضاه ولا يضرك سخطه في دينك ولا في إيمانك ولا في آخرتك، فإن ضرّك في أمر يسير في الدنيا فمضرّة سخط الله أعظم وأعظم.

 وخاصّةُ العقل احتمالُ أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، فوازن بعقلك، ثم انظر أيّ الأمرين وأيّهما خير فآثرْه، وأيّهما شرّ فابعد عنه، فهذا برهان قطعيّ ضروريّ في إيثار رضا الله على رضا الخلق.

 هذا مع أنه إذا آثر رضا الله كفاه الله مؤنة غضب الخلق، وإذا آثر رضاهم لم يكفوه مؤنة غضب الله عليه. قال بعض السلف: "لَمُصانعة وجه واحد أيسر عليك من مصانعة وجوه كثيرة، إنك إذا صانعت ذلك الوجه الواحد كفاك الوجوه كلها". وقال الشافعي رضي الله عنه: "رضا الناس غاية لا تدرك، فعليك بما فيه صلاح نفسك فالزمه". ومعلومٌ أنه لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره، ولقد أحسن أبو فراس (3) في هذا المعنى إلا أنه أساء كل الإساءة في قوله إذ يقوله لمخلوق لا يملك له ولا لنفسه نفعًا ولا ضرًّا:

فليتك تحلو والحياةُ مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنامُ غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ... وبيني وبين العالمين خرابُ

إذا صحَّ منك الودّ فالكلّ هيّنٌ ... وكلّ الذي فوق التراب ترابُ

 ثم ذكر الشيخ (4) رحمه الله ما يُستطاع به هذا الإيثار العظيم الشأن فقال: "ويستطاع هذا بثلاثة أشياء: بطيب العود، وحسن الإسلام، وقوّة الصبر".

 من المعلوم أنّ المؤثر لرضا الله متصدٍّ لمعاداة الخلق وأذاهم وسعيهم في إتلافه ولا بدّ، هذه سنّة الله في خلقه وإلا فما ذنب الأنبياء والرسل والذين يأمرون بالقسط من الناس، والقائمين بدين الله الذابّين عن كتابه وسنة رسوله عندهم؟!

 فمن آثر رضا الله فلا بد أن يعاديه رذالة العالم وسقطهم وغَرْثَاهم (5) وجُهّالهم وأهل البدع والفجور منهم وأهل الرياسات الباطلة وكلّ من يخالف هديُه هديَه، فما يقدم على معاداة هؤلاء إلا طالب الرجوع إلى الله، عامل على سماع خطاب: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) ومن إسلامه صلب كامل لا تزعزعه الرجال ولا تقلقله الجبال، ومَنْ عَقْدُ عزيمةِ صبره مُحكم لا تحلّه المحن والشدائد والمخاوف.

 قلت: وملاك ذلك أمران: الزهد في الحياة والثناء، فما ضَعُفَ من ضعف وتأخّر من تأخر إلا بحبّه للحياة والبقاء وثناء الناس عليه ونفرته من ذمّهم له، فإذا زهد في هذين الشيئين تأخّرت عنه العوارض كلّها، وانغمس حينئذ في العساكر.(6)

 وملاك هذين الشيئين بشيئين: صحّة اليقين وقوّة المحبة، وملاك هذين بشيئين أيضًا: بصدق اللجإ والطلب، والتصدّي للأسباب الموصلة إليهما، فإلى ههنا تنتهي معرفة الخلق وقدرتهم. والتوفيق بعدُ بيدِ من أزمّة الأمور كلها بيده، (وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ).

قال (7): "الدرجة الثالثة: إيثارُ إيثارِ الله، فإنّ الخوض في الإيثار دعوى في الملك، ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله، ثم غَيْبَتك عن التَّرك". يعني بإيثار إيثار الله: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك، وأنه هو الذي تفرّد بالإيثار لا أنت، فكأنّك سلّمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء فإن الذي آثره هو الحق لا أنت، فهو المؤثّر حقيقة، إذ هو المعطي حقيقة.

 ثم بيّن الشيخ السبب الذي يصحّ به نسبة الإيثار إلى الله وترك نسبته إلى نفسك فقال: "فإن الخوض في الإيثار دعوىً في الملك" فإذا ادّعى العبد: أنه مؤثر فقد ادّعى ملك ما آثر به غيره، والملك في الحقيقة إنما هو لله الذي له كلّ شيء، فإذا خرج العبد عن دعوى المُلْك فقد آثرَ إيثار الله، وهو إعطاؤه على إيثار نفسه، وشهد أن الله وحده هو المؤثِّرُ بمِلكِه، وأمّا من لا ملك له فأيُّ إيثار له؟!

وقوله: "ثم تركُ شهود رؤيتك إيثار الله"، يعني: أنّك إذا آثرت إيثار الله بتسليمك معنى الإيثار إليه بقيَتْ عليك من نفسك بقيّة أخرى لا بد من الخروج عنها؛ وهي أن تُعرِضَ عن شهودك رؤيتَك أنّك آثرت الحق بإيثارك، وأنّك نسبت الإيثار إليه لا إليك، فإنّ في شهودك ذلك ورؤيتك له دعوىً أخرى هي أعظم من دعوى المُلْك، وهي أنك ادّعيت أنّ لك شيئًا آثرتَ به الله وقدّمته على نفسك فيه بعد أن كان لك، وهذه الدعوى أصعب من الأولى، فإنها تتضمن ما تضمّنته الأولى من المُلْك، وتزيد عليها برؤية الإيثار به. فالأول: مُدّع للملك مُؤثِرٌ به، وهذا مُدّع للملك ومُدّع للإيثار به. فإذن يجب عليه ترك شهود رؤيته لهذا الإيثار، فلا يعتقد أنه آثر الله بهذا الإيثار، بل الله هو الذي استأثر به دونك، فإن الأثرة واجبة له بإيجابه إيّاها بنفسه لا بإيجاب العبد إيّاها له. (8)

وقوله: "ثم غَيْبتُك عن التَّرك" يريد: أنك إذا نزلت هذا الشهود وهذه الرؤية بقيت عليك بقيّة أخرى وهي رؤيتك لهذا التّرك المتضمنة لدعوى ملكك للتَّرك، وهي دعوى كاذبة، إذ ليس للعبد شيء من الأمر، ولا بيده فعلٌ ولا تركٌ، وإنما الأمر كله لله. (9)

وقد تبيّن في الكشف والشهود والعلم والمعرفة أن العبد ليس له شيء أصلًا، والعبد لا يملك حقيقة، إنّما المالك بالحقيقة سيده، فالأثرة والإيثار والاستئثار كلها لله ومنه وإليه، سواء اختار العبد ذلك وعلمه أو جهله أم لم يختره، فالأثرة واقعة كَرِهَ العبدُ أم رضي، فإنّها استئثار المالك الحق بملكه تعالى، وقد فهمت من هذا قوله: "فإنّ الأثرة تحسُنُ طوعًا، وتصِحُّ كرهًا، والله سبحانه وتعالى أعلم". (10) والحمد لله رب العالمين.

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

...............................

1.    أحمد (22700) قال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن إسحاق، وقد توبع". قال السندي: قوله: "على السمع والطاعة" صلة بايعنا، بتضمين معنى العهد، أي: على أن نسمع كلامك ونطيعك في مرامك، وكذا من يقوم مقامك من الخلفاء من بعدك. "ومنشطنا ومكرهنا" مفعل، بفتح ميم وعين، من النشاط والكراهة، وهما مصدران، أي: في حالة النشاط والكراهة، أي: حالة انشراح صدورنا وطيب قلوبنا وما يضاد ذلك، أو اسما زمان، والمعنى واضح، أو اسما مكان، أي: فيما فيه نشاطهم وكراهتهم، كذا قيل، ولا يخفى أن ما ذكره من المعنى على تقدير كونهما اسمي مكان بعيد. "وأثرةٍ علينا" أي: على تفضيل غيرنا علينا، والمراد: أي على الصبر إن فضّل أحد علينا، فالمطلوب الصبر عند الأثرة، لا نفس الأثرة. و"الأمر"، أي: أمر الإمارة، أو كل أمر. و"أهله" الضمير للأمر، أي: إذا وكل الأمر إلى من هو أهله، فليس لنا أن نجرّه إلى غيره، سواء أكان أهلا أم لا". عن تحقيق مسند أحمد، طبعة الرسالة (24 / 414)

2.    فقه السنن فقه شريف، يحوزه بإذن الله من وفقه الله تعالى ببسط علمه وتجربته وفِكره، فالله قد خلق الكون وفق نواميس خلقها له، وجعلها قوانين يمشي عليها، وأسبابًا تُفضي لمُسبَّبَاتها، فيتفرّس المؤمن الموفّق للبدايات وهو يرى النهايات إجمالًا قياسًا على مشابهاتها لاتحاد العلل، واستشرافًا لعواقبها علمًا بالسُنن، لظهور الأسباب لديه وارتباطها بالعواقب لديها، (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا).

ولا يكسر سبحانه هذه النواميس والسنن إلا لحكمة ربّانية، وهذا الكسر يكون وفق سُننٍ ونواميس جعلها الله كذلك، كنصرٍ لدينه وانتصارٍ لمظلوم في حال يقتضيه، وإغاثة لمضطر ملحٍّ بالدعاء، وغير ذلك، (ما فرطنا في الكتاب من شيء).

3.    أبو فراس الحمداني. (320 – 357) الحارث بن سعيد بن حمدان التغلبي الربعي، أبو فراس. شاعر أمير، فارس، ابن عم سيف الدولة. له وقائع كثيرة، قاتل بها بين يدي سيف الدولة، وكان سيف الدولة يحبه ويجله ويستصحبه في غزواته ويقدمه على سائر قومه، وقلّده منبج وحران وأعمالها، فكان يسكن بمنبج ويتنقل في بلاد الشام.

جرح في معركة مع الروم، فأسروه وبقي في القسطنطينية أعوامًا، ثم فداه سيف الدولة بأموال عظيمة. قال الذهبي: كانت له منبج، وتملّك حمص وسار ليتملك حلب فقتل في تدمر، وقال ابن خلّكان: مات قتيلًا في صدد (على مقربة من حمص)، قتله رجال خاله سعد الدولة. دواوين الشعر العربي على مر العصور (1 / 50)

4.    أي: أبو إسماعيل عبد الله الهروي الحنبلي، صاحب منازل السائرين، وذمّ الكلام وأهله.

5.    من الغَرْث: وهو الجوع. ومنه قول حسان في مدح الصدّيقة رضي الله عنهما: وتصبح غرثى من لحوم الغوافلِ. وقصد ابن القيم بالغرث هنا جوع الروح لصالح الأخلاق لمّا لم تكن فيها.

6.    أي مددُ الله له ونصرته.

7.    يعني الشيخ أبا إسماعيل الهروي رحمه الله تعالى.

8.    وهذا من تمام شهود توحيد الربوبية.

9.    وليس تصوّر هذا وتحديث النفس به شرط لسلوك الصراط المستقيم، لأنّ العبد إذا آمن أنّ الله خالق كل شيء ومالك كل شيء ومدبّر كل شيء؛ فإنّه بذلك ينتظم كل توجهات وتصوّرات وأعمال قلبه، وهذا كافيه في الحقيقة، وهذه التفاصيل المسلكية الدقيقة إنّما تصلح لمن شغل نفسه بهذا وانهمك فيه وانغمس في مجاهدات القلب به.

 وقلتُ: تصلح له؛ لأنّ من اشتغل بذلك فإن لم يوفّق لتفصيل شيخ مُسدّد، وإلا فيُخشى عليه من أمرين: أولاهما: متالف الوساوس، حين يخلو بفكره مع نفسه بلا قيدِ عِلم. والثاني: مزالق الأباطيل، حين يأخذ بيده شيخ خرافة أو سالك بدعة.

هذا، وبيان خداع النفس وخطراتها وتلبيسات الشيطان وتسويلاته فيها ومداخِله في النيات ونحوها طيّب وفاضل، لكن لا بد من العلم والحكمة والأناة في تناولها تأصيلًا وتطبيقًا، فقد يُوفّق الكاتب في ذلك فيجلو للقارئ رينًا كان بقلبه، أو يدفع شبهة محيّرة لعقله، أو خطرةً مقلقةً للبُّه، فيُريح قلبه من ثقل همٍّ ليس مكلّف به، وكم من حرفٍ أراح صدرًا! وفي المقابل قد تقصر أفهام بعض الناس عن إدراك مقصود المؤلف، وقد يفوت المصنّف قيدٌ أو تبيان ونحو ذلك، بل قد لا يُوفّق أصلًا للهدى في تقعيده وتأصيله، فيَضِلّ ويُضلّ!

ومن ذلك أن الحارث المحاسبي رحمه الله لما صنّف كتابه الرعاية في الخطرات والوساوس قرأه فئامٌ من أهل الاجتهاد والإخلاص؛ فشوّش عليهم جمعيّة قلوبهم لأنّه فتح أذهانهم لمجاهدة وتحقيق ودفع أمور عاديّة تجري على كلّ الناس مما لم يكلّفهم الله بها، فاجتهدوا فوق طاقتهم بمراقبة تلك الخطرات والوساوس وتنقيبها وتقليب النظر فيها، فعاد عليهم ذلك بالقنوط واليأس والفشل والكآبة، وتشتّتْ جمعيّتهم، وتفرّقت نيّاتهم، فانقطع كثير منهم عمّا كانوا فيه من الخير والنسك قبل دخول ذلك الكتاب عليهم!

 وقد تنبّه الإمام أحمد لذلك فمنع من الحارث وكتبه بل ومن مصاحبته. وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في تلبس إبليس (ص: 161) أنّ أبا زرعة سُئل عن المحاسبي وكتبه، فقال للسائل: "إيّاك وهذه الكتب، بدع وضلالات، عليك بالأثر؛ فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. قيل له: في هذه الكتب عبرة! فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه عبرة. بلغكم أنّ مالكًا أو الثوري أو الأوزاعي أو الأئمة صنّفوا كتبًا في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟!".

وعليه؛ فإنّ التدقيق والتعمّق المتكرر الشديد في النّية وطبيعة النفس ووسواسها قد يوصل المرء للحيرة والاضطراب، ومن ثمّ الانقطاع والفشل، بل والخَبَل أحيانًا عند بعض من يقصر فهمه عن دفع وارد فكره.

وتأمّل هذه الحروف النفيسة للشيخين: قال ابن القيم رحمه الله في أقسام النفوس وطبائعها وانقسام الناس بالنسبة إليها: "وسألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والأشغال بتنقية الطريق وبتنظيفها. فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس -وهو جُبُّ القَذَر-، كلّما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره.

فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مثل آفات النفس مثل الحيّات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السير قطّ، ولكن لتكن همّتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله، ثم امض على سيرك. فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدًّا وأثنى على قائله". وانظر: المدارج (2/ 313، 314)، مجموع الفتاوى (2/ 479)، المستدرك على مجموع الفتاوى (5 / 229) وبالله التوفيق.

10.                    مدارج السالكين (2/  296 - 304) باختصار.

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق