إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

الرضا والبلاء

 

الرضا والبلاء

 

الحمد لله، وبعد؛ فإن معيار الرضا هو البلاء، وإلا فالنعيم مرضيّ على كل حال، أما البلاء فالغريزة تمنع الرضا به ما لم يأتها دافع من خارجها يُحبِّب لها الرضا ويقلب مرارته حلاوة، فالدواء كريه المأخذ رضيٌّ الغاية، وابتغاء الأجر والتقلّب مع مراد الحبيب حيثما أراد، فأحبّه إليه أحبّه إليه، والعاقبة: "فمن رضي فله الرضا". (1)

وروى الطبراني في الكبير أن عمران بن حصين رضي الله عنه اشتكى، فدخل عليه جار له، فاستبطأه في العيادة، فقال له: يا أبا نجيد، إن بعض ما يمنعني من عيادتك ما أرى بك من الجهد. قال: فلا تفعل، فإنّ أحبّه إليّ أحبّه إلى الله، فلا تبتئس لي بما ترى، أرأيت إذا كان ما ترى مجازاة بذنوب قد مضت، وأنا أرجو عفو الله على ما بقي، فإنه قال: { وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }. (2)

ومن البشارات للعبد الصالح المريض أو العاجز عن صالحات أعمال كان قد اعتادها لسفر أو حبس أو غيره أنّ ثوابها يجري له وإن لم يعمل، كرامةً من الله وَجُودًا، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا". (3) فعلى المريض ومن في حكمه أن يصبر ويرضى ويحمد ويشكر الله على هذا البلاء، فإن ذلك عبودية الضراء.

وخيرًا للمؤمن أن تعجّل عقوبته في الدنيا – إذا لم يكتب له ربه مغفرة لها وعفوًا عنها – ويعظم التكفير ويجلُّ الجزاء بحسب حجم الابتلاء ودرجة وقوعه على العبد، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده خيرًا عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به (4) يوم القيامة. وإن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط". (5) قال العثيمين رحمه الله شارحًا: "الأمور كلها بيد الله عز وجل وبإرادته، لأن الله يقول عن نفسه: (فعال لما يريد) ويقول: { إن الله يفعل ما يشاء } فكل الأمور بيد الله، والإنسان لا يخلو من خطأ ومعصية وتقصير في الواجب، فإذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا إما بماله أو بأهله أو بنفسه أو بأحد ممن يتصل به.

المهم أن تعجل له العقوبة، لأن العقوبات تكفر السيئات، فإذا تعجلت العقوبة وكفّر الله بها عن العبد؛ فإنه يوافي الله وليس عليه ذنب، قد طهرته المصائب والبلايا، حتى إنه ليُشدّدُ على الإنسان موتُه لبقاء سيئة أو سيئتين عليه، حتى يخرج من الدنيا نقيًّا من الذنوب، وهذه نعمة لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.

لكن إذا أراد الله بعبده الشر أمهل له واستدرجه وأدرّ عليه النعم ودفع عنه النقم حتى يبطر ويفرح فرحًا مذمومًا بما أنعم الله به عليه. وحينئذ يلاقي ربه وهو مغمور بسيئاته فيُعاقب بها في الآخرة. نسأل الله العافية!

 فإذا رأيت شخصًا يبارز الله بالعصيان وقد وقاه الله البلاء وأدرّ عليه النعم؛ فاعلم أن الله إنما أراد به شرًّا؛ لأنَّ الله أخّر عنه العقوبة حتى يوافي بها يوم القيامة.

ثم ذكر في هذا الحديث: أنّ عظم الجزاء من عظم البلاء، يعني أنه كلما عظم البلاء عَظُمَ الجزاء، فالبلاء السهل له أجر يسير، والبلاء الشديد له أجر كبير؛ لأن الله عز وجل ذو فضل على الناس إذا ابتلاهم بالشدائد أعطاهم عليها من الأجر الكبير، وإذا هانت المصائب هان الأجر.

وإن الله إذا أحب قوم ابتلاهم، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السّخط. وهذه بشرى للمؤمن إذا ابتلي بالمصيبة، فلا يظن أن الله سبحانه يبغضه، بل قد يكون هذا من علامة محبة الله للعبد، يبتليه سبحانه بالمصائب، فإذا رضي الإنسان وصبر واحتسب فله الرضا، وإن سخط فله السخط.

وفي هذا حثٌّ على أن الإنسان يصبر على المصائب حتى يكتب له الرضا من الله عز وجل، والله الموفق". (6) وقال رحمه الله أيضًا في القول المفيد: "قد تكون المصائب أكبر من المعائب ليصل المرء بصبره أعلى درجات الصابرين، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.

والمراد بالرضا الرضا بقضاء الله من حيث إنه قضاء الله، وهذا واجب بدليل قوله: "ومن سخط" فقابل الرضا بالسخط، وهو عدم الصبر على ما يكون من المصائب القدرية الكونية.

ولم يقل هنا: فعليه السخط، مع أن مقتضى السياق أن يقول فعليه، كقوله تعالى: ( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها). فقال بعض العلماء: إن اللام بمعنى على، كقوله تعالى: ( أولئك لهم اللعنة ولهم سواء الدار ) [ الرعد : 25 ] أي: عليهم اللعنة. وقال آخرون: إنّ اللام على ما هي عليه، فتكون للاستحقاق، أي: صار عليه السخط باستحقاقه له، فتكون أبلغ من "على"، كقوله تعالى: ( أولئك لهم اللعنة )؛ أي حقّت عليهم باستحقاقهم لها، وهذا أصح". (7) وفي المعتصر: "وإذا أراد الله بعبده الشر": "عبده هنا مثل عبده الأول، لكنه المسرف على نفسه بالمعاصي. وهل معنى الحديث أن الله يريد الشر؟ وكيف نوفّق بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "والشرُّ ليس إليك"؟ (8)

هنا سمّى الإمساك عن العقوبة شرًّا باعتبار العبد، وإلا باعتبار فعل الله فعدل.(9)

ومعنى: "أمسك عنه بذنبه": الممسوك عنه هي البلايا والعقوبة. بذنبه: الباء سببية، بمعنى أنه ما عاقبه بسبب ذنوبه، ولكن أمسك عنه العقوبة، وقد تكون بمعنى الاستحقاق أي مع أنه مستحق بذنبه. ونسب الذنوب إلى العبد: لأنها كسبه. وهذه الذنوب هي ما دون المكفرات. أما حتى هنا فهي لانتهاء الغاية، أي: إلى غاية أن يوافي به يوم القيامة.

وهل كل مصيبة علامة خير؟ لا. إلا إن وُفّق إلى الصبر فهي علامة خير، وإن لم يصبر فهي علامة شرّ.

وقوله: «إن عظم الجزاء»: فإذا نظرت إلى هذه الكلمة «الجزاء» وآخر الحديث تبين لك أن في هذا الحديث دلالة على أن المصائب رافعة للدرجات. «مع عظم البلاء»: المعيّة هنا ليست معيّة مقترنة، وإنما الجزاء يأتي بعد البلاء؛ لأنه مترتب عليه. وهل الجزاء مع كل بلاء مطلقًا؟

لا. ليس كل بلاء معه جزاء إلا بشرطه، وشرطه هنا: أقله اثنان وأكثره ثلاثة: إما الصبر والرضا، أو الصبر والرضا والشكر. (10)

وقوله: «مع عظم البلاء»: أي أن عظم البلاء معه عظم جزاء. هل هو باعتبار الكمية أو الكيفية؟ قد يكون هذا وقد يكون هذا. «وإن الله تعالى إذا أحب قومًا»: فيه إثبات أن الله يحب. والمعطلة لا يثبتون المحبة لله تعالى. وقوله «قومًا»: هنا نكرة، والمقصود بقوم: أي المؤمنين. والدليل: أن الله لا يحب الكافرين، وهؤلاء القوم محبوبون. وقوله «ابتلاهم»: أي أصابهم ببلايا ومصائب ورزقهم ما يثيبهم عليها ويثبتهم. ويدل هذا الحديث بالمفهوم أن قلة الجزاء مع قلة البلاء.

قوله «فمن رضي»: هنا ذكر الرضا فهو يدل على الصبر وزيادة. وقوله: «فله الرضا» هذا جزاء رضائه أن يرضى الله عنه، فيترتب على ذلك كثرة الثواب. «ومن سخط» أي: كره، وما تبع الكراهة من أعمال الجوارح. «فله السخط» فهذا جزاءً وفاقًا، فلما سخط سخط الله عليه، فيترتب على ذلك العقوبة. ودل الحديث على فضل الرّضا، وأنه يزيد في الدرجات، ويزيد في التوحيد". (11)

وههنا سؤال: كيف يميّز العبد في المقضيّ المؤلم (المصيبة) بين العقوبة والابتلاء؟

والجواب: أنّ بينهما عموم وخصوص، فما كان على ذنب فهو عقوبة، ومنه قول الله عز وجل: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) وقوله جل شأنه: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) وقوله عز اسمه: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك). ومالم يكن على سالف ذنب أو كان مغفورًا فهو محض الابتلاء، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مغفور الذنوب سالفها ولاحقها ومع هذا فقد كان من أشدّ الناس بلاء، وهو القائل: "أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الإنسان على حسَبِ دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقّة خُفّف في بلائه". (12) وقد تكون المصيبة مستغرقةً للعقوبة والابتلاء، فتستنفذ الذنب وتدخل في الابتلاء.

وكل المصائب خير للمؤمن خلا مصيبة الدين، فالمصائب مُمَحّصة مُكفّرة رافعة للدرجة مقرّبة من الله، فالبلاء يجمع بين العبد وربه، والعافية تجمع بينه وبين نفسه، ويا بن آدم: لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك. وصدق البستي رحمه الله إذ يقول:

وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ الدِّينَ يَجْبُرُهُ  ...    وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ

وقال الغنيمان حفظه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا": "أي: يصبّ عليه البلاء والمصائب؛ لما فرط من الذنوب منه فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافي به يوم القيامة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "المصائب نعمة؛ لأنها مكفرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر، فيثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة.

فنفس البلاء يكفر الله به الخطايا، وهذا من أعظم النعم، فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق، إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون شرًّا عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو وجع حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب أو الكفر الظاهر، أو ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضررًا في دينه، فهذا كانت العافية خيرًا له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبرًا وطاعة كانت في حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب عز وجل ورحمة للخلق، والله تعالى محمود عليها". (13)

ظاهر قول الشيخ رحمه الله أنه يرى أن المصائب تكفر الذنوب، وهذا هو الظاهر، أما حصول الثواب والأجر فهو بأسباب أخرى، كأن يكون بالصبر عليها، وكونها تحدث للإنسان إنابة إلى الله، وذل وتعلق به، ودعاء إليه، فهذا أمر آخر، أما المصيبة نفسها فهي كفارة فقط، تكفر ما وقع منه، وليس فيها أنه يكتب له فيها الثواب، وإنما يكفر عنه بها ما وقع من المعاصي، وترك الطاعات الواجبة عليه إذا اتصل بها شيء سواء كان مما يدعو إلى الإنابة والتوبة والاستغفار والدعاء فهذا أمر آخر يثاب عليه، أما إذا كانت سبباً للإعراض والتضجر والاعتراض على الله جل وعلا والسخط مما قضاه عليه، فإنها تكون مصيبة أخرى ليس له فيها كفارة، وربما وقعت منه مصيبة أكبر من المصيبة التي أصيب بها، فهذا يقع فيه كثير من الناس.

وبعض الناس يكون المرض الذي يقع فيه غير منبّه له، بل يبقى على حالته التي هو عليها حتى تجده يترك الصلاة؛ لأن كونه مريضًا لا يستطيع أن يتوضأ ولا يستطيع أن يصلي، وهذا يوجد في كثير من المرضى، وهذا خطر عظيم ومعصية كبيرة، بل قد تكون كفرًا، نسأل الله العافية.

فالصلاة لا تسقط عن الإنسان بحال من الأحوال، وإذا مرض الإنسان فينبغي له أن يحرص على أداء الصلاة على حسب حاله { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة:286]، ولكن لا يترك الصلاة، وإن استطاع أن يتوضأ توضأ، وإن استطاع أن يصلي قائمًا صلى قائمًا، وإن لم يستطيع الوضوء تيمم، فالتيمم ليس صعبًا، فإذا لم يكن عنده من يوضئه ويعينه على وضوئه تيمم، فإن كان عنده من يفعل ذلك فإنه يجب عليه ذلك، أما إذا كان لا يستطيع أن يخرج فيوضع له قليل من التراب في إناء ويتيمم فيمسح وجه ويديه، وإذا لم يستطع هو ذلك فالذي عنده يفعل به ذلك وييممه، فيأخذ بيديه ويضعها على التراب، ثم يسمح بها وجهه وكفيه، ثم يقول له: صل، فيصلي على حسب حاله ولو بالإشارة يشير برأسه، فإذا لم يستطع يومئ بعينيه، فما دام العقل عنده صاحيًا فلا تسقط عنه الصلاة بحال، ولا يجوز أن يترك الصلاة، فقد يموت قبل أن يشفى فيكون موته وهو تارك للصلاة، نسأل الله العافية، فهذا خطر عظيم يجب أن ينبه عليه الناس، فمثل هذا يكون المرض -وهو مصيبة- قد سبب مصيبة أخرى أكبر منها، نسأل الله العافية.

فالمسألة: أن الناس يختلفون في البلاء الذي يصيبهم، فمنهم من يرجع إلى الله بسببه وينيب، ومنهم من يبتعد عن الله جل وعلا ويكون سببًا في تضجره وتسخطه على الله، ويقول: أنا لا أستحق هذا الشيء -يعني: أن الله ظلمه عياذًا بالله- وأنا ما عملت شيئًا، أنا أصلي وأنا أفعل كذا، وأنا وأنا ولكن ما أدري من أين جاءت هذه المصيبة؟! هكذا نسمع بعضهم يقول! والذي لا يقول هذا بلسانه يمكن أن يقول في قلبه شيئًا من ذلك، وإذا كان في قلب الإنسان شيء من ذلك فإنه يكفي في هلاكه؛ لأن الله جل وعلا يحكم بالعدل، ولا يصاب من مصاب إلا بسبب أمر تركه أو ذنب ارتكبه، كما أخبر الله جل وعلا.

ويجب أن يتّعظ الإنسان بالمصائب، فتكون المصيبة موعظة له، فيتعظ ويحاسب نفسه، ويبتعد عن المعائب التي يعاب عليها دينًا، فيبتعد عنها ويستغفر ربه منها، فمثل هذا تكون المصيبة قد طهرته من الذنب، وكفرت عنه ذنبه، ولهذا يوجد من الناس من إذا وقع في مصيبة يخرج منها كأنه ليس عليه شيء، كأن لم يعمل ذنبًا، كيوم ولدته أمه، وهذا من فضل الله ورحمته بالعبد، فلهذا العبد لا يسوؤه أنه يصاب بشيء، لا ينبغي أن تكون هذه السيئة تسوؤه، فليعلم أن هذا فضل من الله وعدل، ثم لينزجر ويتعظ، ويكثر الرجوع إلى الله، وليجعل ذلك سببًا لرجوعه وتعلقه بالله جل وعلا؛ لأن الإنسان ضعيف، فلو جوزي مثلًا بما يعمل أو جمع كل ما يعمله حتى يوافى به يوم القيامة فقد يهلك، يمكن أن ترجح سيئاته على حسناته فيكون من الخاسرين.

فيجب على الإنسان أن يحمد ربه، وهذه صفة المؤمن، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عجبًا للمؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن". (14) أما المنافق والكافر فهو مثل البعير الذي يُعقل ثم يُطلق عقاله، ولا يدري لماذا عقل، ولا يدري لماذا أطلق عقاله! فالمؤمن ينبغي أن يكون بهذه الصفة: إذا أصيب بشيء يكره صبر واحتسب، وصار هذا سببًا في خضوعه وذله ورجوعه إلى الله واستغفاره، وإن أصيب بنعم حمد الله وشكره وأوجب ذلك له زيادة طاعة لله جل وعلا، حيث أحدث له نعمًا فيحدث لله طاعة.

قال الشارح رحمه الله (15): "فمن ابتُلي فرزق الصبر، كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعدما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه، قال تعالى: { أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة:157]، وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات، فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك". انتهى ملخصًا. أي: أنه يمتثل الآية، كما في قوله تعالى: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة:156]، ومعنى: (إنا لله) أي: نحن ملك له وعبيد له يتصرف فينا كيف يشاء، لا نملك لأنفسنا شيئًا، فإذا أصابنا بشيء فهو إليه جل وعلا، ولا يجوز لنا أن نعترض على شيء من ذلك، إنا لله ملكًا وعبيدًا، يفعل بنا ما يشاء، (وإنا إليه راجعون)، أي: مرجعنا إليه فيجازينا على أعمالنا، فإن كان الإنسان شاكرًا جازاه خيرًا، وإن كان كافرًا لا يلقى إلا جزاء عمله فقط، ولا يظلم شيئًا، والشاكرون هم الذين يقول جل وعلا: { أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة:157]، وصلاة الله على عبده أن يثني عليه عند الملائكة، ومن أثنى الله عليه عند ملائكته أحبته الملائكة وصارت تدعو له بسبب بذلك، ملائكة الله جل وعلا الذين في السماء يستغفرون له ويدعون الله له، فيكتسب عملًا ما كان يعمله هو استغفار الملائكة، وهذه الصلوات صلوات الله، وأما الرحمة فأمر آخر: { أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة:157]، ثم { وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة:157]، هذا الذي ينبغي أن يكون عليه العبد إذا أصيب بشيء أن يقول هذا، لعله يتحصل على هذا الفضل العظيم، وهو صلاة الله ورحمته جل وعلا، ولو لم يكن في المصيبة إلا هذا لكفى أن يرتبط الإنسان به، وكون الإنسان يكون معافًى دائمًا ينبغي أن لا يفرح، فقد يكون دليلًا على أن الله لا ينظر إليه، وأنه معرض عنه، نسأل الله العافية! قال الشارح رحمه الله: قوله: "وإذا أراد بعبده شرًّا أمسك عنه بذنبه" أي: أخّر عنه العقوبة بذنبه. "حتى يُوافِي به يوم القيامة" وهو بضم الياء وكسر الفاء منصوبًا بـ"حتى" مبنيًّا للفاعل، قال العزيزي: وهذه الجملة هي آخر الحديث. فأما قوله: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ عظم الجزاء مع عظم البلاء" إلى آخره، فهو أول حديث آخر، لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد وصحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد.

وفيه التنبيه على حسن الرجاء وحسن الظن بالله فيما يقضيه لك، كما قال تعالى: { وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }.

الابتلاء سنة ماضية، يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن قل دينه قل بلاؤه، وأشد الناس ابتلاء هم الأنبياء عليهم السلام، والواجب عند نزول البلاء هو الصبر والرضا وعدم التسخط، فمن صبر ورضي أجر على مصيبته، وكفر بها من سيئاته، ومن سخط وقعت عليه مصيبته، ولم يؤجر عليها، وليعلم أن عظم الجزاء مع عظم البلاء.

وظاهر حديث: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء" هو أصل المسألة التي ذكرنا: أن البلاء والمصائب عليها جزاء، فمعناه: إذا كان الإنسان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم وأكبر، فيدل على أن المصيبة يُجزى بها الإنسان.

وقد جاء صريحًا في حديث ابن مسعود: لمّا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض، قال له: إنّك لتوعك وعكًا شديدًا، قال: "نعم"، أو قال: "أجل، كما يوعك اثنان منكم"، وقال: ألأنّ لك أجرين؟ قال: "نعم" يعني: إذا كان هذا مرضه أشد فيكون أجره أكثر، وهذا الحديث صريح في ذلك، وهذا هو الصواب أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة إن كان له ذنوب كفرت بها، مقابل ذلك، ولا يخلو أحد من الذنوب أبدًا. "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون". (16) وفي الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم". (17) لأن الله جل وعلا من أسمائه الغفار والعفو والرحيم والتواب، فلا بد أن تظهر آثار أسمائه جل وعلا على خلقه، فهذا مقتضى خلقه وأسمائه وصفاته تعالى وتقدس، فكل بني آدم والجن -وهم المكلفون- يقعون في أخطاء كثيرة، وخيرهم الذي إذا أخطأ تاب، ثم الملائكة خلقوا للعبادة، أي أنه: خلص خلقهم للعبادة وكلفوا بذلك، ولهذا لا يوجد عندهم ما عند بني آدم من العصيان: { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6]، دائمًا وأبدًا، فهم جنس آخر من غير جنس بني آدم.

فإذا كان الإنسان خطؤه عظيمًا فتكون المصيبة مقابل الخطأ، فإن كانت أكبر وأشد من خطئه صار منها ما هو مكفر ومنها ما هو في رفعة درجاته عند الله، وفي الأثر: "إن الإنسان تكون له درجة عند الله لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله جل وعلا بالمصائب حتى يبلغ تلك الدرجة".

وهذا القول هو الصواب من أقوال العلماء: أنه يختلف الناس فيها، إذا اشتد البلاء والإنسان ليس له من الذنوب ما يقابل ذلك فإن هذا رفعة لدرجاته، وزيادة في حسناته، ولهذا فإن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم يبتلونَ بتكذيب قومهم وبأذيتهم وربما بقتلهم.

ومعلوم أنهم خير الخلق، فخير بني آدم هم الأنبياء والرسل: "أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الإنسان على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقّة خُفّف في بلائه". (18) فتكون بلواه على حسب ما عنده من الدين، وهذا من رحمة الله جل وعلا، لأنه لو زيد في بلاء الإنسان الذي دينه ضعيف لقَدَّم دينه دون عرضه حتى يسلم، فالله جل وعلا لطيف بعباده، وهو حسب مصالحهم، فإنه إذا أراد الخير بعبده هيأ له أسباب ذلك بفعله هو، وإن لم يكن من فعله ما يصل به إلى الدرجة العالية وقد أراد الله له تلك الدرجة ابتلاه بالمصائب، سواء كانت مصائب قدرية أو مصائب بسبب الناس، وإن كانت كلها بالقدر، فما يقع شيء إلا بقدر الله جل وعلا، ولكن الأسباب قد تكون أثرًا من آثار الناس الذين يفعلون ذلك وهم مسئولون عن أفعالهم، وإن كان أمرهم مقدرًا؛ لأن العاقل والمكلف لا بد أن يطالب بأعماله، وليس لأحد حجّة بالقدر، فيقول: هذا مقدّر عليّ أنا فعلت الشيء المُقدّر عليّ، لأن الإنسان مكلف بأعمال محددة من الطاعات، ومنهي عن أعمال محددة من المعاصي يستطيع أن يتركها، والطاعات يستطيع أن يفعلها، وقد علم بذلك وقيل له: هذا طريق الخير فاسلكه، وهذا طريق الشر فاجتنبه.

فإذا ارتكب شيئًا من المناهي بعد ذلك فاللوم عليه، وليس له أن يقول: إن الله قدّر عليّ ذلك، فهو الذي فعله، وما يدريك أنه قدر عليك قبل أن تفعل ذلك، فعليك أن تجتهد، فإذا وقعت في ذنب فلا تقل: هذا مقدّر، ولكن قل: أستغفر الله وأتوب إليه، فاستغفر واسترجع، وعد على نفسك باللوم، أما إذا قال الإنسان: أنا وقعت في القدر، فمعنى ذلك: أنا أجعل اللوم على القدر لا على نفسي، يبرئ نفسه من ذلك، ويجعل اللوم على ربه، فهذا يكون مقتديًا بإبليس عندما قال لربه: { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر:39] الله أغواه أك هو الذي أغوى نفسه؟ هو الذي اختار الغواية، ولما قيل له: اسجد، أبى وقال: أنا خير منه وهناك سجدت الملائكة، ولكنه أبى هو باختياره، فهو الذي غوى بفعله.

فلا يحتج بأن الله قدر ذلك، الله جل وعلا قدر كل شيء؛ لأنه هو المالك لكل شيء، ولكن أعطاك المقدرة على الفعل الذي كلفك به، وأعطاك المقدرة على ترك الأفعال التي حرمها عليك، فإذا امتثلت الأمر كنت موافقًا للقدر وموافقًا للشرع، وإذا لم تمتثل الأمر كنت عاصيًا، وإن كنت لا تخرج عن مقدور الله جل وعلا، فلا أحد يخرج عن مقدور الله، ولكن العقلاء كلفوا بعدما أعطوا العقل بالشيء الذي يستطيعونه.

أمّا حديث: "إذا أحب الله قومًا ابتلاهم.." فقد قال بعض العلماء: إن المصائب يثاب عليها مع تكفير الخطايا، ورجح ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط، إلا إذا كانت سببًا لعمل صالح كالصبر والرضا والتوبة والاستغفار، فإنه حينئذ يثاب على ما تولّد منها، وعلى هذا يقال في معنى الحديث: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء.." أي: إذا صبر واحتسب.

على كلٍّ الحديث مطلق، والأحاديث التي ذكرنا مطلقة، فكوننا نقيد الأحاديث بشيء لم يقيدها به رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ليس واردًا، والمفهوم شيء والمنطوق شيء آخر.

ومعلوم أن النصوص يجب أن يؤخذ بظاهرها إلا إذا جاءت نصوص أخرى تخالفها؛ لأن النصوص من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تتعارض، بل يصدق بعضها بعضًا.

هذا وإنّ ابتلاء الأنبياء والأولياء دليل على أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا دفعًا، "وإنّ الله إذا أحبّ قومًا ابتلاهم"، (19) ولهذا ورد في حديث سعد: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدّ بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل.." وهذا الحديث ونحوه من أدلة التوحيد، فإذا عرف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في أنفسهم الذي هو في الحقيقة رحمة، ولا يدفعه عنهم إلا الله؛ عرف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا دفعًا، فلأن لا يملكوه لغيرهم أولى وأحرى، فيحرم قصدهم والرغبة إليهم لقضاء حاجة أو تفريج كربة، وفي وقوع الابتلاء بالأنبياء والصالحين من الأسرار والحكم والمصالح وحسن العاقبة ما لا يحصى.

هذا واضح وجلي، فقد ابتلي بعض الناس -نسأل الله العافية- بالتعلق بدعاء المخلوق والشرك به ويوجد كثير من الناس يعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعبد الأولياء، ويتلمس لذلك الأدلة، مع أن كتاب الله جل وعلا ودعوة الرسل كلها جاءت بوجوب إخلاص العبادة لله وحده، وأن الإلهية له وحده، ولكن الشيطان لا يزال بالإنسان حتى يحرف الأمور الواضحة الجلية، فيجعل العبادة غير العبادة، ويجعل التعلق في قالب آخر، فإذا جاء الشر صريحًا صار يؤوله. (20)

والمعروف أن كثيرًا من الناس يتعلقون بمن يسمونهم أولياء، مع أن الولاية أمرها خفي، فقد يظهر للإنسان أن فلانًا صالح أمام الناس، وهو في نفسه فاسد ليس صالحًا، وليست المسألة مسألة ما يظهر للناس، وإنما هو الشيء الذي يكون عند الله للإنسان، فقد يري الناس مثلًا أنه مطيع ومن الفضلاء، فإذا توارى عن الناس تجرأ على الله جل وعلا في المعاصي، وهذا يوجد بكثرة، وقد يكون هذا المرض واضحًا عند كثير من الناس. فكون هذا وليًّا أمر لا يعلمه إلا الله، إلا أن يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن إنسان بعينه، وكونهم مثلًا يتعلقون به أمر محرم. هذا أمر.

الأمر الثاني: أن الدين الإسلامي جاء بوجوب الإخلاص لله وحده، ووجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذين الأمرين، فكون العبادة كلها لله خالصة ليس فيها شيء لغيره، وكون العبادة جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون بالاختيار أو بالنظر أو بالاستحسان، أو بما يتعارف عليه الناس ويصطلحون عليه كالموالد وما أشبه ذلك من الأمور التي يفعلونها ثم يبحثون عن الأدلة من بعيد، ويتعلقون بأشياء عجيبة، فيقولون: إنها مشروعة، كيف كانت مشروعة وهي أول ما أحدثت في القرن السادس؟! هل احتفل الرسول صلى الله عليه وسلم بمولده؟ وهل احتفل به أحد من صحابته؟ هذا لا يثبته إلا كذاب مكابر، فكيف يكون بعد ذلك عبادة وفيها هوى النفوس واستيلاء الجهل عليها؟! وأشياء كثيرة من هذا القبيل، وهذا مثال فقط.

ثم كون العمل مقصود به وجه الله وحده فقط، ثم إذا دخله شيء من الإرادات والمقاصد فإنه إما أن يفسد فيصبح حابطًا، وإما أن يكون ناقصًا على الأقل كما سيأتي.

وإن ذهب بعضه وبقي بعضه إذا كان شيئًا واحدًا فالله لا يقبل إلا ما كان خالصًا له، وبعد هذا كله كيف يكون مخلوق مكلف خلقه الله ليتعبده كيف يكون شريكًا لله في الإلهية أو في العبادة؟ والأمور في هذا واضحة، ولكن الذين يحبون الشرك ويدعون إليه يغالطون.

الله جل وعلا لما أخبر عن الملائكة أنهم عباد مكرمون، وأنهم يفعلون ما يؤمرون ولا يعصون الله ما أمرهم قال: { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ } [الأنبياء:29]، ماذا يكون؟ { فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [الأنبياء:29]، يصلى جهنم.

فالقرآن كله ودعوات الرسل كلها تصب في هذا الأصل العظيم الذي ضل عنه كثير من الناس، وصار يغالط ولا يعتمد إلا على رؤيا كقولهم: رأيت كذا وفلان رأى كذا أو على حكايات وقصص خرافية، كقولهم: إن فلانًا دعا الولي الفلاني أو تعلق به فحصل له كذا وحصل له كذا أو على أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على تحريفات كتحريفات اليهود الذين حرفوا النصوص تحريفات واضحة، ثم يستاء بعد ذلك أن يقال: إن بلوى الرسل وما يصابون به دليل على أنهم عباد، وأنهم ليس لهم من الربوبية مع الله شيء، وليس لهم من الإلهية مع الله شيء! احتج على القول لشدة الجهل والعناد، وشدة ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض الناس.

ومعلوم ما وقع فيه سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه، لقد أخرج من مكة ثم لم يستطع الدخول إلا بجوار رجل مشرك، وذهب إلى الطائف فرموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه صلوات الله وسلامه عليه، وردّوا عليه ردًّا من أسوأ ما يكون، ثم قال جاهل من ثلاثة من كبارهم وساداتهم كانوا مجتمعين فعرض عليهم أمر الله ودعاهم فقال أحدهم: ما وجد الله أحدًا غيرك حتى أرسلك؟! بهذه السخرية والتهكم، والآخر قال: إنه يسرق كسوة الكعبة إن كنت رسولًا، وهذا استهزاء صريح، والآخر قال: لا أكلمك كلمة، لئن كنت صادقًا فلأنت أعظم من أن أردّ عليك، ولئن كنت كاذبًا فلأنت أحقر من أن أكلمك! أهذا جواب الذي جاء بالبينات والهدى الواضحات؟! ثم بعد ذلك يغرى به السفهاء والصبيان، فيرمونه بالحجارة ويضربون عقبيه حتى يخرج منه الدم صلوات الله وسلامه عليه، ثم يخرج ولا يدري إلى أين يتجه صلوات الله وسلامه عليه، قد ذهب فكره، فلم يفق إلا وهو بقرن الثعالب الذي يسمى: السيل العالي من الطائف، وهناك رجع إلى فكره ودعا بالدعوة المعروفة المشهورة وقال فيها: "إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي". (21) فيقول: إلا مصيبة تصيبني بها لا أبالي ما دام أنه بأمرك ولطاعتك، فيحمد الله على ذلك.

ثم كذلك يوم بدر قالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! هل مرّ بك يوم أشدّ من يوم أحد؟ قال: "يا عائشة؛ لقد لقيت من قومك..".  (22) وذكر يوم الطائف.

ويوم أحد شج في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول: "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟!". (23) ثم بعد ذلك أنزل الله جل وعلا عليه: { لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } [آل عمران:128]، فالأمر كله لله، فامتثل أمر سيدك، وامض حيث أُمرتَ وكُلّفتَ، ثم بعد هذا يأتي قائل ويقول:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذُ به   ... سواكَ عند حلول الحادث العممِ

إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي  ... فضلًا فقل يا زلّة القدمِ

ولم يضيق رسول الله جاهك بي  ... إذا الكريم تجلّى باسم منتقم

 يقول: إذا غضب الله يوم القيامة فأنا أستجير بك من الله! -نسأل الله العافية- ثم يقول:

فإنّ مِن جودك الدنيا وضُرّتَها ... ومن علومك علم اللوح والقلمِ

 إذا كان من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا والآخرة، ومن جملة علومه علم اللوح الذي كتب فيه كل شيء، والقلم الذي كتب كل شيء، فماذا بقي لله؟ ما أبقى لله شيئًا، نسأل الله العافية! ثم يصبح هذا الكلام نصًّا، ويُحفظ كما تحفظ الفاتحة؛ بل بعض الناس يقرؤه مساءً وصباحًا ويجعله وردًا كآية الكرسي والمعوذتين وما أشبه ذلك.

وليس هذا إلا انحرافًا واضحًا، وتعلّقًا بالمخلوق وتركًا للخالق جل وعلا الذي بيده أزمّة الأمور وكل شيء، ومن الذي يزين هذه الأمور؟ يزينها شياطين الجن والإنس، ويحسنونها ويجعلونها بقالب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة حقوقه.

يؤخذ خالص حقّ الله جل وعلا ويوضع في المخلوق، فإنه لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهًا لهم لقاتلهم أشدّ من قتاله لكفار قريش؛ لأنهم خالفوه صراحة، وجاءوا بما لم يأت به مشرك من المشركين، نسأل الله العافية.

وعلى العبد أن يرضى بالقضاء وبالقدر وأن يسلّم أمره لله، ولا يعترض ولا يتضجر، بل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أصابنا شيء إلا بإذن ربنا، وله الحمد على ذلك، فيكون عبدًا صحيحًا، فيسلّم وينقاد، لا يعترض ولا يتضجر، ولا يتوجع، ولا ينافي هذا كونه يتعالج إذا كان مريضًا، أو كونه يصف المرض ويقول: أنا عندي كذا وكذا وأجد كذا وكذا لمن يكون عنده شيء من العلاج، فهذا لا ينافي كونه يسلم وينقاد لعدم الاعتراض، كما أنه لا ينافي التسليم كونه يئنّ في مرضه، وبعض العلماء يقول: الأنين شكاية، كما روي عن طاووس رحمه الله، ولهذا لما بلغ ذلك الإمام أحمد وهو في مرضه صار لا يئنّ حتى مات رحمه الله، ولكن كون المريض يجد في أنينه شيئًا من الراحة فلا بأس، وليس معناه أنه يشتكي أو يتوجع.

فالمقصود: التسليم والرضا، وهو أن يسلّم وينقاد، وألا يكون قلبه متسخطًا أو متوجعًا من ربه، فإذا تعالج أو وصف مرضه فإنه لا يكون منافيًا لذلك؛ لأن العلاج سبب من الأسباب التي وضعها رب العالمين، والأسباب أمر الله جل وعلا أن نبذلها كما جاء في الحديث لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هل نتداوى؟ قال: "نعم. تداووا عباد الله، فإن الله ما وضع داءً إلا ووضع له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا داءً واحدًا وهو الهرم"، وفي رواية: "الموت". (24) لأن هذه الحياة لابد أن تنتهي.

قال الشارح رحمه الله: "ويحسن الظن به، ويرغب في ثوابه، وقد يجد لذلك راحة وانبساطًا، محبةً لله وثقة به، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله بقسطه وعدله جعل الرّوح والفرح باليقين والرضا، وجعل الهم والحزن بالشك والسخط".(25) (26)

و"إنّ الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنّا، وإما ألا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر. فمن قال: آمنّا؛ امتحنه ربّه وابتلاه وفتَنَه، والفتنة: الابتلاء والاختبار، ليتبيّن الصادق من الكاذب، ومن لم يقل آمنّا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه، فإنّه إنما يطوي المراحل في يديه.

وكيف يفرّ المرء عنه بذنبه  ...   إذا كان تطوى في يديه المراحلُ

فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة فحصل له ما يؤلمه، وكان هذا المؤلم له أعظم ألمًا وأدوم من ألم اتّباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير إلى الألم الدائم.

 وسئل الشافعي رحمه الله: أيّما أفضل للرجل أن يُمكّن أو يُبتلى؟ فقال: "لا يُمكّن حتى يُبتلى". والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل فلمّا صبروا مكّنهم، فلا يظنّ أحد أنه يخلص من الألم البتة، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول، فأعقلهم من باع ألمًا مستمرًّا عظيمًا بألم منقطع يسير، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمرّ. فإن قيل: كيف يختار العاقل هذا؟ قيل: الحامل له على هذا النقد والنسيئة (27) والنفس مُوكَلةٌ بحبّ العاجلِ". (28)

وللمؤمن الصالح موقف ثابت مع الابتلاء، فعليه أن يعلم أنّ المصائب والبلاء امتحانٌ من الله تعالى له، لصبره ورضاه وحمده وشكره، بل وإيمانه، وهي علامة حبّ الله له؛ فهي كالدواء، فإنَّه وإن كان مُرًّا إلا أنَّك تسديه على مرارته لمن تحبّ، وتتجرّعه على كراهة مذاقه، ولله المثل الأعلى. كيف وهو يلظّ حينها بيا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام!

تالله ما الدعواتُ يهزِمها الرّدى   ...  يومًا وفي التاريخ برّ يميني

ونزول البلاء خيرٌ للمؤمن من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة، - وأن كانت العافية خير - وكيف لا وفيه تُرفع درجاته وتكفر سيئاته. قال الحسن البصري رحمه الله: "لا تكرهوا البلايا الواقعة، والنقمات الحادثة، فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثره فيه عطَبُك". (29) وقال الفضل بن سهل: "إن في العلل لنِعَمًا لا ينبغي للعاقل أن يجهلها، فهي تمحيص للذنوب، وتعرّض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وتذكير بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للتوبة، وحضّ على الصدَقة".

والمؤمن يجتهد لمراضي ربه تبارك وتعالى، فهو يبحث في البلاء عن الأجر، ولا سبيل إليه إلاَّ بالصبر، وفوقه الرضا والحمد والشكر، ولا سبيل إلى ذلك بعد توفيق الله إلّا بعزيمةٍ إيمانيةٍ وإرادةٍ بالله قوية.

وما أجمل تلك اللحظات التي يفرّ فيها العبد إلى ربه، (ففروا إلى الله) ويعلم أنه وحده هو مُفرّج الكرب، (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) وما أعظم الفرحة إذا نزل الفرج بعد الشدة، قال الله تعالى: ( وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ). وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها؛ إلا أخلف الله له خيرًا منها". قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة؟! أولُ بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها(20) فأخلف اللهُ لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.(31)

إنّ المؤمن يسأل ربه العافية على الدوام فإن نزل البلاء صبر ورضي وحمد وشكر، فعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، علّمني شيئًا أسأله الله عز وجل. قال: "سلِ الله العافية". فمكثتُ أيَّامًا ثم جئتُ فقلت: يا رسول الله، علّمني شيئًا أسأله الله، فقال لي: "يا عباس، يا عمّ رسول الله، سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة". (32)

وربّ بلاءٍ مبارك! فمن البلاء ما يكون سببًا لدخول الجنة والنجاة من النار إن وفّق الله صاحبه لحسن التعامل معه ظاهرًا وباطنًا، قال صلى الله عليه وسلم: "يودُّ أهلُ العافية يوم القيامة حين يُعطى أهلُ البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قرِّضت بالمقاريض". (33) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد مريضًا ومعه أبو هريرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشر، فإنّ الله عز وجل يقول: هي ناري أُسلّطها على عبدي المؤمن في الدنيا؛ لتكون حظّه من النار في الآخرة ". (34)

ومن بركات البلاء ردّ العبد إلى ربه وتذكيره بمعصيته وإيقاظه من غفلته، فيكون هذا البلاء سوط للقلب يردّه لسيده ويسوقه لمولاه ويحدوه لمغفرته، من فوائد المرض أنه يرد العبد الشارد عن ربه إليه، ويذكره بمولاه بعد أن كان غافلًا عنه، ويكفه عن معصيته بعد أن كان منهمكًا فيها.

ومن غايات الابتلاء الربانية وألطافه الرحمانية الخفية أن العبد قد تكون له منزلة عظيمة عند الله تبارك وتعالى، وليس للعبد من العمل ما يبلغ به إياها، فلا يزال ربه الرحيم يبتليه بالبلاء تلو البلاء، وينزل عليه المصائب، ويتابع عليه الكربات، حتى يبلغ المنزلة بألمه وصبره، وقد يُوفّق للرضا والحمد والشكر، قال عليه الصلاة والسلام: "إنّ العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبّره على ذلك، حتى يبلّغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى". (35)

وإذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ؛ انقطع التكليف، وزال الابتلاء، وانتهى الامتحان، وحلّ عليهم الرضوان، وأعطاهم الله ما يشتهون من ألوان النعيم، وأعظمه النظر لوجه الجميل الكريم سبحانه وبحمده، فلا إله إلا الله.

ومن نعيمهم أن أباح لهم بعض ما حرم عليهم في الدنيا ابتلاء وحفظًا، جزاء طاعتهم وصبرهم، مع أنه لا مقارنة بين ما في الدنيا والآخرة، ومن ذلك الخمر، قال الله تعالى عن خمر الجنة: ( يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم) [الطور:23] وقال تعالى: ( بيضاء لذة للشاربين* لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ) [الصافات: 46،47] وقال تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون* بأكواب وأباريق وكأس من معين*. لا يصدعون عنها ولا ينزفون ). فيا أيّه المُبتلى تفاءل بخير ربك، وأحسن الظن بمن لا يأتيك الخير إلا من عنده، ولا يندفع الضر إلا به.

ألا وإن مواطن الابتلاء كثيرة، فهي لا تنحصر في الأمراض ونحوها من حالات الضراء، بل هناك أيضا فتنة السرّاء، وكما قد يُبتلى العبد بالضراء ليختبر أيرضى أم يسخط، فإنه قد يبتلى بالسراء ليُختبر ويمتحن أيشكر أم يكفر. قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً {الأنبياء:35} ، وقال تعالى على لسان سليمان عليه السلام: (هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ )، فليس بلازم أن يبتلى العبد بالضراء. وقد أخرج الترمذي عن رجل كان يخدم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: "حَضَرتُهُ أُتِيَ بطعامٍ ليلًا، وكان ظَلَّ يومه صائمًا، فبكى، وقال: "ذهب الأوَّلون، لم تَكْلمْهُمُ (36) الدنيا من حسناتهم شيئًا، وإِنّا ابتُلينا بالضَّرَّاء فصبرنا، ثم ابتُلينا بالسَّرَّاء فلم نَصبِر، (37) وكفى لامرئ من الشرِّ أن يُشارَ إِليه بالأَصابع في أَمر". (38)

قال ابن تيمية رحمه الله: "نعمة الضراء احتياجها إلى الصبر ظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها. فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء. وفي الحديث: "أعوذ بك من فتنة الفقر، وشر فتنة الغنى". (39) والفقر يصلح عليه خلق كثير، والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم. ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لأن فتنة الفقر أهون، وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر، لكن لما كان في السرّاء اللذة وفي الضراء الألم؛ اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء، قال تعالى: { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور  إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير }. ولأن صاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر، فإنّ صبر هذا وشكر هذا واجب إذا تركه استحق العقاب.

 وأما صبر صاحب السراء فقد يكون مستحبًّا إذا كان عن فضول الشهوات، وقد يكون واجبًا، ولكن لإتيانه بالشكر - الذي هو حسنات - يغفر له ما يغفر من سيئاته. وكذلك صاحب الضراء لا يكون الشكر في حقه مستحبًّا إذا كان شكرًا يصير به من السابقين المقربين. وقد يكون تقصيره في الشكر مما يُغفر له لما يأتي به من الصبر. فإن اجتماع الشكر والصبر جميعًا يكون مع تألم النفس وتلذذها، يصبر على الألم ويشكر على النعم. وهذا حال يعسر على كثير من الناس.

والمقصود هنا؛ أن الله تعالى منعِمٌ بهذا كله، وإن كان لا يظهر الإنعام به في الابتداء لأكثر الناس، فإنّ الله يعلم وأنتم لا تعلمون، فكل ما يفعله الله فهو نعمة منه. وأما ذنوب الإنسان فهي من نفسه، ومع هذا فهي - مع حسن العاقبة – نعمة(40) وهي نعمة على غيره بما يحصل له بها من الاعتبار والهدى والإيمان. ولهذا كان من أحسن الدعاء قوله: "اللهم لا تجعلني عبرة لغيري، ولا تجعل أحدًا أسعد بما علّمتني مني".(41) وفي دعاء القرآن: { ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } { لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } كما فيه { واجعلنا للمتقين إماما } أي فاجعلنا أئمة لمن يقتدي بنا ويأتمّ. (42) ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا ويشقى. و" الآلاء" في اللغة: هي النعم، وهي تتضمن القدرة. قال ابن قتيبة: لما عدد الله في هذه السورة - سورة الرحمن - نعماءه وذكّرَ عباده آلاءه ونبّههم على قدرته؛ جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين نعمتين، ليفهم النعم ويقرّرهم بها.

والله تعالى يذكّر في القرآن بآياته الدالة على قدرته وربوبيته، ويذكّر بآياته التي فيها نعمه وإحسانه إلى عباده، ويذكّر بآياته المبيّنة لحكمته تعالى، وهي كلها متلازمة. فكل ما خلق فهو نعمة ودليل على قدرته وعلى حكمته، لكن نعمة الرزق والانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد، فلهذا يستدل بها كما في سورة النحل، وتسمّى سورة النعم، كما قاله قتادة وغيره.

 وعلى هذا فكثير من الناس يقول: الحمد أعمّ من الشكر من جهة أسبابه، فإنّه يكون على نعمة وعلى غير نعمة، (43) والشكر أعمّ من جهة أنواعه، فإنه يكون بالقلب واللسان واليد.(44)

فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة لم يكن الحمد إلا على نعمة، والحمد لله على كل حال، لأنه ما من حال يقضيها إلا وهي نعمةٌ على عباده، (45) لكن هذا فهم من عرف ما في المخلوقات من النعم، والجهمية والجبرية بمعزل عن هذا". (46)

وقد عقد شيخ الإسلام الثاني ابن القيم فصلًا بديعًا في مفتاح دار السعادة وذكر فيه شيئًا عن حِكَم الله تعالى في ابتلاء أوليائه فقال: "وإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجلّ الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبُرُون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلّا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنحة في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة ومنّة عظيمة تُجنى من قطوف الابتلاء والامتحان (47).

فتأمل حال أبينا آدم وما آلت إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء والتوبة والهداية ورفعة المنزلة، ولولا تلك المحنة التي جرت عليه - وهي إخراجه من الجنة وتوابع ذلك - لما وصل الى ما وصل إليه، فكم بين حالته الأولى وحالته الثانية في نهايته.

 وتأمل حال أبينا الثاني نوح صلى الله عليه و سلم وما آلت اليه محنته وصبره على قومه تلك القرون كلها، حتى أقرّ الله عينه وأغرق أهل الارض بدعوته، وجعل العالم بعده من ذريته، وجعله خامس خمسة وهم أولو العزم الذين هم أفضل الرسل، وأمر رسوله ونبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يصبر كصبره، وأثنى عليه بالشكر فقال: (إنه كان عبدا شكورا) فوصفه بكمال الصبر والشكر.

 ثم تأمل حال أبينا الثالث (48) إبراهيم صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وعمودُ العالم (49) وخليل رب العالمين من بني آدم، وتأمل ما آلت إليه محنته وصبره وبذله نفسه لله، وتأمل كيف آل به بذله لله نفسه ونصره دينه إلى أن اتخذه الله خليلًا لنفسه، وأمر رسوله وخليله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملّته.

 وأنبّهك على خصلة واحدة مما أكرمه الله به في محنته بذبح ولده (50) فإنّ الله تبارك وتعالى جازاه على تسليمه ولده لأمر الله بأن بارك في نسله وكثّره حتى ملأ السهل والجبل.

 فإنّ الله تبارك وتعالى لا يتكرّم عليه أحد، وهو أكرم الأكرمين، فمن ترك لوجهه أمرًا أو فعله لوجهه بذل الله له أضعاف ما تركه من ذلك الأمر أضعافًا مضاعفة، وجازاه بأضعاف ما فعله لأجله أضعافًا مضاعفة، فلما أمر إبراهيم بذبح ولده فبادر لأمر الله ووافق عليه الولد أباه رضاءً منهما وتسليمًا، وعلم الله منهما الصدق والوفاء فداه بذبح عظيم، وأعطاهما ما أعطاهما من فضله.

 وكان من بعض عطاياه أن بارك في ذريتهما حتى ملؤوا الأرض، فإنّ المقصود بالولد إنما هو التناسل وتكثير الذرية، ولهذا قال إبراهيم: (رب هب لي من الصالحين)، وقال: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي). فغاية ما كان يحذر ويخشى من ذبح ولده انقطاع نسله، فلما بذل ولده لله وبذل الولد نفسه ضاعف الله له النسل وبارك فيه وكثر حتى ملؤوا الدنيا، وجعل النبوّة والكتاب في ذريته خاصة، وأخرج منهم محمدًا صلى الله عليه وسلم.

 ثم تأمل حال الكليم موسى عليه السلام وما آلت اليه محنته وفتونه من أوّل ولادته إلى منتهى أمره،(51) حتى كلّمه الله تكليمًا، وقرّبه منه، وكتب له التوراة بيده، ورفعه إلى أعلى السماوات، واحتمل له مالا يحتمل لغيره، فإنه رمى الألواح على الأرض حتى تكسّرت، وأخذ بلحية نبي الله هارون وجرّه إليه، ولطم وجه ملك الموت ففقأ عينه.. وربّه يحبّه على ذلك كلّه، ولا سقط شيء منه من عينه، ولا سقطت منزلته عنده، بل هو الوجيه عند الله القريب، ولولا ما تقدم له من السوابق وتحمّل الشدائد والمحن العظام في الله، ومُقاسات الأمر الشديد بين فرعون وقومه، ثم بني إسرائيل وما آذوه به، وما صبر عليهم لله، لم يكن ذلك.

 ثم تأمّل حال المسيح صلى الله عليه وسلم، وصبره على قومه، واحتماله في الله وما تحمله منهم، حتى رفعه الله إليه وطهّره من الذين كفروا، وانتقم من أعدائه وقطّعهم في الأرض ومزّقهم كل ممزق، وسلبهم ملكهم وفخرهم إلى آخر الدهر.

 فإذا جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتأملت سيرته مع قومه وصبره في الله واحتماله مالم يحتمله نبيّ قبله، وتلوّن الأحوال عليه؛ مِن سِلمٍ وخوف، وغنًى وفقر، وأمنٍ وإقامة في وطنه وظعن عنه وتركه لله، وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل والسحر والكذب والافتراء عليه والبهتان، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله، يدعو إلى الله، فلم يُؤذَ نبيّ ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يُعط نبي ما أعطيه، فرفع الله له ذكره، وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلّهم، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأسمعهم عنده شفاعة. وكانت تلك المحن والابتلاء عينُ كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفًا وفضلًا، وساقه بها إلى أعلى المقامات.

وهذا حال ورثته من بعده الأمثل فالأمثل، كلٌّ له نصيب من المحنة يسوقه الله به إلى كماله بحسب متابعته له، ومن لا نصيب له من ذلك فحظّه من الدنيا حظُّ مَن خُلِق لها وخُلقت له، وجُعل خلاقُه ونصيبه فيها! فهو يأكل منها رغدًا، ويتمتّع فيها حتى يناله نصيبه من الكتاب.

 يُمتحنُ أولياءُ الله وهو في دعة وخفضِ عيش، ويخافون وهو آمن، ويحزنون وهو في أهله مسرور، له شأن ولهم شأن، وهو في واد وهم في واد. همُّه ما يقيم به جاهه ويسلم به ماله وتُسمع به كلمته، لزم من ذلك ما لزم، ورضي من رضي، وسخط من سخط.

وهمّ المؤمنين إقامة دين الله وإعلاء كلمته وإعزاز أوليائه وأن تكون الدعوة له وحده، فيكون هو وحده المعبود لا غيره، ورسوله المطاع لا سواه، فلله سبحانه من الحكم في ابتلائه انبياءه ورسله وعباده المؤمنين ما تتقاصر عقول العالمين عن معرفته، وهل وصل من وصل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء؟!

كذا المعالي إذا ما رُمتَ تدركُها ... فاعبر إليها على جسرٍ من التّعبِ

 وإذا تأملت الحكمة الباهرة في هذا الدين القويم والملة الحنيفية والشريعة المحمدية التي لا تنال العبارةُ كمالَها، ولا يدرك الوصف حسنها، ولا تقترح عقول العقلاء ولو اجتمعت وكانت على أكمل عقل رجل منهم فوقها، وحسب العقول الكاملة الفاضلة إنْ أدركت حسنها، وشهدت بفضلها، وأنّه ما طرق العالم شريعة أكمل ولا أجلّ ولا أعظم منها، فهي نفسها الشاهد والمشهود له، والحجّة والمحتجّ له، والدعوى والبرهان، ولو لم يأت الرسول ببرهان عليها لكفى بها برهانًا وآية وشاهدًا على أنها من عند الله، وكلها شاهدة له بكمال العلم وكمال الحكمة وسعة الرحمة والبر والإحسان والإحاطة بالغيب والشهادة والعلم بالمبادئ والعواقب، وأنها من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عباده، فما أنعم عليهم بنعمة أجلّ من أن هداهم لها، وجعلهم من أهلها، وممن ارتضاهم لها، فلهذا امتنّ على عباده بأن هداهم لها، قال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين) وقال معرّفًا لعباده ومذكّرًا لهم عظيم نعمته عليهم مستدعيًا منهم شكره على أن جعلهم من أهلها: (اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).

 وتأمّل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال والنعمة التي أسبغها عليهم بالتمام، إيذانًا في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل ولا شيء خارجًا عن الحكمة بوجه، بل هو الكامل في حسنه وجلالته، ووَصَفَ النعمة بالتمام إيذانًا بدوامها واتصالها، وأنه لا يسلبهم إياها بعد إذ أعطاهموها، بل يتمّها لهم بالدوام في هذه الدار وفي دار القرار.

 وتأمل حسن اقتران التمام بالنعمة، وحسن اقتران الكمال بالدين، وإضافة الدين إليهم إذ هم القائمون به المقيمون له، وأضاف النعمة إليه إذ هو وليّها ومسديها والمنعم بها عليهم، فهي نعمته حقًّا، وهم قابلوها. وأتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص، وأنه شيء خُصّوا به دون الأمم، وفي إتمام النعمة بعلى المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والإحاطة، فجاء: (أتممت) في مقابلة: (أكملت) و(عليكم) في مقابلة (لكم) و(نعمتي) في مقابلة (دينكم).

 وأكّد ذلك وزاده تقريرًا وكمالًا وإتمامًا للنعمة بقوله: (ورضيت لكم الاسلام دينا) وكان بعض السلف الصالح يقول: يا لَه من دينٍ لو أنّ له رجالًا". (52)

هذا؛ وإنّ في صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين أمثلة رائعة يجدر بالدعاة إلى الله تعالى بل بعموم المسلمين أن يقفوا عندها ويتأملوها، ليتأسَّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو خير أسوة لخير أمة، ومن ذلك: ما كان مشركو مكة يُلقون على عتبته صلى الله عليه وسلم من الأنتان والأقذار، وقد كان صابرًا محتسبًا، وما كان يزيد على قوله: "يا بني عبد مناف؛ أيّ جوار هذا؟!".  (53) وبعد أن اشتدّ أذى قريش للنبي صلى الله عليه وسلم عقب وفاة عمه أبي طالب، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف للدعوة وطلب النصرة من ثقيف، ولكنهم لم يستجيبوا له، بل كفروا به، وأمروا صبيانهم وسفهاءهم أن يصطفّوا على الطريق صفّين، وأن يرجموه بالحجارة، فرجموه صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى أدموا عقبه الشريف. قال ابن إسحاق رحمه الله: "ولمّا هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحده.

تالله ما الدَّعَوات يهزمها الرَّدى  ...  يومًا وفي التاريخ برُّ يميني

ضع في يدي القيد، ألهِبْ أضلُعي  ...  بالسوط، ضع عنقي على السكين

لن تستطيع حصار فكريَ ساعةً  ...  أو نزعَ إيماني ونورَ يقيني

فالنور في قلبي، وقلبي في يَدَي  ...  ربّي، وربي ناصري ومعيني

سأعيشُ معتصمًا بحبل عقيدتي  ...  وأموت مبتسمًا ليحيا ديني

ولمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يؤمئذ ساده ثقيف وأشرافهم، وهم إخوةٌ ثلاثةٌ عبدُ يالِيلِ بن عمرو ومسعود بن عمرو وحبيب بن عمرو، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الله، وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه. فقال له أحدهم: هو (54) يمرُط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلّمك أبدًا، لئن كنت رسولًا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله صلى عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف وقد قال لهم - فيما ذكر لي -: "إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنّي". وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه.

فلم يفعلوا واغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظلِّ حَبَلَةٍ من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف.

 فلما اطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، غير أنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". (55)

 فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحرّكت له رحمهما؛ فدعوا غلامًا لهما نصرانيًّا يقال له عدّاس، فقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عدّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده قال: "باسم الله" ثم أكل، فنظر عدّاس في وجهه ثم قال: والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومِن أهل أيّ البلاد أنت يا عدّاس، وما دينك؟" قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِن قرية الرجل الصالح يونس بن متّى" فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبيّ". فأكبّ عدّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه.

قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك! فلما جاءهما عدّاس قالا له: ويلك يا عدّاس! ما لك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي؛ ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبيّ. قالا له: ويحك يا عدّاس، لا يصرفنّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.

قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمرّ به النفر من الجنّ الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من جنّ أهل نَصيبين، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقصّ الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: (وإذ صرفنا إليك نفر من الجن يستمعون القرآن) إلى قوله تعالى: (ويجركم من عذاب أليم). وقال تبارك وتعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة. (56)

فصلى الله وملائكته وصالح عباده وسلّم وبارك على هذا النبي الشفيق الكريم، وقد أحسن جهاد جحا حينما أنشد:

ولَرُبَّ حَاجَـاتٍ تَعَـسَّـرَ نَـيْـلُهَا  ... والخَيْرُ كُلُّ الخَيْرِ فـي تَعْسِيْرِهَا

كُنْ وَاثِقًا بالله فِيمَـا قَـدْ قَـضَى     ...    واتْرُكْ أُمُورًا قَدْ دَعَاكَ لِغَيرِهَا

واجْعَلْ حيَاتَكَ كُلَّها بيَدِ الَّذِي  ... لولاهُ لَنْ تَقْوَى عَلَى تَدْبِيرِهَا

واتْرُكَ هَوَاكَ لِأَمْرِ رَبِّكَ واحْتَسِبْ  ... لَا تَلْتَـفِتْ للنَّفْسِ عِنْدَ زَئِيْرِهَا

مَنْ يَتَّقِ الرَّحْمَنَ يَلْقَ سَعَادَةً ...  يَعْيَا لِسَانُ الخَلْقِ عَنْ تَفْسِيْرِهَا

"وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته؛ قويت عبوديته له وحرّيته مما سواه؛ فكما أنّ طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه. كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيرَه. فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيّما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم، ممن هو قد مات أو يموت، قال تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا }. (57)

ومن جميل ما هتفت به يراعة الشاعر الأندلسي أبي الفضل يوسف بن محمد المعروف بابن النحوي المتوفى سنة 513 هـ وتسمَّى "القصيدة المنفرجة" وهي على روي منفرجة الغزالي الآنفة، قال ابن النحوي رحمه الله:

اشتَدَّي أزمَةُ تَنفَرِجي *** قَد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ
وَظَلامُ اللَّيلِ لَهُ سُرُجٌ *** حَتّى يَغشَاهُ أبُو السُرُجِ
وَسَحَابُ الخَيرِ لَهَا مَطَرٌ *** فَإِذَا جَاءَ الإِبّانُ تَجي
وَفَوائِدُ مَولانا جُمَلٌ *** لِسُرُوحِ الأَنفُسِ والمُهَجِ
وَلَها أَرَجٌ مُحي أَبَدا *** فَاقصُد مَحيَا ذاكَ الأَرجِ
فَلَرُبَّمَا فاضَ المحيَا *** بِبِحُورِ المَوجِ مِنَ اللُّجَجِ
وَالخَلقُ جَميعًا في يَدِهِ *** فَذَوُو سِعَةٍ وَذَوُو حَرَج
وَنزُولهُمُ وَطُلُوعُهُمُ *** فَعَلى دَرَكٍ وَعَلَى دَرَجِ
وَمَعائِشُهُم وَعَواقِبُهُم *** لَيسَت في المَشيِ عَلى عِوَجِ
وَرِضًا بِقَضَاءِ اللَهِ حِجىً *** فَعَلَى مَركُوزَتِهِ فَعُجِ
وَإِذا انفَتَحَت أَبوَابُ هُدى *** فاعجِل لِخَزائِنِهَا وَلِجِ
وَمَعاصِي اللَهِ سَماجَتُها *** تَزدَانُ لِذِي الخُلُقِ السَمِجِ
وَلِطَاعَتِهِ وَصَباحَتِها *** أنوَارُ صَبَاحٍ مُنبَلِجِ
واتلُ القُرآنَ بِقَلبٍ ذِي *** حَزَنٍ وَبِصَوتٍ فيهِ شَجِي
وَصَلاةُ اللَّيلِ مَسافَتُها *** فاذهَب فِيهَا بِالفَهمِ وَجِي
وَتَأَمَّلها وَمَعانِيهَا *** تأتِ الفَردَوسَ وَتَنفَرجِ
وَكِتَابُ اللَهِ رِياضَتُهُ *** لِيقُود الخلقِ بِمُندَرِجِ
وَخِيارُ الخَلقِ هُداتُهُمُ *** وَسِوَاهُم مِن هَمَجِ الهَمَجِ
واذا كُنتَ المِقدَامُ فَلا *** تجزَع في الحَربِ مِنَ الرَّهَج

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

................................................

1.    الترمذي (2396 ) وصححه الألباني.

2.    الطبراني في الكبير (193)

3.    البخاري (2996)

4.    الموافاة هنا هي الاستيفاء، أي أخذ الحق كاملًا مستوفيًا، والمراد: أي لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها، فيستوفي ما يستحقه من العقاب، عياذًا بالله  تعالى.

5.    الترمذي (2396 ) وقال حديث حسن وصححه الألباني في صحيح الترمذي. وأخرجه ابن ماجه (4031 ) باللفظ الثاني فقط. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الزاد (3/ 506): "يؤدّب الله عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظًا حذرًا، وأما من سقط من عينه، وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبًا أحدث الله له نعمة، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة، وأنه يريد به العذاب الشديد، والعقوبة، التي لا عافية معها".

6.    شرح رياض الصالحين للعثيمين (1 / 48)

7.    القول المفيد على كتاب التوحيد (2 / 79)

8.    أحمد في المسند (803 ) ومسلم (1 / 215 )

9.    قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: حديث: "والشرّ ليس إليك" يعني أنَّ أفعال الله تعالى لا توصف بالشرّ؛ بل كلها عدل أو فَضْلٌ وخير، لما فيها من الغايات المحمودة؛ لكن ما يُضَافُ للعبد يكون شرًّا بالنسبة له؛ لكن بالنسبة للقدر هو خير.

مثلًا: أصيب فلان بفقد والده، أصيب بفقد ماله؛ فهذا بالنسبة له سوء وشر؛ لكن بالنسبة إلى الَقَدر وفعل الله تعالى هو خير؛ لأنَّهُ لا يُنْظَرُ إلى المسألة بمجردها؛ بل إلى الغاية المحمودة من ورائها، والغاية المحمودة من ورائها أن يَبْتَلِيَ العباد بذلك، يبتلي الحي، يبتلي الميت (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2]. فإذاً أفعال الله تعالى كلها خير، وأما ما يضاف إلى العبد فينقسم إلى الخير والشر". إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل (38 / 17)

10.                    الأظهر أن أقله واحد وهو الصبر، لأنه واجب، والعبد مستحق للأجر بأداء الواجب، أما الرضا ففضيلة، وأعني به الرضا بالمقضي. أما أكثره فأربعه بزيادة الحمد لأن الحمد غير الشكر فالحمد أعم من جهة أسبابه والشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد عبادة جليلة وهي داخلة في هذا الباب دخولًا أوليًّا، والله أعلم.

11.                    المعتصر شرح كتاب التوحيد للخضير (1 / 219) باختصار وتصرف يسيرين.

12.                    أحمد (1494) وحسنه محققوه من أجل عاصم بن بهدله. وصححه الألباني في صحيح الجامع (996)

13.                    انظر: مجموع الفتاوى (١٠/ ٤١، ٢٨/ ٤٦٠)

14.                    مسلم 8/227 (2999 )

15.                    أي صاحب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد وهو عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله تعالى. (ت: 1285)

16.                    الترمذي (2499)، وابن ماجه (2451). وحسنه الألباني.

17.                    مسلم 8/94 (2749 ) ( 11 ) وفيه قد ابتدأ الخبر بالقسم فقال: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا..".

18.                    أحمد (1494) وحسنه محققوه من أجل عاصم بن بهدله. وصححه الألباني في صحيح الجامع (996)

19.                    البخاري 7/109 (5470 ) ومسلم 6/174 ( 2144 ) ( 23 )

20.                    تأمّل ثناء الله تعالى في سورة الأنعام على ثمانية عشر رسولًا ونبيًّا في سياق واحد مُتَّصِل، ثم خُتم الثناء العظيم بقوله الحاسم: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) وقال في سورة الإخلاص الكبرى "الزمر" للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم: (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فلا مسامحة في نقض التوحيد. فالشرك ينقض العمل كله: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).

21.                    الطبراني في الكبير (13/73/181 ) وضعفه الألباني في السلسلة (6 / 487) من جهة تدليس وعنعنة ابن إسحاق.

22.                    البخاري 4/139 ( 3231 ) ومسلم 5/181 ( 1795 ) ( 111 ) وتمامه: عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد يالِيلَ بن عبدِ كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني، فقال: إنّ الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد، إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا".

23.                    البخاري (4068) ومسلم (1791) بنحوه.

24.                    ابن ماجه (3427) وصححه الألباني. وأحمد (18455) بلفظ: "إلا الموت والهرم". وحسنه محققوه.

25.                    شعب الإيمان (1/176) والحلية (3/122) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2009)

26.                    شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للغنيمان (94-103/ 1) مختصرًا.

27.                    النقد هو العاجلة أي متاع الدنيا الزائل، أما النسيئة فهي التأخير، والمراد الآجلة وهو أجر الآخرة.

28.                    زاد المعاد (3/ 11)

29.                    أي: هلاكك.

30.                    اتباعًا للسنة فحقق الله لها أعظم مالم يخطر ببالها، ليقينها وتصديقها وحسن ظنها بربها سبحانه.

31.                    مسلم (918)

32.                    الترمذي (3514) وقال حديث صحيح، وكذلك صححه الألباني.

33.                    الترمذي (2404 ) وحسنه الألباني (2/287)

34.                    أحمد (9676) وجود إسناده محققوه. وأبو داود (3092) وصححه الألباني في الجامع (32)

35.                    أبو داود (3092) وصححه الألباني.

36.                    الكلْم: الجرح، والمراد لم تخدش الدنيا دينهم.

37.                    قالها إزراء على نفسه وتواضعًا، لأنّه قارن حاله بأَخَرَةٍ بحاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فهو مشهود له بالبرّ والشكر والإحسان رضي الله عنه.

38.                    الترمذي (2464) وحسنه.

39.                    البخاري (6377) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار وفتنة القبر وعذاب القبر وشرّ فتنة الغنى وشرّ فتنة الفقر".

40.                    نعمة في حقّ من أورثته توبة وإنابة، فأبدلها بالحسنات الماحية والطاعات الوازِنة، فآدم عليه السلام ارتفع مقامه بعد توبته فصار بعد التوبة خيرًا منه قبل الذنب.

41.                    ذكره ابن بطة في الإبانة من دعاء مطرف بن عبد الله. قال: كان مطرف بن عبد الله بن الشخير يدعو بهؤلاء الدعوات الخمس الكلمات: "اللهم إني أعوذ بك من شر الشيطان، ومن شر السلطان، ومن شر ما تجري به الأقلام، وأعوذ بك من أن أقول حقًّا هو لك رضى أبتغي به حمد سواك، وأعوذ بك من أن أتزين للناس بشيء يُشنِيني عندك، وأعوذ بك أن تجعلني عبرة لغيري، وأعوذ بك أن يكون أحد هو أسعد بما علّمتني مني". الإبانة (٢/ ١١/‏٢٨٠/ ١٩١٥). وهو دعاء لتحصيل التحصين من خيبة العمل، وهو دعاء حسن جامع.

42.                    وهي إمامة الدين والقدوة الحسنة.

43.                    لأنّ الحمد هو الثناء على من يستحق الثناء لجمال صفاته، حتى وإن لم يُحسن إلى الحامد، أما الشكر فهو الثناء على من أحسن إلى الشاكر.

44.                    كما قيل:

أفادتكم النعماء منّي ثلاثة   ...   يدي ولساني والضمير المُحَجّبا

45.                    فكل قضاء الله لعبده خير ما لم يبعده عنه.

46.                    مجموع الفتاوى (14 /306- 308) باختصار. وقد بيّن رحمه الله سبب ضلال الجهمية والجبرية والقدرية هنا فقال إتمامًا لما سبق: "والجهمية والجبرية بمعزل عن هذا، وكذلك القدرية الذين يقولون: لا تعود الحكمة إليه؛ بل ما ثمّ إلا نفعُ الخلق، فما عندهم إلا شكر، كما ليس عند الجهمية إلا قدرة، والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة لا يظهر فيها وصف حمد، وحقيقة مذهبهم أنه لا يستحق الحمد؛ فله ملك بلا حمد، كما أن عند المعتزلة له نوع من الحمد بلا ملك، وعند السلف له الملك والحمد تامّين، قال تعالى: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } فله الوحدانية في إلهيته، وله العدل وله العزّة والحكمة، وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم، فمن قصر عن معرفة السنة نقَصَ الربَّ بعض حقّه.

 والجهمي الجبري لا يُثبت عدلًا ولا حكمة، ولا توحيد إلهيته، بل توحيد ربوبيته، والمعتزلي لا يثبت توحيد إلهيته، ولا عدلًا ولا عزّة ولا حكمة، وإن قال: إنّه يثبت حكمةً ما، معناها يعود إلى غيره، فتلك لا تكون حكمة، فمن فعلَ لا لأمرٍ يرجع إليه، بل لغيره؛ فهذا عند العقلاء قاطبة ليس بحكيم. وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة فقد ثبت أنه رأس الشكر، فهو أول الشكر والحمد. وإن كان على نعمة وعلى حكمة فالشكر بالأعمال هو على نعمته، وهو عبادةٌ له لإلهيته التي تتضمن حكمته، فقد صار مجموع الأمور داخلًا في الشكر.

 ولهذا عظّم القرآن أمر الشكر، ولم يُعظّم أمر الحمد مجردًا إذْ كان نوعًا من الشكر، وشرع الحمدَ الذي هو الشكر مَقُولًا أمام كلّ خطاب مع التوحيد، ففي الفاتحة الشكر مع التوحيد، والخطب الشرعية لا بد فيها من الشكر والتوحيد. والباقيات الصالحات نوعان: فسبحان الله وبحمده فيها الشكر والتنزيه والتعظيم، ولا إله إلا الله والله أكبر فيها التوحيد والتكبير، وقد قال تعالى: {فادعوا الله مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين}. ". مجموع الفتاوى (8 /211- 212) وعليه فقد رجع الحمد إلى الشكر، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا من الحامدين الشاكرين المُقَرّبين السابقين، وبالله التوفيق.

47.                    وكم لله من لطفٍ خفيٍّ ...  يَدِقّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ   ...   فَفَرَّجَ كُرْبَة َ القَلْبِ الشَّجِيِّ

وكم أمرٍ تساءُ به صباحًا   ...  وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّة ُ بالعَشِيِّ

إذا ضاقت بك الأحوال يومًا ...   فَثِقْ بالواحِدِ الفَرْدِ العَلِيِّ

48.                    قال تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم) فإبراهيم عليه السلام أبٌ للعرب الإسماعيليين من جهة النسب وأب للمسلمين كافّة من جهة أبوّة النبوّة، وأبوّة النبوّة هي لنبيّنا أصالة وللمرسلين تبع، وهي بمعنى أبوّة الروح، وهي أعظم من أبوّة الجسد والنسل، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره (6 / 381): "رُوي عن أُبيّ بن كعب، وابن عباس أنهما قرآ: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم"، وروي نحو هذا عن معاوية، ومجاهد، وعِكْرِمة، والحسن: وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي. حكاه البغوي وغيره، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعَلِّمكم.." رواه أبو داود (8) والحاكم (3556) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتكوننّ هجرة بعد هجرة إلى مُهاجر أبيكم إبراهيم..". رواه أحمد (2/84) وجوّد سنده الحافظ في الفتح (11/380).

 قال ابن القيم رحمه الله: "لا بدّ من الولادة مرتين، كما قال المسيح للحواريين: "إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين" ولذلك كان النبي أبًا للمؤمنين كما في قراءة أبيّ: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبٌ لهم" ولهذا تفرّع على هذه الأبوّة أن جُعلت أزواجه أمهاتهم، فإنّ أرواحهم وقلوبهم ولدت به ولادةً أخرى غير ولادة الأمهات، فإنه أخرج أرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغيّ إلى نور العلم والإيمان وفضاء المعرفة والتوحيد، فشاهدت حقائق أخر وأمورًا لم يكن لها بها شعور قبله، قال تعالى: (الر . كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم) وقال: (هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) طريق الهجرتين (1 / 35)

49.                    بمعنى أنّ العالم ليس له قيام بدون الملّة المنسوبة إليه وهي الحنيفية، كما قال تعالى: (ملة أبيكم أبراهيم).

50.                    قال الشربيني رحمه الله: "وقد اجتمعت فيه خصال لم تجتمع في غيره:

 أوّلها: أنه اعتزل عن الخلق على ما قال: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله} فلا جرم بارك الله له في أولاده فقال: {ووهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً}.

ثانيها: أنه تبرّأ من أبيه كما قال عز وجل: {فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرّأ منه}. لا جرم سماه الله أبًا المسلمين فقال: (ملة أبيكم إبراهيم).

ثالثها: تلّ ولده للجبين ليذبحه في الله على ما قال تعالى: {وتله للجبين}. لا جرم فداه الله تعالى على ما قال: {وفديناه بذبح عظيم}.

 رابعها: أسلم نفسه فقال: {أسلمت لرب العالمين} فجعل الله تعالى النار بردًا وسلامًا عليه فقال: {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم}.

خامسها: أشفق على هذه الأمّة فقال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم}. لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات في دعائهم: "كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم".

 سادسها: وفي قوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} لا جرم جعل موطئ قدميه مباركًا {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}.

سابعها: عادى كل الخلق في الله فقال: (فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين) فاتخذه الله خليلًا كما قال: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً}". تفسير السراج المنير (2 / 341) باختصار يسير. وأصلها من تفسير الرازي (1 / 2991)

51.                    قال شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسيره: "واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وفتناك فتونا) فقال بعضهم: ابتليناك ابتلاءً واختبرناك اختبارًا.  قال ابن عباس في قوله: (وفتناك فتونا) يقول: اختبرناك اختبارًا. وقال: ابتليت بلاء. وعن قتادة: ابتليناك بلاء. وقال الضحاك: هو البلاء على إثر البلاء. وقال آخرون: معنى ذلك: أخلصناك. وعن مجاهد (وفتناك فتونا): أخلصناك إخلاصًا. وكذلك عن سعيد بن جبير. قال أبو جعفر: وقد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة، وأنها الابتلاء والاختبار". تفسير الطبري (18 / 306، 310، 311) مختصرًا.

وقال السعدي: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} "أي: اختبرناك، وبلوناك، فوجدناك مستقيمًا في أحوالك أو نقلناك في أحوالك، وأطوارك، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه" تفسير السعدي (1 / 504) وقال البيضاوي: { وفتناك فتونا } "وابتليناك ابتلاء أو أنواعًا من الابتلاء، على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة، فخلّصناك مرّة بعد أخرى، وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الأُلّاف، والمشي راجلًا على حذر، وفقد الزاد، وأجر نفسه.. إلى غير ذلك". تفسير البيضاوي (1 / 50) وقال الشربيني في تفسير السراج المنير (2 / 501): "فإن قيل: إنّه تعالى عدّد أنواع مِنَنه على موسى في هذا المقام، فكيف يليق بهذا الموضع: (وفتناك فتونا)؟ أجيب بجوابين:

 الأوّل: فتنّاك أي: خلّصناك تخليصًا، من قولهم: فتنتُ الذهب إذا أردت تخليصه من الفضة أو نحوها.

 الثاني: أنّ الفتنة تشديد المحنة، يقال: فُتنَ فلان عن دينه، إذا اشتدّت عليه المحنة حتى رجع عن دينه، قال تعالى: {فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله}، وقال تعالى: {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين}. ولما كان التشديد في المحنة يوجب كثرة الثواب عدّه الله تعالى من جملة النعم.

فإن قيل: هل يصح إطلاق الفتّان على الله تعالى اشتقاقًا من قوله تعالى: (وفتناك فتونا)؟ أجيب: بأنّه لا يصح، لأنّه صفة ذمّ في العُرف، وأسماء الله تعالى توقيفية، لا سيّما فيما يوهم ما لا ينبغي". أهـ.

هذا وحديث الفتون حديث مشهور وفيه عبر لكل مؤمن، وقد رأيت إيراده لمناسبته حال المؤمن في رضاه عن ربّه تعالى وهو يقلّبه بين ثنايا قدره ورحمته وأعطاف قضائه، وحكمته وأكناف لطفه وبرّه. وهو موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما ولعله نقل كثيرًا منه عن كعب الأحبار مما أورده عن بني إسرائيل مما لم يُكذّبه شرعنا، فعند أحمد (10130) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج". وقال الإمام الشافعي رحمه الله في ذلك: "من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى: حدّثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم، وهو نظير قوله: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم، ولا تكذبوهم"." نقله عنه الحافظ في فتح الباري: (6/ 388).

وبما أن السند لابن عباس جيّد فابن عباس حبرٌ بحرٌ يعلم النافع فيرويه وغيره فيطويه وهو الناصح العليم والناقد البصير رضي الله عنه، وحديث الفتون قد أخرجه الإمام النسائي في السنن الكبرى (11326) والإمام الطبري (16/125) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد صحح سنده البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (6/234) وصححه سليم الهلالي في صحيح الأنباء (2/498) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 66):"رواه أبو يَعْلى، ورجالهُ رجال الصَّحِيحِ غير أَصْبَغَ بنِ زيد والقاسم بن أبي أيُّوب وهما ثقتان". وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 196) وبنحوه في تفسيره بعد سياق الحديث بطوله: "هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائي، وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، في تفسيرهما من حديث يزيد بن هارون. والأشبه والله أعلم أنه موقوف، وكونه مرفوعًا فيه نظر، وغالبه متلقى من الإسرائيليات وفيه شيء يسير مصرح برفعه في أثناء الكلام، وفي بعض ما فيه نظر ونكارة، والأغلب أنه من كلام كعب الأحبار. وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضًا، والله أعلم".

والحديث بطوله عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: سألت عبد اللهِ بنَ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما عن قولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لموسى صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، فسألْتُه عن الفُتونِ؟ فقال: استأنِفِ النَّهارَ يا ابنَ جُبيرٍ؛ فإنَّ لها حديثًا طويلًا. قال: فغدوْتُ على ابنِ عبَّاسٍ لأنتجِزَ ما وَعَدني مِن حديثِ الفُتونِ، فقال:

 تذاكَرَ فِرعونُ وجُلساؤُه ما كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ وعَدَ إبراهيمَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أنْ يجعَلَ في ذُرِّيتَه أنبياءَ ومُلوكًا؛ فقال بعضُهم: إنَّ بني إسرائيلَ لينتظِرونَ ذلك ما يشُكُّون فيه، وقد كانوا يظنُّونَ أنَّه يُوسفُ بنُ يعقوبَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فلمَّا هلَكَ قالوا: ليس هكذا كان، إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ وعَدَ إبراهيمَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. قال فِرعونُ: فكيف تَرَونَ؟ فائْتَمَروا، واجتمَعوا أمْرَهم على أنْ يبعَثَ رِجالًا بالشِّفارِ، يَطُوفون في بني إسرائيلَ، فلا يَجِدون مولودًا ذكَرًا إلَّا ذَبَحوه، ففَعَلوا ذلك، فلمَّا أنْ رَأَوا أنَّ الكبارَ في بني إسرائيلَ يموتونَ بآجالِهم، والصِّغارَ يُذْبَحونَ، قالوا: أتوشِكونَ أنْ تُفْنوا بني إسرائيلَ، فتَصيروا إلى أنْ تُباشِروا مِن الأعمالِ والخدمةِ الَّتي كانوا يَكْفُونكم؟ فاقْتُلوا عامًا كلَّ مولودٍ ذكرٍ، فيقِلَّ نَباتُهم، ودَعُوا عامًا، فلا تَقْتلوا منهم أحدًا، فيشِبَّ الصِّغارُ مكانَ مَن يموتُ مِن الكبارِ، فإنَّهم لنْ يَكْثروا بمَن تَسْتحيون، فتخافوا مُكاثرتَهم إياكم، ولنْ يَفْنَوا بمَن تقتُلونَ، فتحتاجونَ إليهم، فأجْمَعوا أمْرَهم على ذلك، فحمَلَت أُمُّ موسى بهارونَ عليهما السَّلامُ العامَ الَّذي لا يُذْبَحُ فيه الغِلمانُ، فولدَتْه عَلانيةً، فلمَّا كان مِن قابلٍ حمَلَتْ بمُوسى عليه السَّلامُ، فوقَعَ في قلْبِها مِن الهَمِّ والحزنِ. فذلك مِن الفُتونِ يا ابنَ جُبيرٍ، ما دخَلَ عليه في دهو بَطْنِ أُمِّه ممَّا يُرادُ به، فأوحَى اللهُ تعالى إليها: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].

 وأمَرَها أنْ إذا ولَدَتْ أنْ تجعَلَه في تابوتٍ، ثمَّ تُلْقِيه في اليمِّ، فلمَّا ولَدَت فعَلَت ذلك به، فألْقَته في اليمِّ، فلمَّا توارى عنها ابنُها أتاها الشَّيطانُ، فقالت في نفْسِها: ما فعَلْتُ بابني؟! لو ذُبِحَ لبِثَ عندي فرأيْتُه وكفَّنْتُه كان أحَبَّ إليَّ مِن أنْ أُلْقِيَه بيدي إلى دوابِّ البحرِ وحِيتانِه، وانتهى الماءُ به حتَّى أرفَأَ به عند فُرْضَةُ مُسْتَقى جواري امرأةِ فِرعونَ، فلمَّا رأيْنَه أخذْنَه، فهمَمْنَ أنْ يفتحْنَ التَّابوتَ، فقالت بعضُهنَّ: إنَّ في هذا مالًا، وإنَّا إنْ فتحْناه لم تُصدِّقْنا امرأةُ الملِكِ بما وجَدْنا فيه، فحمَلْنَه بهيئةٍ لم يُحرِّكْنَ منه شيئًا، دفعْنَه إليها، فلمَّا فتحَتْه رأتْ فيه غُلامًا، فأُلْقِيَ عليه منها محبَّةٌ لم تُلْقَ مثْلُها على البشَرِ قطُّ، وأصبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فارغًا مِن ذِكْرِ كلِّ شَيءٍ إلَّا مِن ذِكْرِ مُوسى عليه السَّلامُ، فلمَّا سمِعَ الذَّابِحونَ بأمْرِه أقبلوا بشِفارِهم إلى امرأةِ فرعونَ ليذبَحُوه -وذلك مِن الفُتونِ يا ابنَ جُبيرٍ- فقالت للذَّبَّاحينَ: أقِرُّوه؛ فإنَّ هذا الواحدَ لا يَزيدُ في بني إسرائيلَ حتَّى آتِيَ فِرعونَ فأسْتَوْهِبَه منه، فإنْ وهَبَه لي كنْتُم قد أحسنْتُم وأجمَلْتُم، وإنْ أمَرَ بذبْحِه لم أَلُمْكم، فأتَتْ به فرعونَ، فقالت: قُرَّةُ عينٍ لي ولك، قال فِرعونُ: يكونُ لك، فأمَّا لي فلا حاجةَ لي في ذلك. قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "والَّذي أحلِفُ به، لو أقَرَّ فِرعونُ بأنْ يكونَ له قُرَّةَ عينٍ كما أقَرَّت امرأتُه، لهداهُ اللهُ به كما هدى به امرأتَه، ولكنَّ اللهَ حرَمَه ذلك".

 فأرسَلَتْ إلى مَن حولَها، مِن كلِّ امرأةٍ لها لبنٌ، تختارُ لها ظِئرًا، فجعَلَ كلَّما أخذَتْه امرأةٌ منهنَّ، فترُضِعُه، لم يَقْبَلْ ثَدْيَها، حتَّى أشفَقَت عليه امرأةُ فِرعونَ أنْ يَمتنِعَ مِن اللَّبنِ فيموتَ، فأحْزَنَها ذلك، فأمرَتْ به، فأُخْرِجَ إلى السُّوقِ وتجمَّعَ النَّاسُ، تَرْجو أنْ تجِدَ له ظِئرًا يأخُذُ منها، فلم يَقْبَلْ، وأصبَحَتْ أُمُّ موسى والهةً، فقالت لأُخْتِه: قُصِّيه -يعني: أثَرَهُ- واطْلُبِيه، هل تسمعينَ له ذِكْرًا؟ أحيٌّ ابْني أمْ قد أكلَتْه الدَّوابُّ؟ ونسِيَت ما كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ وعَدَها فيه، فبَصُرتْ به أختُه عن جُنُبٍ وهم لا يَشعُرونَ، والجُنُبُ: أنْ يبصِرَ الإنسانُ إلى الشَّيءِ البعيدِ وهو إلى جَنْبِه لا يشعُرُ به، فقالت مِن الفرحِ حين أعياهم الظُّؤارُ: أنا {أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12]، فأخَذُوها فقالوا: ما يُدريك ما نُصْحُهم له؟ هل يعرِفونَه؟ حتَّى شكُّوا في ذلك -فذلك مِن الفُتونِ يا ابنَ جُبيرٍ- فقالت: نصيحَتُهم له وشفقَتُهم عليه رغبةً في صِهر الـمَلِك، ورجاءَ مَنفعتِه، فأرْسَلوها، فانطلَقَتْ إلى أُمِّها فأخبرتْها الخبرَ، فجاءتْ أُمُّه، فلمَّا وضعَتْه في حِجْرِها، نزَا إلى ثَدْيِها، فمَصَّه حتَّى امتلَأَ جَنباهُ رِيًّا، وانطلَقَ البشيرُ إلى امرأةِ فرعونَ: أنْ قد وجَدْنا لابْنِك، فأرسَلَتْ إليها، فأُوتِيتْ بها وبه، فلمَّا رأت ما يصنَعُ، قالت لها: امْكُثي عندي؛ تُرْضِعي ابني هذا، فإنِّي لم أحجِبْه شيئًا قطُّ، فقالت أُمُّ مُوسى: لا أستطيعُ أنْ أدَعَ بيتي وولدي، فيَضيعَ، فإنْ طابتْ نفْسُك أنْ تُعْطِيَنه، فأذهَبَ به إلى مَنْزلي، فيكونَ معي لا آلوهُ خيرًا فعلْت، وإلَّا فإنِّي غيرُ تاركةٍ بيتي وولدي، وذكَرَت أُمُّ مُوسى عليه السَّلامُ ما كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ وعَدَها، فتعاسَرَت على امرأةِ فرعونَ، وأيقنَتْ بأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُنْجِزُ موعودَه، فرجَعَتْ إلى بيتِها بابنِها مِن يومِها، فأنبَتَه اللهُ نباتًا حسنًا، وحفِظَه لِمَا قد قَضى فيه، فلم يزَلْ بنو إسرائيلَ وهم في ناحيةِ القريةِ مُمْتنعينَ يَمْتنعونَ به مِن السُّخرةِ ما كان فيهم.

فلمَّا تَرعرَعَ قالت امرأةُ فرعونَ لأُمِّ مُوسى: أريدُ أنْ تُرِيني ابني، فوعَدَتْها يومًا تُرِيها فيه إيَّاه، فقالتِ امرأةُ فِرعونَ لخُزَّانِها، وظُؤورتِها، وقَهارِمَتِها: لا يَبْقينَّ أحدٌ منكم إلَّا استقبَلَ ابني اليومَ بهَديَّةٍ وكَرامةٍ؛ لِأَرى ذلك فيه، وأنا باعثةٌ أمينًا يُحْصِي ما يصنَعُ كلُّ إنسانٍ منكم، فلم تَزَلِ الهدايا والكرامةُ والنِّحلةُ، تَستقبِلُه مِن حينِ خرَجَ مِن بيتِ أُمِّه إلى أنْ دخَلَ على امرأةِ فرعونَ، فلمَّا دخَلَ عليها بجَّلَتْه، وأكرمَتْه، وفرِحَت به، وأعجَبَها، ونحَلَت أُمَّه؛ لحُسْنِ أثَرِه، ثمَّ قالت: لآتيَنَّ به فِرعونَ، فليَنْحَلَنَّه، وليُكْرِمَنَّه، فلمَّا دخَلَتْ به عليه، جعَلَه في حِجْرِه، فتناوَلَ مُوسى لِحيةَ فرعونَ، فمَدَّها إلى الأرضِ، فقال الغواةُ مِن أعداءِ اللهِ لفرعونَ: ألَا ترى إلى ما وعَدَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ إبراهيمَ نَبِيَّه عليه السَّلامُ أنَّه يرِثُك، ويَعْلوك، ويصرَعُك، فأرسَلَ إلى الذَّبَّاحينَ، وذلك مِن الفُتونِ يا ابنَ جُبيرٍ، بعدَ كلِّ بلاءٍ ابتُلِيَ به، أو أُرِيدَ به فُتونًا. فجاءت امرأةُ فِرعونَ تَسْعى إلى فرعونَ، فقالت: ما بدا لك في هذا الغلامِ الَّذي وهَبْتَه لي؟ قال: ألَا تَرَيْنَه يزعُمُ أنَّه يصرَعُني ويَعْلوني؟ قالت: اجْعَلْ بيني وبينك أمرًا تعرِفُ فيه الحقَّ؛ ائْتِ بجَمْرتينِ ولُؤلؤتَينِ، فقَرِّبْهما إليه، فإنْ بطَش باللُّؤلؤتَينِ واجتنَبَ الجَمْرتينِ، عرَفْتَ أنَّه يعقِلُ، وإنْ تَناوَلَ الجَمْرتَينِ ولم يُرِدِ اللُّؤلؤتَينِ، علِمْتَ أنَّ أحدًا لا يُؤثِرُ الجَمرتينِ على اللُّؤلؤتينَ وهو يعقِلُ، فقُرِّبَ ذلك إليه، فتناوَلَ الجَمرتَينِ، فانْتَزَعوهما مِن يَدِه، وخافت أنْ يحرِقَا يدَيْه، فقالت المرأةُ: ألَا ترى؟! فصرَفَه اللهُ عنه بعدما كان قد هَمَّ به، وكان الله عَزَّ وجَلَّ بالغًا فيه أمْرَه.

فلمَّا بلَغَ أشُدَّه وصار مِن الرِّجالِ، لم يكُنْ أحدٌ مِن آلِ فِرعونَ يخلُصُ إلى أحدٍ مِن بني إسرائيلَ معه بظُلمٍ ولا سُخرة، حتَّى امْتَنعوا كلَّ الامتناعِ. فبينما مُوسى عليه السَّلامُ يَمْشي في ناحيةِ المدينةِ، إذ هو برجُلينِ يَقْتتلانِ؛ أحدُهما فرعونيٌّ، والآخرُ إسرائيليٌّ، فاستغاثَه الإسرائيليُّ على الفرعونيِّ، فغضِبَ مُوسى عليه السَّلامُ غضبًا شديدًا؛ لأنَّه تناوَلَ وهو يعلَمُ منزلةَ مُوسى عليه السَّلامُ مِن بَني إسرائيلَ، وحِفْظَه لهم، لا يعلَمُ النَّاسُ إلَّا إنَّما ذلك مِن الرَّضاعِ إلَّا أُمُّ مُوسى، إلَّا أنْ يكونَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أَطْلَعَ مُوسى عليه السَّلامُ مِن ذلك على ما لم يُطْلِعْ عليه غيرَه. فوكَزَ مُوسى عليه السَّلامُ الفرعونيَّ، فقتَلَه، وليس يراهما أحدٌ إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، فقال مُوسى عليه السَّلامُ حين قتَلَ الرَّجلَ: هذا مِن عمَلِ الشَّيطانِ؛ إنَّه عدُوٌّ مُضِلٌّ مُبينٌ، ثمَّ قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ}، إلى قولِه: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]. {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18] الأخبارَ، فأُتِيَ فِرعونُ فقيلَ: إنَّ بني إسرائيلَ قد قتَلَتْ رجُلًا مِن آلِ فرعونَ، فخُذْ لنا بحَقِّنا، ولا تُرخِّصْ لهم، فقال: ابْغُوني قاتِلَه ومَن شهِدَ عليه؛ فإنَّ الملِكَ وإنْ كان صَفْوُه مع قومِه، لا يستقيمُ له أنْ يُقِيدَ بغيرِ بيِّنةٍ، ولا ثَبَتٍ، فانْظُروا في عِلْمِ ذلك آخُذْ لكم بحَقِّكم، فبينا هم يَطوفونَ لا يَجِدونَ شيئًا، إذا موسى عليه السَّلامُ قد رأى في الغدِ ذلك الإسرائيليَّ يقتُلُ رجُلًا مِن آلِ فرعونَ آخرَ، فاستغاثَه الإسرائيليُّ على الفرعونيِّ، فصادَفَ مُوسى عليه السَّلامُ قد ندِمَ على ما كان منه، فكَرِهَ الَّذي رأى، فغضِبَ الإسرائيليُّ وهو يُريدُ أنْ يبطِشَ بالفرعونيِّ، فقال للإسرائيليِّ -لِمَا فعَلَ أمس واليومَ-: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18]. فنظَرَ الإسرائيليُّ إلى مُوسى عليه السَّلامُ بعدما قال له ما قال، فإذا هو غضبانُ كغضَبِه بالأمسِ الَّذي قتَلَ به الفرعونيَّ، فخاف أنْ يكونَ بعدما قال له: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} إيَّاه أراد، ولم يكُنْ أراده، إنَّما أراد الفرعونيَّ، فخاف الإسرائيليُّ، فحاجَزَ الفرعونيَّ، فقال: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} [القصص: 19]؟ وإنَّما قال ذلك؛ مخافةَ أنْ يكون إيَّاهُ أراد مُوسى عليه السَّلامُ أنْ يقتُلَه، فتنازَعَا. فانطلَقَ الفرعونيُّ إلى قومِه، فأخبَرَهم بما سمِعَ مِن الإسرائيليِّ مِن الخبرِ حين يقولُ: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} [القصص: 19]، فأرسَلَ فرعونُ الذَّبَّاحينَ ليقتُلوا موسى عليه السَّلامُ، فأخَذَ رُسلُ فرعونَ الطَّريقَ الأعظمَ يَمْشون على هَيئتِهم يطلُبونَ مُوسى عليه السَّلامُ، وهم لا يخافونَ أنْ يفوتَهم، فجاء رجُلٌ مِن شِيعَةِ مُوسى عليه السَّلامُ مِن أَقْصى المدينةِ، فاختصَرَ طريقًا قريبًا حتَّى سبَقَهم إلى موسى عليه السَّلامُ فأخْبَرَه. فذلك مِن الفُتونِ يا ابنَ جُبيرٍ.

 فخرَجَ مُوسى عليه السَّلامُ مُتوجِّهًا نحوَ مدينَ لم يلْقَ بلاءً قبلَ ذلك، وليس له علمٌ بالطَّريقِ إلَّا حُسْنَ الظَّنِّ بربِّه عَزَّ وجَلَّ، فإنَّه قال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]. {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} إلى {تَذُودَانِ} [القصص: 23]، يعني بذلك: حابستَينِ غنَمَهما، فقال لهما: ما خطْبُكما مُعتزلتَينِ لا تَسْقيانِ مع النَّاسِ؟ قالتا: ليس لنا قُوَّةٌ نُزاحِمُ القومَ، وإنَّما ننتظِرُ فُضولَ حياضِهم، فسقى لهما، فجعَلَ يغرِفُ بالدَّلْوِ ماءً كثيرًا، حتَّى كانتا أوَّلَ الرِّعاءِ فراغًا، فانصرَفَتا بغنَمِهما إلى أبيهما، وانصرَفَ موسى عليه السَّلامُ، فاستظَلَّ بشجرةٍ، وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، فاستنكَرَ أبوهما سُرعةَ صُدورِهما بغنَمِهما حُفَّلًا بطانًا، فقال: إنَّ لكما اليومَ لشأنًا، فأخبَرَتَاه بما صنَعَ موسى عليه السَّلامُ، فأمَرَ إحداهما أنْ تَدْعُوَه له، فأتَتْ موسى عليه السَّلامُ فدَعَتْه، فلمَّا كلَّمَه قال: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25]، ليس لفِرعونَ ولا لقومِه علينا سُلطانٌ، ولسْنا في مَمْلكتِه.

 قال: فقالت إحداهما: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، فاحتمَلَتْه الغَيرةُ على أنْ قال: وما يُدريكِ ما قُوَّتُه؟ وما أمانَتُه؟ قالت: أمَّا قُوَّتُه: فما رأيْتُ في الدَّلوِ حين سَقى لنا، لم أرَ رجُلًا قطُّ في ذلك المَسْقى أقوى منه، وأمَّا أمانَتُه: فإنَّه نظَرَ إليَّ حين أقبلْتُ إليه وشَخَصْتُ له، فلمَّا علِمَ إنِّي امرأةٌ، صوَّبَ رأْسَه لم يرفَعْه، ولم ينظُرْ إليَّ حتَّى بلَّغْتُه رِسالتَك، ثمَّ قال لي: امشِي خلفي، وانْعَتي لي الطَّريقَ، لم يفعَلْ هذا إلَّا وهو أمينٌ، فسُرِّيَ عن أبيها وصدَّقَها، وظَنَّ به الَّذي قالت له. فقال له: هل لك {أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ}، إلى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، ففعَلَ، فكانت على نَبِيِّ اللهِ موسى عليه السَّلامُ ثمانيَ سنينَ واجبةً، وكانت سنتانِ عِدَةً منه، فقَضَى اللهُ عَزَّ وجَلَّ عنه عِدَتَه فأتمَّها عشْرًا. قال سَعيدٌ: فلَقِيَني رجُلٌ مِن أهلِ النَّصرانيَّةِ مِن عُلمائِهم، فقال: هلْ تَدْري أيَّ الأجلينِ قضى مُوسى عليه السَّلامُ؟ قلْتُ: لا، وأنا يومئذٍ لا أدري، فلقِيتُ ابنَ عبَّاسٍ، فذكَرْتُ ذلك له، فقال: أمَا علِمْتَ أنَّ ثمانيًا كانت على نبيِّ اللهِ عليه السَّلامُ واجبةً، لم يكُنْ نبيُّ اللهِ ليَنْقُصَ منها شيئًا، وتعلَمُ أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ كان قاضيًا عن مُوسى عليه السَّلامُ عِدَتَه الَّتي وعَدَ، فإنَّه قضى عشْرَ سنينَ. فلقِيتُ النَّصرانيَّ، فأخبَرْتُه بذلك، فقال: الَّذي سألْتَه فأخبَرَك أعلَمُ منك بذلك؟ قلْتُ: أجل، وأَولى.

 فلمَّا سار مُوسى عليه السَّلامُ بأهلِه كان مِن أمْرِ النَّارِ ما قَصَّ اللهُ عليك في القُرآنِ، وأمْرِ العصا ويَدِه، فشكا إلى ربِّه عَزَّ وجَلَّ ما يتخوَّفُ مِن آلِ فرعونَ في القتيلِ، وعُقدةَ لسانِه، فآتاهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ سُؤْلَه، وحَلَّ عُقدةً مِن لسانِه، وأوحى اللهُ عَزَّ وجَلَّ إلى هارونَ عليه السَّلامُ، وأمَرَه أنْ يلقاهُ، واندفَعَ مُوسى عليه السَّلامُ بعصاهُ، حتَّى لقِيَ هارونَ عليه السَّلامُ، وانطلَقَا جميعًا إلى فرعونَ، فأقاما حِينًا على بابِه لا يُؤْذَنُ لهما، فقالا: إنَّا رسولَا ربِّك، قال: فمَن ربُّكما يا موسى؟ فأخبراهُ بالَّذي قَصَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عليك في القُرآنِ، قال: فما تُريدانِ؟ وذكَّرَه القتيلَ، واعتذَرَ بما قد سمِعْتَ، وقال: أريدُ أنْ تُؤمِنَ باللهِ، وأنْ تُرْسِلَ معي بني إسرائيلَ، فأبى عليه، وقال: ائتِ بآيةٍ إنْ كنْتَ مِن الصَّادقينَ، فألقى عصاه فإذا هي حيَّةٌ عظيمةٌ، فازعةٌ، فاغرةٌ فاها، مُسرعةٌ إلى فرعونَ، فلمَّا رآها فِرعونُ قاصدةً إليه خافها، فاقتحَمَ عن سَريرِه، واستغاثَ بمُوسى عليه السَّلامُ أنْ يكُفَّها عنه، ففعَلَ، ثمَّ أخرَجَ يَدَه مِن جَيْبِه، فرآها بيضاءَ مِن غيرِ سُوءٍ، يعني: مِن غيرِ برَصٍ، فرَدَّها، فعادت إلى لونِها الأوَّلِ.

 فاستشارَ الملَأَ حولَه فيما رأى، فقالوا له: {إن هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [طه: 63] الآيةَ، والمُثْلى: مُلْكُهم الَّذي هم فيه والعيشُ. فأَبَوا على مُوسى عليه السَّلامُ أنْ يُعْطُوه شيئًا ممَّا طلَبَ، وقالوا له: اجمَعْ لهما السَّحرةَ؛ فإنَّهم بأرضِك كثيرٌ، حتَّى نغلِبَ سِحْرَهما، وأرسَلَ في المدائنِ، فحُشِرَ له كلُّ ساحرٍ مُتعالمٍ، فلمَّا أَتَوا على فرعونَ، قالوا: ما يعمَلُ هذا السَّاحرُ؟ قالوا: يعمَلُ الحيَّاتِ، قالوا: فلا واللهِ ما أحدٌ في الأرضِ يعمَلُ السِّحرَ والحيَّاتِ والحبالَ والعِصِيَّ الَّذي نعمَلُ، فما أجْرُنا إنْ نحن غلَبْنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصَّتي، وأنا صانعٌ إليكم كلَّ شَيءٍ أحببتم، فتَواعَدوا يومَ الزِّينةِ وأنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.

 قال سعيدٌ: فحدَّثني ابنُ عبَّاسٍ: أنَّ يومَ الزِّينةِ اليومُ الَّذي أظهَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ فيه مُوسى عليه السَّلامُ على فِرعونَ والسَّحرةِ هو يومُ عاشوراءَ. فلمَّا اجتمعوا في صَعيدٍ، قال النَّاسُ بعضُهم لبعضٍ: انطَلِقوا، فنتخبَّرْ هذا الأمْرَ، {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40]، يعنون مُوسى وهارونَ عليهما السَّلامُ؛ استهزاءً بهما، فقالوا: يا موسى -لِقُدْرتِهم في أنفُسِهم بسِحْرِهم- إمَّا أنْ تُلْقِيَ، وإمَّا أنْ نكونَ نحن المُلْقينَ، قال: بل ألْقُوا. {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44]، فرأى مُوسى عليه السَّلامُ مِن سِحْرِهم ما أوجَسَ في نفْسِه خِيفةً، فأوحى اللهُ عَزَّ وجَلَّ إليه: أنْ ألْقِ عصاك، فلمَّا ألقاها، صارت ثُعبانًا عظيمًا فاغرةً فاها، فجُعِلَتِ العِصِيُّ بدَعوةِ مُوسي عليه السَّلامُ تلتبِسُ بالحبالِ، حتَّى صارتْ جُرُزًا إلى الثُّعبانِ تَدخُل فيه، حتَّى ما أبقَتْ عصًا ولا حبلًا إلَّا ابتلعَتْه. فلمَّا عرَفَ السَّحرةُ ذلك، قالوا: لو كان هذا سِحرٌ لم يَبلُغْ مِن سِحرِنا كلَّ هذا، ولكنَّه أمْرٌ مِن اللهِ، آمنَّا باللهِ ربِّنا وما جاء به مُوسى عليه السَّلامُ، ونتوبُ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ ممَّا كنَّا عليه. وكسَرَ اللهُ ظهْرَ فِرعونَ في ذلك الموطنِ وأشياعِه، وأظهَرَ الحقَّ، وبطَلَ ما كانوا يعمَلونَ، فغُلِبوا هنالك وانقَلَبوا صاغِرينَ. وامرأةُ فِرعونَ بارزةٌ مُتبذِّلَةٌ تَدْعو بالنَّصرِ لمُوسى عليه السَّلامُ على فِرعونَ، فمَن رآها مِن آلِ فرعونَ ظَنَّ أنَّها إنَّما تبذَّلَتْ للشفقةِ على فِرعونَ وأشياعِه، وإنَّما كان حُزْنُها وهمُّها لمُوسى عليه السَّلامُ.

فلمَّا طال مُكْثُ مُوسى عليه السَّلامُ لمواعيدِ فِرعونَ الكاذبةِ، كلَّما جاءه بآيةٍ وعَدَه عندها أنْ يُرْسِلَ معه بني إسرائيلَ، فإذا مضَتْ أخلَفَ موعِدَه، وقال: هل يستطيعُ ربُّك أنْ يصنَعَ غيرَ هذا؟ فأرسَلَ اللهُ عليه وعلى قومِه الطُّوفانَ، والجرادَ، والقُمَّلَ، والضَّفادعَ، آياتٍ مُفصَّلاتٍ، كلُّ ذلك يَشْكو إلى موسى عليه السَّلامُ، ويطلُبُ إليه أنْ يكُفَّها عنه، ويُواثِقُه على أنْ يُرسِلَ معه بني إسرائيلَ، فإذا كَفَّ ذلك عنه، أخلَفَ موعِدَه ونكَثَ عهدَه. فأُمِرَ موسى عليه السَّلامُ بالخُروجِ بقومِه، فخرَجَ بهم ليلًا، فلمَّا أصبَحَ فرعونُ ورأى أنَّهم قد مَضَوا، أرسَلَ في المدائنِ حاشرينَ، فتبِعَهم بجُنودٍ عظيمةٍ كثيرةٍ، وأوحى اللهُ عَزَّ وجَلَّ إلى البحرِ: أنْ إذا ضرَبَك مُوسى بعصاهُ، فانفرِقْ له اثنتَيْ عشْرةَ فِرقةً، حتَّى يجوزَ موسى عليه السَّلامُ ومَن معه، ثمَّ الْتَئَمَ على مَن بقِيَ بعدُ مِن فرعونَ وأشياعِه، فنسِيَ مُوسى عليه السَّلامُ أنْ يضرِبَ البحرَ بالعصا، فانْتَهى إلى البحرِ وله قصيفٌ؛ مخافةَ أنْ يَضرِبَه موسى عليه السَّلامُ وهو غافِلٌ، فيصيرَ عاصيًا اللهَ عَزَّ وجَلَّ.

فلمَّا تراءى الجَمْعانِ وتقارَبَا، قال أصحابُ موسى: إنَّا لمُدْرَكونَ، افعَلْ ما أمرَكَ به ربُّك عَزَّ وجَلَّ؛ فإنَّك لم تكذِبْ ولم تُكْذَبْ، فقال: وعَدَني ربِّي عَزَّ وجَلَّ إذا أتيْتُ البحرَ، انفرَقَ لي اثنتيْ عشْرةَ فِرقةً حتَّى أُجاوزَه، ثمَّ ذكَرَ بعدَ ذلك العصا، فضرَبَ البحرَ بعصاه حين دنا أوائلُ جُندِ فرعونَ مِن أواخرِ جُندِ مُوسى عليه السَّلامُ، فانفرَقَ البحرُ كما أمَرَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وكما وُعِدَ مُوسى عليه السَّلامُ، فلمَّا أنْ جاوَزَ موسى عليه السَّلامُ وأصحابُه البحرَ، ودخَلَ فِرعونُ وأصحابُه، الْتَقى عليهم البحرُ كما أُمِرَ.

 فلمَّا جاوَزَ مُوسى عليه السَّلامُ البحرَ، قال أصحابُه: إنَّا نخافُ ألَّا يكونَ فِرعونُ قد غرِقَ، فلا نُؤمِنُ بهلاكِه، فدعا ربَّه عَزَّ وجَلَّ، فأخرَجَه له ببدنه حتَّى استيْقَنوا بهلاكِه. ثمَّ مَرُّوا بعدَ ذلك {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، إلى {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139]، قد رأيتُمْ مِن العِبَرِ، وسمِعْتُم ما يَكْفيكم، ومَضَى.

 فأنزَلَهم مُوسى عليه السَّلامُ منزلًا، ثمَّ قال لهم: أطيعوا هارونَ عليه السَّلامُ؛ فإنِّي قد استخلفْتُه عليكم، وإنِّي ذاهبٌ إلى ربِّي عَزَّ وجَلَّ، وأجَّلَهم ثلاثينَ يومًا أنْ يَرجِعَ إليهم فيها، فلمَّا أتى ربَّه وأراد أنْ يُكلِّمَه ثلاثينَ يومًا، وقد صامهنَّ: ليلَهنَّ ونهارَهنَّ، وكرِهَ أنْ يُكلِّمَ ربَّه عَزَّ وجَلَّ ورِيحُ فَمِه رِيحُ فَمِ الصَّائمِ، فتناوَلَ مُوسى عليه السَّلامُ مِن نباتِ الأرضِ شيئًا فمضَغَه، فقال له ربُّه عَزَّ وجَلَّ حين لقاه: لِمَ أفطرْتَ؟ -وهو أعلَمُ بالَّذي كان- قال: يا ربِّ، إنِّي كرِهْتُ أنْ أُكلِّمَك إلَّا وفَمِي طيِّبُ الرِّيحِ، قال: أوما علِمْتَ يا مُوسى أنْ رِيحَ فَمِ الصَّائمِ أطيبُ عندي مِن رِيحِ المِسْكِ؟ ارجِعْ حتَّى تصومَ عشْرًا ثمَّ ائْتِني، ففعَلَ مُوسى عليه السَّلامُ ما أُمِرَ به.

 فلمَّا رأى قومُ مُوسى عليه السَّلامُ أنَّه لم يرجِعْ إليهم للأجَلِ ساءَهم ذلك، وكان هارونُ عليه السَّلامُ قد خطَبَهم، فقال لهم: خرجْتُم مِن مِصْرَ ولقومِ فرعونَ عندي عواري وودائعُ، ولكم فيهم مثلُ ذلك، وأنا أرى أنْ تحتَسِبوا ما لكم عندهم، ولا أحلَّ لكم وديعةً اسْتُودِعْتُمُوها، ولا عاريَّةً، ولسنا برادِّين إليهم شيئًا مِن ذلك، ولا مُمْسِكيه لأنفُسِنا، فحفَرَ حفيرًا، وأمَرَ كلَّ قومٍ عليهم شَيءٌ مِن ذلك؛ مِن متاعٍ أو حِليةٍ أنْ يَقْذِفوه في ذلك الحفيرِ، ثمَّ أوقَدَ عليه النَّارَ، فأحرَقَه، فقال: لا يكونُ لنا، ولا لهم.

وكان السَّامريُّ رجلًا مِن قومٍ يَعْبُدون البقرَ جيرانٍ لهم، ولم يكُنْ مِن بني إسرائيلَ، فاحتملَ مع مُوسى عليه السَّلامُ وبني إسرائيلَ حين احْتملوا، فقُضِيَ له أنْ رأى أثرًا، فأخَذَ منه بقبْضَتِه، فمَرَّ بهارونَ، فقال له هارونُ عليه السَّلامُ: يا سامريُّ، ألَا تُلْقي ما في يدَيْك؟ وهو قابضٌ عليه لا يَراه أحدٌ طوالَ ذلك، فقال: هذه قبْضةٌ مِن أثرِ الرَّسولِ الَّذي جاوَزَ بكم البحرَ، ولا أُلْقيها لشَيءٍ إلَّا أنْ تَدْعُوَ اللهَ إذا ألقيْتُها أنْ تكونَ ما أُرِيدُ، فألْقاها، ودعا اللهَ هارونُ عليه السَّلامُ، فقال: أريدُ أنْ يكونَ عِجْلًا، واجتمَعَ ما كان في الحُفرةِ مِن متاعٍ له، أو حِلْيةٍ، أو نحاسٍ، أو حديدٍ، فصار عِجْلًا أجوفَ ليس فيه رُوحٌ، له خُوارٌ. قال ابنُ عبَّاسٍ: لا واللهِ ما كان له صوتٌ قطُّ، إنَّما كانت الرِّيحُ تدخُلُ مِن دُبُرِه وتخرُجُ مِن فَمِه، فكان ذلك الصَّوتُ مِن ذلك.

فتفرَّقَ بنو إسرائيلَ فِرَقًا؛ فقالت فِرقةٌ: يا سامريُّ، ما هذا فأنت أعلَمُ به؟ قال: هذا ربُّكم عَزَّ وجَلَّ، ولكنَّ مُوسى عليه السَّلامُ أضَلَّ الطَّريقَ. وقالت فِرقةٌ: لا نُكذِّب بهذا حتَّى يرجِعَ إلينا مُوسى، فإنْ كان ربَّنا لم نكُنْ ضيَّعْناه وعجَزْنا فيه حِينَ رأيْناه، وإنْ لم يكُنْ ربَّنا، فإنَّا نتَّبِعُ قولَ مُوسى عليه السَّلامُ. وقالت فِرقةٌ: هذا عمَلُ الشَّيطانِ، وليس بربِّنا، ولا نُؤْمِنُ، ولا نُصدِّقُ. وأُشْرِبَ فِرقةٌ في قُلوبِهم التَّصديقَ بما قال السَّامريُّ في العجلِ، وأعْلَنوا التَّكذيبَ، فقال لهم هارونُ عليه السَّلامُ: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} [طه: 90]، وإنَّ ربَّكم ليس هكذا، قالوا: فما بالُ مُوسى عليه السَّلامُ؛ وعَدَنا ثلاثينَ يومًا ثمَّ أخلَفَنا، فهذه أربعونَ قد مَضَت؟! فقال سُفهاؤُهم: أخطَأَ ربَّه، فهو يطلُبُه ويتبَعُه.

 فلمَّا كلَّمَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ مُوسى عليه السَّلامُ وقال له ما قال، أخبَرَه بما لقِيَ قومُه بعده. {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه: 86]، وقال لهم ما سمِعْتُم في القُرآنِ وأخَذَ برأْسِ أخِيه، وألْقى الألواحَ مِن الغضَبِ، ثمَّ عذَرَ أخاه بعُذْرِه، واستغفَرَ له، وانصرَفَ إلى السَّامريِّ، فقال له: ما حمَلَك على ما صنعْتَ؟ قال: قبَضْتُ قبضةً مِن أثرِ الرَّسولِ وفطِنْتُ لها، وعُمِّيَت عليكم، فقَذفْتُها؛ وكذلك سوَّلَت لي نَفْسي. قال: {اذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} إلى قولِه: {نَسْفًا} [طه: 97]، ولو كان إلهًا لم يُخْلَصْ إلى ذلك منه. فاستيقَنَ بنو إسرائيلَ بالفتنةِ، واغْتَبَطَ الَّذين كان رأيُهم فيه مثلَ رأيِ هارونَ عليه السَّلامُ، فقالوا بجماعتِهم لمُوسى عليه السَّلامُ: سَلْ لنا ربَّك عَزَّ وجَلَّ أنْ يفتَحَ لنا بابَ توبةٍ نصنَعُها؛ فيُكَفِّرَ عنَّا ما عمِلْنا، فاختارَ موسى عليه السَّلامُ قومَه سبعينَ رجُلًا لذلك -لا يأْلُو الخيرَ- خيارَ بني إسرائيلَ، ومَن لم يُشْرِكْ في العجلِ.

فانطلَقَ بهم ليسأَلَ لهم التَّوبةَ، فرجَفَتْ بهم الأرضُ، فاستحيا نبيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من قومِه ووفْدِه حين فُعِلَ بهم ما فُعِلَ، فقال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]، وفيهم مَن قد كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ اطَّلَعَ على ما أُشْرِبَ قلبُه من حُبِّ العجلِ وإيمانِه به؛ فلذلك رجَفَت بهم الأرضُ. فقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] إلى: {فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]، فقال: رَبِّ سألْتُك التَّوبةَ لقومي، فقلْتَ: إنَّ رحمتي كتبْتُها لقومٍ غيرِ قومي، فليتَكَ أخَّرْتَني حين تُخْرِجُني حيًّا في أُمَّةِ ذلك الرَّجلِ المرحومةِ، فقال اللهُ له: إنَّ توبتَهم أنْ يقتُلَ كلُّ رجُلٍ منهم مَن لقِيَ مِن والدٍ أو ولدٍ، فيقتُلَه بالسَّيفِ لا يُبَالي مَن قتَلَ في ذلك الموطنِ، وتاب أولئك الَّذين كان خفِيَ على موسى وهارونَ عليهما السلام ما اطَّلَعُ اللهُ عليهم من ذُنوبِهم، فاعتَرَفوا بها، وفعَلوا ما أُمِروا، وغفَرَ اللهُ للقاتِلِ والمقتولِ.

ثمَّ سار بهم مُوسى عليه السَّلامُ مُتوجِّهًا نحوَ الأرضِ المُقدَّسةِ، وأخَذَ الألواحَ بعدما سكَتَ عنه الغضبُ، وأمَرَهم بالَّذي أُمِرَ به أنْ يُبَلِّغَهم من الوظائفِ، فثقُلَ ذلك عليهم، وأبَوا أنْ يُقِرُّوا بها، فنتَقَ اللهُ عليهم الجبلَ كأنَّه ظُلَّةٌ، ودنا منهم حتَّى خافوا أنْ يقَعَ عليهم، فأخَذُوا الكتابَ بأيمانِهم وهم يَصْغُون ينظُرونَ إلى الجبلِ والأرضِ، والكتابُ بأيديهم وهم يَنظُرونَ إلى الجبلِ؛ مخافةَ أنْ يقَعَ عليهم، ثمَّ مَضَوا إلى الأرضِ المُقدَّسةِ، فوَجَدوا مدينةَ قومٍ جبَّارينَ خَلْقُهم مُنْكرٌ، وذكَرَ من ثِمارِهم أمرًا عجَبًا من عِظَمِها، فقالوا: يا موسى، إنَّ فيها قومًا جبَّارينَ لا طاقةَ لنا بهم، ولا ندخُلُها ما داموا فيها، فإنْ يَخْرجوا منها فإنَّا داخِلونَ، قال رجُلانِ من الَّذين يَخافونَ مِن الجبَّارينَ: آمنَّا بمُوسى عليه السَّلامُ، فخرَجَا إليه، فقالا: نحنُ أعلَمُ بقومِنا، إنْ كنتُمْ إنَّما تَخافونَ ما رأيتُمْ من أجسامِهم وعدَدِهم، فإنَّهم لا قُلوبَ لهم، ولا مَنعةَ عندهم، فادْخُلوا عليهم البابَ، فإذا دخلْتُموه فإنَّكم غالِبونَ. ويقولُ أناسٌ: إنَّهما من قومِ مُوسى عليه السَّلامُ. وزعَمَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ أنَّهما من الجبَّارينَ آمَنَا بمُوسى، بقولِه: {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [المائدة: 23]: إنَّما عَنى بذلك: مِن الَّذين يَخافونَ بني إسرائيلَ. {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، فأغْضَبوا مُوسَى عليه السَّلامُ، فدعا عليهم، وسمَّاهم فاسقينَ، ولم يدْعُ عليهم قبلَ ذلك؛ لِمَا رأى منهم من المعصيةِ وإساءتِهم حتَّى كان يومئذٍ، فاستجابَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ له، فسمَّاهم كما سمَّاهم مُوسى عليه السَّلامُ فاسقينَ، فحرَّمَها عليهم أربعينَ سَنةً يَتِيهون في الأرضِ؛ يُصْبِحون كلَّ يومٍ، فيَسِيرونَ ليس لهم قرارٌ، ثمَّ ظلَّلَ عليهم الغمامَ في التِّيهِ، وأنزَلَ عليهم المَنَّ والسَّلوى، وجعَلَ لهم ثيابًا لا تَبْلى، ولا تتَّسِخُ، وجعَلَ بين ظَهرِهم حَجرًا مُربَّعًا، وأمَرَ مُوسى عليه السَّلامُ فضرَبَه بعصاهُ، فانفجَرَ منه اثنتا عشْرةَ عينًا، في كلِّ ناحيةٍ ثلاثةُ أعينٍ، وأعلَمَ كلَّ سِبْطٍ عينَهم الَّتي يَشْربون منها، فلا يَرْتحِلونَ من مَنزلٍ إلَّا وجدوا ذلك الحجرَ منهم بالمكانِ الَّذي كان منه أمسِ".

52.                    مفتاح دار السعادة (1 /301- 304) مختصرًا.

53.                    سيرة ابن هشام، (1/416) وتاريخ الطبري، (2/343)

54.                    يعني نفسه، ولكن لورع الراوي وإجلالًا للكعبة أن يذكر ما يوهم السوء على نفسه حيالها لم يذكرها كما قالها، بل قال "هو" بدلًا من "أنا"، ومثل هذا رواية وفاة أبي طالب حينما روى الراوي قوله: "أنا" إلى "هو على ملة عبد المطلب". رواه البخاري (2/119). وهذا دارج سائغ جميل.

55.                    وكذلك رواه الطبراني ورجاله ثقات، غير ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. وابن إسحاق إمام في المغازي ضعيف في الحديث، فإن أخذت الخبر كسائر أخبار السيرة المرسلة فهو كما ترى، أما إن أعملت الصنعة الحديثية ففي صحته كلام. والحديث قد روي مرسلًا عن محمد بن كعب القرظي، وعن الزهري. وضعفه الألباني في فقه السيرة (1 / 125) وانظر: السيرة النبوية (2/71)، مجمع الزوائد (6/35)، تاريخ الطبري (1/345). وكان ابن تيمية وابن القيم يذكرانه من ضمن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، وهو دعاء عظيم المعاني جليل الفوائد عليه أنوار النبوة. وانظر: العبودية (1 / 86) ومجموع الفتاوى (6 / 387) وزاد المعاد في هدي خير العباد (3 / 31)

56.                    تهذيب سيرة ابن هشام (1 /123 - 124)

57.                    العبودية، ابن تيمية (1 / 87)

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق