إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

شروطُ الرِّضا بالله تعالى

 

شروطُ الرِّضا بالله تعالى

 

الحمد لله، وبعد؛ فلا يكون الرضا مشكورًا إلا بعد استيفاء شروطه، فليست الأماني والدعاوى كافية في تحصيله، بل لا بد من مكابدته واحتماله حتى يكون رضًا صادقًا.

والشرط العام بإطلاق للعبادات هو الإخلاص، لأنه داخل في كل عبادة قلبيّة كانت أو جارحيّة أو ماليّة، فقل لمن لا يخلص: لا تتعب. أما الشرط العام للرضا فهو أن يكون القلب ساكنًا مطمئنًّا لتدبير الله له، وكل الشروط منبثقة منه عائدة إليه.

وقد اجتهد بعض أهل العلم في تحديد الشروط بعد تأملهم هذه العبادة القلبية الجليلة، وقد قصدوا بالشروط: أن الرضا لا يكون رضًا في الحقيقة إلا إذا استوفاها، فعادت الشروط لتصوّرهم حقيقة الرضا وهو في حقيقته الحدّ والتعريف، بمعنى أن من قام في قلبه الرضا فهو راضٍ، وعلى قدر تحصيله يكون وجوده ومن ثمّ ثمرته وثوابه. قال ابن القيم رحمه الله في شرحه لكلام الهروي رحمه الله في شروط الرضا وقوله: "ويصح بثلاثة شرائط: باستواء الحالات عند العبد، وسقوط الخصومة مع الخلق، والخلاص من المسألة والإلحاح". قال: "يعني أن الرضا عن الله إنما يتحقق بهذه الأمور الثلاثة، فإن الراضي الموافق تستوي عنده الحالات من النعمة والبليّة في رضاه بحسن اختيار الله له، وليس المراد استواؤها عنده في ملاءمته ومنافرته، فإن هذا خلاف الطبع البشري، بل خلاف الطبع الحيواني. (1) وليس المراد أيضًا استواء الحالات عنده في الطاعة والمعصية، فإن هذا مناف للعبودية من كل وجه، وإنما تستوي النعمة والبليّة عنده في الرضا بهما لوجوه:

 أحدها: أنه مُفوِّض، والمفوض راض بكل ما اختاره له من فوّض إليه، ولا سيما إذا علم كمال حكمته ورحمته ولطفه وحسن اختياره له.

 الثاني: أنه جازم بأنه لا تبديل لكلمات الله، ولا راد لحكمه، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فهو يعلم أن كلًّا من البلية والنعمة بقضاء سابق وقدر حتم.

 الثالث: أنه عبد محض، والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن، بل يتلقاها كلها بالرضا به وعنه.

 الرابع: أنه محب، والمحب الصادق هو من رضي بما يعامله به حبيبه.

 الخامس: أنه جاهل بعواقب الأمور وسيّدُه أعلم بمصلحته وبما ينفعه.

 السادس: أنه لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه، ولو عرف أسبابها فهو جاهل ظالم، وربه تعالى يريد مصلحته ويسوق إليه أسبابها، ومن أعظم أسبابها: ما يكرهه العبد، فإن مصلحته فيما يكره أضعافُ أضعافِ مصلحته فيما يحب، قال الله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة : 216 وقال تعالى: (وإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيراكثيرا).

 السابع: أنه مسلم، والمسلم من قد سلم نفسه لله، ولم يعترض عليه في جريان أحكامه عليه، ولم يسخط ذلك.

الثامن: أنه عارفٌ بربه، حَسَنُ الظن به، لا يتّهمه فيما يجريه عليه من أقضيته وأقداره. فحُسن ظنه به يوجب له استواء الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له سيده سبحانه.

التاسع: أنه يعلم أن حظه من المقدور ما يتلقاه به من رضا وسخط فلا بد له منه، فإن رضي فله الرضا وإن سخط فله السخط.

 العاشر: علمه بأنه إذا رضي انقلب في حقه نعمة ومنحة، وخف عليه حمله، وأعين عليه، وإذا سخطه تضاعف عليه ثقله وكَلُّه، ولم يزدد إلا شدة، فلو أن السخط يجدي عليه شيئًا لكان له فيه راحة أنفع له من الرضا به.

 ونكتة المسألة: إيمانه بأن قضاء الرب تعالى خير له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن". (2)

 الحادي عشر: أن يعلم أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه، ولو لم يجر عليه منها إلا ما يحب لكان أبعد شيء عن عبودية ربه، فلا تتم له عبوديته من الصبر والتوكل والرضا والتضرع والافتقار والذل والخضوع وغيرها إلا بجريان القدر له بما يكرهه. وليس الشأن في الرضا بالقضاء الملائم للطبيعة، إنما الشأن في القضاء المؤلم المنافر للطبع.

 الثاني عشر: أن يعلم أن رضاه عن ربه سبحانه وتعالى في جميع الحالات يثمر رضا ربه عنه، فإذا رضي عنه بالقليل من الرزق رضي ربه عنه بالقليل من العمل، وإذا رضي عنه في جميع الحالات واستوت عنده وجده أسرع شيء إلى رضاه إذا ترضّاه وتملّقه.

 الثالث عشر: أن يعلم أن أعظم راحته وسروره ونعيمه في الرضا عن ربه تعالى وتقدس في جميع الحالات، فإن الرضا باب الله الأعظم ومستراح العارفين وجنة الدنيا، فجدير بمن نصح نفسه أن تشتد رغبته فيه، وألا يستبدل بغيره منه.

 الرابع عشر: أن السخط باب الهم والغم والحزن وشتات القلب وكسف البال وسوء الحال والظن بالله خلاف ما هو أهله، والرضا يخلّصه من ذلك كله، ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.

 الخامس عشر: أن الرضا يوجب له الطمأنينة وبرْد القلب وسكونه وقراره، والسخط يوجب اضطراب قلبه وريبته وانزعاجه وعدم قراره.

 السادس عشر: أن الرضا ينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها، ومتى نزلت عليه السكينة استقام وصلحت أحواله وصلح باله، والسخط يبعده منها بحسب قلّته وكثرته. وإذا ترحّلت عنه السكينة ترحّل عنه السرور والأمن والدعة والراحة وطيب العيش. فمِن أعظم نعم الله على عبده تنزُّل السكينة عليه، ومن أعظم أسبابها الرضا عنه في جميع الحالات.

 السابع عشر: أن الرضا يفتح له باب السلامة، فيجعل قلبه سليمًا نقيًّا من الغش والدغل والغل، (3) ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم. كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا، وكلما كان العبد أشدّ رضًا كان قلبه أسلم، فالخبَث والدغل والغش قرين السخط، وسلامة القلب وبِرِّه ونصحه قرين الرضا. وكذلك الحسد هو من ثمرات السخط، وسلامة القلب منه من ثمرات الرضا.

الثامن عشر: أن السخط يوجب تلوّن العبد وعدم ثباته مع الله، فإنه لا يرضى إلا بما يلائم طبعه ونفسه، والمقادير تجري دائمًا بما يلائمه وبما لا يلائمه، وكلّما جرى عليه منها ما لا يلائمه أسخطه، فلا تثبت له قدم على العبودية، فإذا رضي عن ربه في جميع الحالات استقرّت قدمه في مقام العبودية، فلا يُزيل التلوّن عن العبد شيء مثل الرضا.

التاسع عشر: أن السخط يفتح عليه باب الشك في الله وقضائه وقدره وحكمته وعلمه، فقلَّ أن يسلمَ الساخطُ من شكّ يداخل قلبه ويتغلغل فيه وإن كان لا يشعر به، فلو فتّش نفسه غاية التفتيش لوجد يقينه معلولًا مدخولًا، فإن الرضا واليقين أخَوان مصطحبان، والشك والسخط قرينان، وهذا معنى الحديث الذي في الترمذي أو غيره: "إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا". (4)

العشرون: أن الرضا بالمقدور من سعادة ابن آدم، وسخطه من شقاوته، كما في المسند والترمذي من حديث سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِن سعادة ابن آدم استخارة الله عز وجل، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله". (5)

الحادي والعشرون: أن الرضا يوجب له ألا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه، وذلك من أفضل الإيمان، أما عدم أساه على الفائت فظاهر، وأما عدم فرحه بما آتاه فلأنه يعلم أن المصيبة فيه مكتوبة من قبل حصوله، فكيف يفرح بشيء يعلم أن له فيه مصيبة منتظرة ولا بد.  (6)

الثاني والعشرون: أن من ملأ قلبه من الرضا بالقدر؛ ملأ الله صدره غنًى وأمنًا وقناعة، وفرّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظّه من الرضا؛ امتلأ قلبه بضد ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه. فالرضا يفرّغ القلب لله، والسخط يفرغ القلب من الله.

 الثالث والعشرون: أن الرضا يثمر الشكر الذي هو من أعلى مقامات الإيمان، بل هو حقيقة الإيمان، والسخط يثمر ضده وهو كفر النعم، وربما أثمر له كفر المُنعِم، فإذا رضي العبد عن ربه في جميع الحالات أوجب له ذلك شكره، فيكون من الراضين الشاكرين، وإذا فاته الرضا كان من الساخطين، وسلك سبيل الكافرين.

 الرابع والعشرون: أن الرضا ينفي عنه آفات الحرص والكَلَبَ (7) على الدنيا، وذلك رأس كل خطيئة وأصل كل بلية وأساس كل رزية، فرضاه عن ربه في جميع الحالات ينفي عنه مادة هذه الآفات.

 الخامس والعشرون: أن الشيطان إنما يظفر بالإنسان غالبًا عند السخط والشهوة، فهناك يصطاده، ولا سيّما إذا استحكم سخطه فإنه يقول ما لا يرضي الرب ويفعل ما لا يرضيه وينوي ما لا يرضيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم: "إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون". (8)  فإن موت البنين من العوارض التي توجب للعبد السخط على القدر، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقول في مثل هذا المقام الذي يسخطه أكثر الناس، فيتكلمون بما لا يرضي الله ويفعلون مالا يرضيه إلا ما يرضي ربه تبارك وتعالى، ولهذا لما مات ابن الفضيل بن عياض رؤي في الجنازة ضاحكًا فقيل له: أتضحك وقد مات ابنك؟ فقال: إن الله قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه. فأنكرتْ طائفة هذه المقالة على الفضيل وقالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى يوم مات ابنه، وأخبر أن القلب يحزن والعين تدمع وهو في أعلى مقامات الرضا، فكيف يعدّ هذا من مناقب الفضيل؟

 والتحقيق: أن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتسع لتكميل جميع المراتب من الرضا عن الله والبكاء رحمة للصبي، فكان له مقام الرضا ومقام الرحمة ورقّة القلب، والفضيل لم يتسع قلبه لمقام الرضا ومقام الرحمة، فلم يجتمع له الأمران، والناس في ذلك على أربع مراتب:

 أحدها: من اجتمع له الرضا بالقضاء ورحمة الطفل، فدمعت عيناه رحمة والقلب راض.

 الثاني: من غيّبه الرضا عن الرحمة، فلم يتّسع للأمرين بل غيّبه أحدهما عن الآخر.

 الثالث: من غيّبته الرحمة والرقّة عن الرضا فلم يشهده، بل فني عن الرضا. (9)

 الرابع: من لا رضا عنده ولا رحمة، وإنما يكون حزنه لفوات حظّه من الميت، وهذا حال أكثر الخلق! فلا إحسان ولا رضًا عن الرحمن، والله المستعان.

 فالأول في أعلى مراتب الرضا، والثاني دونه، والثالث دون الثاني، والرابع هو الساخط. (10)

 السادس والعشرون: أن الرضا هو اختيار ما اختاره الله لعبده، والسخط كراهة ما اختاره الله له، وهذا نوع محادّة فلا يتخلص منه إلا بالرضا عن الله في جميع الحالات.

السابع والعشرون: أن الرضا يُخرج الهوى من القلب، فالراضي هواه تبع لمراد ربه منه، أعني المراد الذي يحبه ربه ويرضاه، فلا يجتمع الرضا واتّباع الهوى في القلب أبدًا، وإن كان معه شعبة من هذا وشعبة من هذا فهو للغالب عليه منهما.

 الثامن والعشرون: أن الرضا عن الله في جميع الحالات يثمر للعبد رضا الله عنه كما تقدم بيانه في الرضا به، فإن الجزاء من جنس العمل وفي أثر إسرائيلي: أن موسى سأل ربه عز وجل: ما يدني من رضاه؟ فقال: "إن رضايَ في رضاك بقضائي". (11)

التاسع والعشرون: أن الرضا بالقضاء أشقّ شيء على النفس، بل هو ذبحها في الحقيقة، فإنه مخالفةُ هواها وطبعها وإرادتها، ولا تصير مطمئنة قط حتى ترضى بالقضاء، فحينئذ تستحق أن يقال لها: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).

الثلاثون: أنّ الراضي متلقٍّ أوامر ربه الدينية والقدرية بالانشراح والتسليم وطيب النفس والاستسلام، والساخط يتلقّاها بضد ذلك إلا ما وافق طبعه وإرادته منها، وقد بينّا أن الرضا بذلك لا ينفعه ولا يثاب عليه؛ فإنه لم يرض به لكون الله قدّره وقضاه وأمر به، وإنما رضي به لموافقته هواه وطبعه، فهو إنّما رضي لنفسه وعن نفسه لا بربه عن ربه.

 الحادي والثلاثون: أن المخالفات كلها أصلها من عدم الرضا، والطاعات كلها أصلها من الرضا، وهذا إنما يعرفه حق المعرفة من عرف صفات نفسه وما يتولد عنها من الطاعات والمعاصي.

 الثاني والثلاثون: أن عدم الرضا يفتح باب البدعة، والرضا يغلق عنه ذلك الباب، ولو تأمّلتَ بدع الروافض والنواصب والخوارج لرأيتها ناشئة من عدم الرضا بالحكم الكوني أو الديني أو كليهما.

 الثالث والثلاثون: أن الرضا معْقِدُ نظام الدين ظاهره وباطنه، فإن القضايا لا تخلو من خمسة أنواع: فتنقسم قسمين: دينية وكونية، وهي مأمورات ومنهيات ومباحات، ونعم ملذة وبلايا مؤلمة، فإذا استعمل العبد الرضا في ذلك كله فقد أخذ بالحظ الوافر من الإسلام، وفاز بالقدح المُعَلَّى.

 الرابع والثلاثون: أن الرضا يُخلّص العبد من مخاصمة الرب تعالى في أحكامه وأقضيته، فإن السخط عليه مخاصمة له فيما لم يرض به العبد. وأصل مخاصمة إبليس لربه من عدم رضاه بأقضيته وأحكامه الدينية والكونية، فلو رضي لم يُمسخ من الحقيقة الملَكيّة إلى الحقيقة الشيطانية الإبليسية. (12)

الخامس والثلاثون: أن جميع ما في الكون أوجبته مشيئة الله وحكمته وملكه، فهو موجب أسمائه وصفاته، فمن لم يرض بما رضي به ربه لم يرض بأسمائه وصفاته فلم يرض به ربًّا.

 السادس والثلاثون: أن كل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه لا يخلو: إما أن يكون عقوبة على الذنب، فهو دواء لمرض لولا تدارك الحكيم إيّاه بالدواء لترامي به المرض إلى الهلاك، أو يكون سببًا لنعمة لا تُنال إلا بذلك المكروه، فالمكروه ينقطع ويتلاشى، وما يترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع، فإذا شهد العبد هذين الأمرين انفتح له باب الرضا عن ربه في كل ما يقضيه له ويقدّره.

 السابع والثلاثون: أن حُكْمَ الرب تعالى ماضٍ في عبده وقضاؤه عدل فيه، كما في الحديث: "ماضٍ فيّ حُكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك". (13)

ومن لم يرض بالعدل فهو من أهل الظلم والجور، وقوله: "عدل في قضاؤك" يعم قضاء الذنب وقضاء أثره وعقوبته، فإن الأمرين من قضائه عز وجل، وهو أعدل العادلين في قضائه بالذنب وفي قضائه بعقوبته.

 أما عدله في العقوبة فظاهر، وأما عدله في قضائه بالذنب فلأن الذنب عقوبة على غفلته عن ربه وإعراض قلبه عنه، فإنه إذا غفل قلبه عن ربه ووليّه ونقص إخلاصه استحق أن يُضرب بهذه العقوبة، لأن قلوب الغافلين معدن الذنوب، والعقوبات واردة عليها من كل جهة، وإلا فمع كمال الإخلاص والذكر والإقبال على الله سبحانه وتعالى وذكره يستحيل صدور الذنب كما قال تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين).

 فإن قلت: قضاؤه على عبده بإعراضه عنه ونسيانه إياه وعدم إخلاصه عقوبة على ماذا؟

 قلت: هذا طبع النفس وشأنها، فهو سبحانه إذا لم يُرد الخير بعبده خلّى بينه وبين نفسه وطبعه وهواه، وذلك يقتضي أثرها من الغفلة والنسيان وعدم الإخلاص واتّباع الهوى، (14) وهذه الأسباب تقتضي آثارها من الآلام وفوات الخيرات واللذات كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها وآثارها.

 فإن قلت: فهلّا خلقه على غير تلك الصفة؟

قلت: هذا سؤال فاسد، ومضمونه: هلّا خلقه مَلَكًا لا إنسانًا؟

 فإن قلت: فهلّا أعطاه التوفيق الذي يتخلّص به من شرّ نفسه وظلمةِ طبعه؟

قلت: مضمون هذا السؤال: هلّا سوّى بين جميع خلقه؟ ولِمَ خلق المتضادات والمختلفات؟ وهذا من أفسد الأسئلة، وقد تقدم بيان اقتضاء حكمته وربوبيته وملكه لخلق ذلك.

 الثامن والثلاثون: أن عدم الرضا إما أن يكون لفوات ما أخطأه مما يحبه ويريده، وإما لإصابة ما يكرهه ويسخطه، فإذا تيقّن أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه فلا فائدة في سخطه بعد ذلك إلا فوات ما ينفعه وحصول ما يضره.

 التاسع والثلاثون: أن الرضا من أعمال القلوب نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر".

 الأربعون: أن أول معصية عُصي الله بها في هذا العالم إنما نشأت من عدم الرضا، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونًا من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم، وآدم لم يرض بما أبيح له من الجنة حتى ضمّ إليه الأكل من شجرة الحِمَى، ثم ترتبت معاصي الذرية على عدم الصبر وعدم الرضا.

 الحادي والأربعون: أن الراضي واقف مع اختيار الله له، معرِضٌ عن اختياره لنفسه، وهذا من قوة معرفته بربه تعالى ومعرفته بنفسه.

 وقد اجتمع وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط فقال الثوري: قد كنت أكره موت الفجاءة قبل اليوم، وأما اليوم فوددت أني ميت! فقال له يوسف بن أسباط: ولم؟ فقال: لِمَا أتخوّف من الفتنة. (15)

فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء، فقال الثوري: ولم تكره الموت؟ قال: لعلّي أصادف يومًا أتوب فيه وأعمل صالحًا. فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت؟ فقال: أنا لا أختار شيئًا، أَحَبُّ ذلك إليّ أحبّه إلى الله. فقبّل الثوري بين عينيه وقال: روحانية ورب الكعبة! (16) فهذا حال عبد قد استوت عنده حالة الحياة والموت، وقف مع اختيار الله له منهما، وقد كان وهيب رحمه الله له المقام العالي من الرضا وغيره.(17)

 الثاني والأربعون: أن يعلم أن منع الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن المحب عطاء وابتلاءه إياه عافية. قال سفيان الثوري((الأشهر أنها لشيبان الراعي، وهو عابد معاصر لسفيان، وقد روي أنه قد وجه هذا الكلام لسفيان، رحمهما الله، فربّما نقله عنه سفيان فنُسبت له لشهرته.)))): "منعه عطاء، وذلك أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم، وإنما نظر في خير عبده المؤمن فمنعه اختيارًا وحسن نظر". وهذا كما قال، فإنه سبحانه لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، ساءه ذلك القضاء أو سرّه، فقضاؤه لعبده المؤمن المنعَ عطاءٌ وإن كان في صورة المنعِ، ونعمة وإن كانت في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بليّة، ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعدُّ العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذّ به في العاجل وكان ملائمًا لطبعه، ولو رزق من المعرفة حظًّا وافرًا لعدّ المنعَ نعمةً والبلاءَ رحمةً، وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية، وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى، وكان في حال القلّة أعظم شكرًا من حال الكثرة، وهذه كانت حال السلف.

 فالعاقل الراضي من يعدّ البلاء عافية والمنع نعمة والفقر غنى. وأوحى الله إلى بعض أنبيائه: "إذا رأيتَ الفقر مقبلًا فقل: مرحبًا بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى مقبلًا فقل: ذنبٌ عجّلت عقوبته". (18)

 فالراضي: هو الذي يعدّ نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه، كما قال بعض العارفين: "يا ابن آدم؛ نعمة الله عليك فيما تكره أعظم من نعمته عليك فيما تحب". وقد قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاوهو خير لكم)، وقد قال بعض العارفين: "ارض عن الله في جميع ما يفعله بك، فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك، فإيّاك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين فتسقط من عينه".

 الثالث والأربعون: أن يعلم أنه سبحانه هو الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والمظهر لكل شيء، والمالك لكل شيء، وهو الذي يخلق ما يشاء ويختار، وليس للعبد أن يختار عليه، وليس لأحد معه اختيار، ولا يُشرك في حكمه أحدًا، والعبد لم يكن شيئًا مذكورًا، فهو سبحانه الذي اختار وجودَه، واختار أن يكون كما قدّرَه له وقضاه من عافية وبلاء وغنى وفقر وعز وذل ونباهة وخمول، فكما تفرّد سبحانه بالخلق تفرد بالاختيار والتدبير، وليس للعبد شيء من ذلك، فإن الأمر كله لله، وقد قال تعالى لنبيه: (ليس لك من الأمر شيء) فإذا تيقّن العبد أن الأمر كله لله، وليس له من الأمر قليل ولا كثير؛ لم يكن له معوَّلٌ بعد ذلك غير الرضا بمواقع الأقدار، وما يَجري به من ربه الاختيار.

 الرابع والأربعون: أن رضا الله عن العبد أكبر من الجنة وما فيها، لأن الرضا صفة الله والجنة خلقه، قال الله تعالى: (ورضوان من الله أكبر) بعد قوله : (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) التوبة : 72 وهذا الرضا جزاء على رضاهم عنه في الدنيا، ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء كان سببه أفضل الأعمال.

 الخامس والأربعون: أن العبد إذا رضي به وعنه في جميع الحالات لم يتخيّر عليه المسائل، وأغناه رضاه بما يقسمه له ويقدره ويفعله به عن ذلك، وجعل ذكره في محل سؤاله، بل يكون من سؤاله له الإعانة على ذكره وبلوغ رضاه، فهذا يُعطَى أفضل ما يعطاه سائل، كما جاء في الحديث: "من شغله ذكرى عن مسألتي؛ أعطيتُه أفضلَ ما أعطي السائلين".(19) فإن السائلين سألوه فأعطاهم الفضل الذي سألوه، والراضون رضوا عنه فأعطاهم رضاه عنهم. ولا يمنع الرضا سؤاله أسباب الرضا، بل أصحابه ملحّون في سؤاله ذلك.

السادس والأربعون: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يندب إلى أعلى المقامات، فإن عجز العبد عنه حطّه إلى المقام الوسط، كما قال: "اعبد الله كأنك تراه".  (20) فهذا مقام المراقبة الجامع لمقامات الإسلام والإيمان والإحسان، ثم قال: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، فحطّه عند العجز عن المقام عن المقام الأول إلى المقام الثاني وهو العلم باطلاع الله عليه ورؤيته له ومشاهدته لعبده في الملأ والخلاء، وكذا الحديث الآخر: "إن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا". (21) فرفعه إلى أعلى المقامات، ثم ردّه إلى أوسطها إن لم يستطع الأعلى، فالأول: مقام الإحسان، والذي حطّه إليه: مقام الإيمان، وليس دون ذلك إلا مقام الخسران.

 السابع والأربعون: أنه أثنى على الراضين بمُرّ القضاء بالحكم والعلم والفقه والقرب من درجة النبوّة. (22)

 الثامن والأربعون: أن الرضا آخذ بزمام مقامات الدين كلّها، وهو روحها وحياتها، فإنه روح التوكل وحقيقته، وروح اليقين، وروح المحبة، وصحّة المحب، ودليل صدق المحبة، وروح الشكر ودليله، قال الربيع بن أنس: "علامة حب الله كثرة ذكره، فإنك لا تحب شيئًا إلا أكثرت من ذكره، وعلامة الدين الإخلاص لله في السر والعلانية، وعلامة الشكر الرضا بقدر الله والتسليم لقضائه". وقال أحمد بن أبي الحواري: "ذاكرتُ أبا سليمان في الخبر المروي: "أوّل من يُدعى إلى الجنة الحمّادون". (23) فقال: ويحك! ليس هو أن تحمده على المصيبة وقلبك يتعصّى عليك، إذا كنت كذلك فارجع إلى الصابرين، إنما الحمد أن تحمده وقلبك مسلّمٌ راضٍ. (24) فصار الرضا كالرُّوح لهذه المقامات والأساس الذي تنبني عليه، ولا يصح شيء منها بدونه البتة، والله أعلم.

 التاسع والأربعون: أن الرضا يقوم مقام كثير من التعبّدات التي تشقّ على البدن، فيكون رضاه أسهل عليه وألذّ له وأرفع في درجته، وقد ذُكر في أثر إسرائيلي: "إن عابدًا عبد الله دهرًا طويلًا فأُري في المنام: أن فلانة الراعية رفيقتك في الجنة. فسأل عنها إلى أن وجدها، فاستضافها ثلاثًا لينظر إلى عملها،(25) فكان يبيت قائمًا وتبيت نائمة، ويظلّ صائمًا وتظلّ مفطرة، فقال لها: أما لك عمل غير ما رأيت؟ قالت: ما هو والله إلّا ما رأيت، لا أعرفُ غيره. فلم يزل يقول لها: تذكّري، حتى قالت: خُصيلةٌ واحدة هي فيّ، وذلك: أني إن كنت في شدّة لم أتمنّ أني في رخاء، وإن كنتُ في مرض لم أتمنّ أنّى في صحّة، وإن كنت في الشمس لم أتمنّ أنّي في الظل. قال: فوضع العابد يده على رأسه وقال: أهذه خُصيلة! هذه والله خَصلةٌ عظيمة يعجز عنها العباد". (26)

الخمسون: أنّ الرضا يفتح باب حسن الخلق مع الله تعالى ومع الناس، فإن حسن الخلق من الرضا، وسوء الخلق من السخط، وحسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وسوء الخلق يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

 الحادي والخمسون: أن الرضا يثمر سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور، وطيب النفس وسكونها في كل حال، وطمأنينة القلب عند كل مفزع مهلع من أمور الدنيا، وبرد القناعة، واغتباط العبد بقسمه من ربه، وفرحه بقيام مولاه عليه، واستسلامه لمولاه في كل شيء، ورضاه منه بما يجريه عليه، وتسليمه له الأحكام والقضايا، واعتقاد حسن تدبيره وكمال حكمته، ويذهب عنه شكوى ربه إلى غيره وتبرمه بأقضيته.

 ولهذا سمّى بعض العارفين الرضا: "حسن الخلق مع الله" (27) فإنه يوجب ترك الاعتراض عليه في ملكه، وحذف فضول الكلام التي تقدح في حسن خلقه، فلا يقول: ما أحوج الناس إلى مطر، ولا يقول: هذا يوم شديد الحر أو شديد البرد، ولا يقول: الفقر بلاء والعيال همّ وغمّ، ولا يُسمّي شيئًا قضاه الله وقدّره باسم مذموم إذا لم يذمه الله سبحانه وتعالى، فإنّ هذا كله ينافى رضاه.

 وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "أصبحتُ ومالي سرور إلّا في مواقع القدر". وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الفقر والغنى مطيّتان، ما أبالي أيهما ركبت، إن كان الفقر فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى فإن فيه البذل". وقال ابن أبي الحواري أو قيل له: إنّ فلانًا قال: وددتُّ أن الليل أطول مما هو. فقال: "قد أحسن، وقد أساء. أحسن حيث تمنّى طوله للعبادة والمناجاة، وأساء حيث تمنّى ما لم يرده الله، أَحَبَّ ما لم يُحبّه الله". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما أبالي على أي حال أصبحت وأمسيت من شدّة أو رخاء". وقال يومًا لامرأته عاتكة أخت سعيد بن زيد وقد غضب عليها: والله لأسوأنّك! فقالت: أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله له؟ قال: لا، فقالت: فأيُّ شيء تسوءني به إذًا؟! تريد أنها راضية بمواقع القدر لا يسوءها منه شيء إلّا صرْفها عن الإسلام، ولا سبيل له إليه.

وقيل: "أكثر الناس همًّا بالدنيا أكثرهم همًّا في الآخرة، وأقلّهم همًّا بالدنيا أقلّهم همًّا في الآخرة". فالإيمان بالقدر والرضا به يُذهب عن العبد الهمّ والغمّ والحزن.

الثاني والخمسون: أن أفضل الأحوال الرغبة في الله ولوازمها، وذلك لا يتمّ إلا باليقين والرضا عن الله. ولهذا قال سهل: "حظ الخلق من اليقين على قدر حظهم من الرضا، وحظّهم من الرضا على قدر رغبتهم في الله".

 الثالث والخمسون: أن الرضا يخلّصه من عيب ما لم يعبه الله، ومن ذمِّ ما لم يذمّه الله، فإن العبد إذا لم يرض بالشيء عابه بأنواع المعايب وذمّه بأنواع المذام، وذلك منه قلة حياء من الله، وذمٌّ لما ليس له ذنب، وعيب لخلقه، وذلك يسقط العبد من عين ربه، ولو أن رجلًا صنع لك طعامًا وقدّمه إليك فعبته وذممته؛ لكنت متعرّضًا لمقته وإهانته، ومستدعيًا منه أن يقطع ذلك عنك. وقد قال بعض العارفين: "إن ذم المصنوع وعيبه إذا لم يذمّه صانعه غيبة له وقدح فيه".

 الرابع والخمسون: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله الرضا بالقضاء، كما في المسند والسنن: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأسألك الشوق إلى لقائك، (28) في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين". (29) فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه (30) يقول: "سأله الرضا بعد القضاء؛ لأنه حينئذ تبين حقيقة الرضا، وأما الرضا قبله فإنما هو عزم على أنه يرضى إذا أصابه، وإنما يتحقق الرضا بعده". (31) قال البيهقي: وروينا في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك الصحة والعفّة والأمانة وحسن الخلق والرضا بالقدر". (32)

الخامس والخمسون: أن الرضا بالقدر يخلّص العبد من أن يُرضي الناس بسخط الله، وأن يذمّهم على ما لم يؤته الله، وأن يحمدهم على ما هو عين فضل الله، فيكون ظالمًا لهم في الأوّل وهو رضاهم وذمّهم، مشركًا بهم في الثاني وهو حمدهم، فإذا رضي بالقضاء تخلّص من ذمّهم وحمدهم، فخلّصه الرضا من ذلك كله. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من ضعف اليقين: أن تُرضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمّهم على ما لم يؤتك الله. إن رزق الله لا يجرّه حرص حريص، ولا يردّه كره كاره. وإن الله بحكمته جعل الرَّوح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسخط". (33)

السادس والخمسون: أن الرضا يفرّغ قلب العبد ويقلّل همّه وغمّه، فيتفرّغ لعبادة ربه بقلب خفيف من أثقال الدنيا وهمومها وغمومها. قال بشر بن بشار المجاشعي رحمه الله - وكان من العلماء - قال: قلت لعابد: أوصني، قال: "ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك، فهو أحرى أن يفرّغ قلبك ويقلّل همّك، وإياك أن تسخط ذلك؛ فيحلّ بك السخط وأنت عنه في غفلة لا تشعر به، فيلقيك مع الذين سخط الله عليهم".

 وقال بعض السلف: "ذروا التدبير والاختيار تكونوا في طيبٍ من العيش، فإن التدبير والاختيار يكدّر على الناس عيشهم". وقال أبو العباس بن عطاء رحمه الله: "الفرح في تدبير الله لنا، والشقاء كله في تدبيرنا". وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: "من لم يصلح على تقدير الله؛ لم يصلح على تقديره نفسه". وقال أبو العباس الطوسي رحمه الله: "من ترك التدبير عاش في راحة". وقال بعضهم: "لا تجد السلامة حتى تكون في التدبير كأهل القبور". وقال: "الرضا ترك الخلاف على الرب فيما يجريه على العبد".

 وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "لقد تركتني هؤلاء الدعوات وما لي في شيء من الأمور كلها إرْبٌ (34) إلا في مواقع قدر الله". وكان كثيرًا ما يدعو: "اللهم رَضِّني بقضائك، وبارك لي في قَدَرك، حتى لا أحب تعجيل شيء أخّرته، ولا تأخير شيء عجّلته". وقال: "ما أصبح لي هوى في شيء سوى ما قضى الله عز وجل". وقال يونس بن عبيد رحمه الله: "ما تمنّيت شيئًا قط". (35)

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الراضي لا يتمنّى فوق منزلته". وقال ذو النون رحمه الله: "ثلاثة من أعلام التسليم: مقابلة القضاء بالرضا، والصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء. وثلاثة من أعلام التفويض: تعطيل إرادتك لمراده، والنظر إلى ما يقع من تدبيره لك، وترك الاعتراض على الحكم. وثلاثة من أعلام التوحيد: رؤية كل شيء من الله، وقبول كل شيء عنه، وإضافة كل شيء إليه". وقال بعض العارفين: "أصل العبادة ثلاثة: لا تردّ من أحكامه شيئًا، ولا تسأل غيره حاجة، ولا تدّخر عنه شيئًا".

 وسئل ابن شمعون عن الرضا فقال: "أن ترضى به مُدبِّرًا ومُختارًا، وترضى عنه قاسمًا ومعطيًا ومانعًا، وترضاه إلهًا ومعبودًا وربًّا". وقال بعض العارفين: "الرضا ترك الاختيار، وسرور القلب بمرّ القضاء، وإسقاط التدبير من النفس حتى يحكم الله لها أو عليها". وقيل: "الراضي من لم يندم على فائت من الدنيا، ولم يتأسّف عليها". ولله در القائل:

العبدُ ذو ضجرٍ والربُّ ذو قَدَرٍ ... والدهرُ ذو دول والرزقُ مقسومُ

والخيرُ أجمعُ فيما اختار خالقُنا ... وفي اختيار سواه اللومُ والشومُ (36)

السابع والخمسون: أنه إذا لم يرض بالقدر وقع في لوم المقادير إما بقالبه وإما بقلبه وحاله، ولوم المقادير لومٌ لمُقدِّرِها، وكذلك يقع في لوم الخلق، واللهُ والناسُ يلومونه، فلا يزال لائمًا ملومًا، وهذا مناف للعبودية.

 قال أنس رضي الله عنه: خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلتَه: "لم فعلتَه"؟ ولا لشيء لم أفعله: "ألا فعلته"؟ ولا قال لي لشيء كان: "ليته لم يكن"، ولا لشيء لم يكن: "ليته كان". وكان بعض أهله إذا لامني يقول: "دعوه، فلو قُضي شيء لكان". (37) وقوله: "لو قضى شيء لكان"، يتناول أمرين، أحدهما: مالم يوجد من مراد العبد، والثاني: ما وجد مما يكرهه، وهو يتناول فوات المحبوب وحصول المكروه، فلو قُضي الأول لكان، ولو قضي خلاف الآخر لكان، فإذا استوت الحالتان بالنسبة إلى القضاء؛ فعبودية العبد أن يستوي عنده الحالتان بالنسبة إلى رضاه. وهذا موجب العبودية ومقتضاها. يوضحه:

 الثامن والخمسون: أنه إذا استوى الأمران بالنسبة إلى رضا الرب تعالى؛ فهذا رضيه لعبده فقدَّره، وهذا لم يرضه له فلم يقدّره؛ فكمال الموافقة أن يستويا بالنسبة إلى العبد، فيرضى ما رضيه له ربُّه في الحالين.

 التاسع والخمسون: أن الله تعالى نهى عن التقدّم بين يديه ويدي رسوله في حكمه الديني الشرعي، وذلك عبودية هذا الأمر، فعبودية أمره الكوني القدري ألا يتقدّم بين يديه إلا حيث كانت المصلحة الراجحة في ذلك، فيكون التقدّم أيضًا بأمره الكوني والديني. فإذا كان فرضه الصبر أو ندبه، أو فرضه الرضا، حتى ترك ذلك؛ فقد تقدّم بين يدي شرعه وقدَره.

 الستون: أن المحبة والإخلاص والإنابة لا تقوم إلا على ساق الرضا، فالمحب راض عن حبيبه في كل حاله، وقد كان عمران بن حصين رضى الله عنه استسقى بطنه فبقي ملقى على ظهره مدّة طويلة لا يقوم ولا يقعد، وقد نقب له في سريره موضع لحاجته، فدخل عليه مُطَرّفُ بن عبد الله الشِّخِّير فجعل يبكي لِمَا رأى من حاله! فقال له عمران: لم تبكي؟ فقال: لأنّي أراك على هذه الحال الفظيعة، فقال: لا تبك، فإنّ أحبَّه إليّ أحبّه إليه!(38) وقال: أخبرك بشيء لعلّ الله أن ينفعك به، واكتم عليّ حتى أموت، إنّ الملائكة تزورني فآنسُ بها، وتُسلّم عليّ فأسمع تسليمها". (39)

 ولما قدم سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه إلى مكة وقد كفّ بصره، جعل الناس يُهرعون إليه ليدعو لهم، فجعل يدعو لهم، قال عبد الله بن السائب: "فأتيتُه وأنا غلام فتعرّفتُ إليه فعرفني، فقلت: يا عم؛ أنت تدعو للناس فيُشفون، فلو دعوت لنفسك لردّ الله عليك بصرك، فتبسّم ثم قال: يا بني؛ قضاءُ الله أحبُّ إليَّ من بصري!" (40) (41)

 وقال بعض العارفين: "ذنبٌ أذنبته أنا أبكي عليه ثلاثين سنة! قيل: وما هو؟ قال: قلت لشيء قضاه الله: ليته لم يكن". وقال بعض السلف: "لو قُرِّضَ لحمي بالمقاريض كان أحبّ إليّ من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه". وقيل لعبد الواحد بن زيد: "ههنا رجل قد تعبّد خمسين سنة.(42) فقصده فقال له: حبيبي؛ أخبرني عنك، هل قنعتَ به؟ (43) قال: لا، قال: فهل أَنِسْتَ به؟ قال: لا، قال: فهل رضيتَ عنه؟ قال: لا، قال: فإنّما مزيدك منه الصوم والصلاة؟ (44) قال: نعم، قال: لولا أني أستحي منك لأخبرتك: أن معاملتك خمسين سنة مدخولة!". (45) يعني أنه لم يقرّبه فيجعله في مقام المقربين فيوجده مواجيد العارفين، (46) بحيث يكون مزيده لديه أعمال القلوب التي يستعمل بها كل محبوب مطلوب. لأن القناعة حال الموفّق، والأُنسُ به مقام المحب، والرضا وصف المتوكل. وقوله: "إن معاملته مدخولة" يحتمل وجهين: أحدهما: أنها ناقصة عن معاملة المقربين التي أوجبت لهم هذه الأحوال، الثاني: أنها لو كانت صحيحة سالمة لا علّة فيها ولا غشّ لأثمرت له الأنس والرضا والمحبة والأحوال العلية، فإن الربّ تعالى شكور، إذا وصل إليه عملُ عبدِه جمّلَ به ظاهرَه وباطنَه، وأثابه عليه من حقائق المعرفة والإيمان بحسب عمله، فحيث لم يجد له أثرًا في قلبه من الأنس والرضا والمحبة؛ استدل على أنه مدخول غير سالم من الآفات.

 الحادي والستون: أن أعمال الجوارح تُضاعف إلى حد معلوم محسوب، وأما أعمال القلوب فلا ينتهي تضعيفها. وذلك لأن أعمال الجوارح لها حدّ تنتهي إليه وتقف عنده، فيكون جزاؤها بحسب حدّها، (47) وأما أعمال القلوب فهي دائمة متصلة، وإن توارى شهود العبد لها.

 مثاله: أن المحبة والرضا حال المحب الراضي لا تفارقه أصلًا وإن توارى حكمها، فصاحبها في مزيد متّصل، فمزيد المحب الراضي متصل بدوام هذه الحال له، فهو في مزيد ولو فترت جوارحه، بل قد يكون مزيده في حال سكونه وفتوره أكثر من مزيد كثيرٍ من أهل النوافل بما لا نسبة بينهما، ويبلغ ذلك بصاحبه إلى أن يكون مزيده في حال نومه أكثر من مزيد كثير من أهل القيام، وأكله أكثر من مزيد كثير من أهل الصيام والجوع. (48)

 فإن أنكرت هذا فتأمل مزيدَ (49) نائمٍ بالله، وقيام غافل عن الله. فالله سبحانه إنما ينظر إلى القلوب والهمم والعزائم، لا إلى صور الأعمال. وقيمة العبد همّته وإرادته، فمن لا يرضيه غير الله ولو أعطي الدنيا بحذافيرها له شأنٌ، ومن يرضيه أدنى حظ من حظوظها له شأنٌ، وإن كانت أعمالهما في الصورة واحدة، وقد تكون أعمال الملتفت إلى الحظوظ أكثر وأشقّ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

 وقد اختلف أرباب هذا الشأن (50) في مسألة، وهي: هل للرضا حدٌّ ينتهي إليه؟

 فقال أبو سليمان الداراني: ثلاث مقامات لا حدّ لها: الزهد والورع والرضا. وخالفه سليمان ابنه - وكان عارفًا حتى إن من الناس من كان يقدّمه على أبيه - فقال: بل من تورّع في كل شيء فقد بلغ حدّ الورع، ومن زهد في غير الله فقد بلغ حدّ الزهد، ومن رضي عن الله في كل شيء فقد بلغ حدّ الرضا. (51)

 وقد اختلفوا في مسألة تتعلق بذلك وهي: أهل مقامات ثلاثة، (52) أحدهم: يحبّ الموت شوقًا إلى الله ولقائه، والثاني: يحب البقاء للخدمة (53) والتقرب، وقال الثالث: لا أختارُ، بل أرضى بما يختار لي مولاي، إن شاء أحياني وإن شاء أماتني. فتحاكموا إلى بعض العارفين (54) فقال : صاحب الرضا أفضلهم؛ لأنه أقلهم فضولًا، وأقربهم إلى السلامة.

 ولا ريب أن مقام الرضا فوق مقام الشوق والزهد في الدنيا، بقي النظر في مقامي الآخَرَين أيهما أعلى؟ فرجّحت طائفة مقام من أحب الموت؛ لأنه في مقام الشوق إلى لقاء الله ومحبة لقائه، ومَن أحبَّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ورجّحت طائفة مقام مريد البقاء لتنفيذ أوامر الرب تعالى، واحتجوا بأن الأول محبٌّ لحظه من الله، وهذا محب لمراد الله منه، لم يشبع منه ولم يقض منه وطرًا.

 قالوا: وهذا حال موسى صلوات الله وسلامه عليه حين لطم وجه ملك الموت ففقأ عينه، لا محبةً للدنيا ولكن لينفذ أوامر ربه ومراضيه في الناس، فكأنّه قال: أنت عبده وأنا عبده، وأنت في طاعته وأنا في طاعته وتنفيذ أوامره.

 وحينئذ فنقول في الوجه الثاني والستين: إن حال الراضي المسلّم ينتظم حاليهما جميعًا مع زيادة التسليم وترك الاختيار، فإنه قد غاب بمراد ربه منه من إحيائه وإماتته عن مراده هو من هذين الأمرين، وكلُّ محبّ فهو مشتاق إلى لقاء حبيبه، مؤثِرٌ لمراضيه. فقد أخذ بزمام كل من المقامين واتصف بالحالين، وقال: "أَحَبُّ ذلك إليّ أحبّهُ إليه، لا أتمنى غير رضاه، ولا أتخيّر عليه إلا ما يحبّه ويرضاه".

ثم ساق ابن القيم كلام الهروي في منازل السائرين في بيانه لشروط الرضا وشرحها فقال: "قال(55): الثاني: سقوط الخصومة عن الخلق. يعني أن الرضا إنما يصح بسقوط الخصومة مع الخلق، فإن الخصومة تنافي حال الرضا، وتنافي نسبة الأشياء كلها إلى من بيده أزِمَّة القضاء والقدر، ففي الخصومة آفات:

أحدها: المنازعة التي تضادُّ الرضا.

الثاني: نقص التوحيد بنسبة ما يُخاصِمُ فيه إلى عبدٍ دون الخالقِ لكل شيء.

الثالث: نسيان المُوجِبِ والسبب الذى جرّ إلى الخصومة، فلو رجع العبد إلى السبب والموجِب؛ لكان اشتغاله بدفعه أجدى عليه وأنفع له من خصومة من جرى على يديه، فإنه وإن كان ظالمًا فهو الذي سلّطه على نفسه بظلمه، قال الله تعالى: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم : أنى هذا قل : هو من عند أنفسكم )، فأخبر أنّ أذى عدوّهم لهم وغلبتهم لهم إنما هو بسبب ظلمهم، وقال الله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).

 فإذا اجتمعت بصيرة العبد على مشاهد القدر والتوحيد والحكمة والعدل؛ انسدّ عنه باب خصومة الخلق إلا فيما كان حقًّا لله ورسوله، فالراضي لا يُخاصم ولا يُعاتب إلا فيما يتعلق بحق الله، وهذه كانت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكن يخاصم أحدًا ولا يعاتبه إلا فيما يتعلّق بحق الله، كما أنه كان لا يغضب لنفسه، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، فالمخاصمة لحظّ النفس تطفئ نور الرضا وتذهب بهجته وتبدل بالمرارة حلاوته وتكدّر صفوه.

 قال: الشرط الثالث: الخلاص من المسألة للخلق والإلحاح. (56) وذلك لأن المسألة فيها ضرب من الخصومة والمنازعة والمحاربة، والرجوع عن مالك الضرّ والنفع إلى من لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا إلا بربّه، وفيها الغَيبةُ عن المعطي المانع.

 والإلحاح ينافي حال الرضا ووصفه، وقد أثنى الله سبحانه على الذين لا يسألون الناس إلحافًا فقال تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) فقالت طائفة: يسألون الناس ما تدعو حاجتهم إلى سؤاله، ولكن لا يُلحفون (57) فنفى الله عنهم سؤال الإلحاف لا مطلق السؤال.

 قال ابن عباس رضي الله عنه: "إذا كان عنده غداء لم يسأل عشاء، وإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء". وقالت طائفة منهم الزجاج والفراء وغيرهما: بل الآية اقتضت ترك السؤال مطلقًا، لأنهم وُصفوا بالتعفف والمعرفة بسيماهم دون الإفصاح بالمسألة، لأنهم لو أفصحوا بالسؤال لم يحسبهم الجاهل أغنياء. ثم اختلفوا في وجه قوله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافا) فقال الزجاح: المعنى لا يكون منهم سؤال فيقع إلحاف، كما قال تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي لا تكون شفاعة فتنفع، وكما في قوله: (لا يقبل منها عدل)، أي لا يكون عدل فيُقبل، ونظائره قال امرئ القيس: "على لاحبٍ لا يَهتدي بمنارِهِ".(58)

قال ابن الأنباري: وتأويل الآية: لا يسألون البتة فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف، فيجري هذا مجرى قولك: فلان لا يرجى خيره، أي ليس له خير فيُرجَى. وقال أبو علي: لم يثبت في هذه الآية مسألة منهم، لأن المعنى: ليس منهم مسألة فيكون منهم إلحاف، قال: ومثل ذلك قول الشاعر:

لا تُفزِعُ الأرنبَ أهوالُها ... ولا ترى الضَّبَّ بها ينجَحِر

أي ليس بها أرنب فتفزع لهولها ولا ضبّ فينجحر، وقال الفراء: نفى الإلحاف عنهم وهو يريد نفي جميع السؤال.

 والمسألة في الأصل حرام، وإنما أبيحت للحاجة والضرورة لأنها ظلم في حقّ الربوبية، وظلم في حق المسؤول، وظلم في حق السائل، أما الأول: فلأنّه بذلُ سؤاله وفقره وذلّه واستعطاءه لغير الله، وذلك نوع عبودية، فوضع المسألة في غير موضعها وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله وتوكله عليه ورضاه بقسمه، واستغنى بسؤال الناس عن مسألة رب الناس، وذلك كله يهضم من حق التوحيد ويطفئُ نوره ويضعف قوّته.

 وأما ظلمه للمسؤول: فلأنّه سأله ما ليس عنده، فأوجب له بسؤاله عليه حقًّا لم يكن له عليه، وعرّضه لمشقّة البذل، أو لوم المنع، فإن أعطاه أعطاه على كراهة، وإن منعه منعه على استحياء وإغماض، هذا إذا سأله ما ليس عليه، وأما إذا سأله حقًّا هو له عنده فلم يدخل في ذلك ولم يظلمه بسؤاله.

 وأما ظلمه لنفسه: فإنه أراق ماء وجهه، وذلّ لغير خالقه، وأنزل نفسه أدنى المنزلتين، ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرَف نفسه وعزّة تعففه وراحة قناعته، (59) وباع صبره ورضاه وتوكله وقناعته بما قُسم له واستغناءه عن الناس بسؤالهم، وهذا عين ظلمه لنفسه، إذْ وضعها في غير موضعها، وأخمل شرفها، ووضع قدرها، وأذهب عزّها وصغّرها وحقّرها، ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسؤول، ويده تحت يده، ولولا الضرورة لم يبح ذلك في الشرع.

 وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال الرجل يسأل الناس؛ حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مُزْعَةُ لحم". (60) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس أموالهم تكثُّرًا؛ فإنّما يسأل جمرًا فليستقلّ أو ليستكثر". (61) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَأَن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خيرٌ له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه".(62) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس؛ خير له من أن يسأل رجلًا، أعطاه أو منعه، ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول". (63) وفى الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه: أنّ ناسًا من الأنصار(64)

سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: "ما يكونُ عندي من خير فلن أدّخره عنكم، ومن يستعفف يُعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبّر يُصبّره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر". (65) وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفّف والمسألة: "اليدُ العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا هي المُنفقة، واليد السفلى هي السائلة". (66) وعن حكيم بن حزام رضى الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: "يا حَكِيم، إنّ هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوَة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارَك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى". قال حكيم: فقلت يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرْزَأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، وكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إنّي أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم: أنّي أعرض عليه حقّه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم رضي الله عنه أحدًا من الناس بعد رسول الله صلى  الله عليه وسلم حتى توفي. (67)

وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: "ألا تبايعون رسول الله؟". وكنا حديثي عهد ببيعته، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟" فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟" قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك قال: "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا الله"، وأَسرَّ كلمة خفيّة: "ولا تسألوا الناس شيئًا". فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه. (68) وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة كَدٌّ يكدّ بها الرجل وجهه، إلّا أن يسأل الرجل سلطانًا أو في أمرٍ لا بدَّ منه". (69) وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يتقبّل لي بواحدة، وأتقبّلُ له بالجنة؟" قال: قلت: أنا، قال: "لا تسأل الناس شيئًا". فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد: ناولنيه، حتى ينزل هو فيتناوله. (70)

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصابته فاقةٌ فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له (71) برزق عاجل أو آجل". (72)

 وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله عيينة ابن حصن والأقرع بن حابس فسألاه، فأمر لهما بما سألاه، وأمر معاوية فكتب لهما بما سألا، فأمّا الأقرع فأخذ كتابه فلفّه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه فقال: أراني حاملًا إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه، كصحيفة المُتَلَمِّس! (73) فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنّما يستكثر من النار"، وفي لفظ: "من جمر جهنم" قالوا: يا رسول الله؛ وما يغنيه؟ وفي لفظ: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: "قدر ما يغدّيه وما يعشّيه".(74) وفي لفظ: "أن يكون له شِبَعُ يومٍ وليلة". (75)

وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحمّلتُ حَمَالَة (76) فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة، فآمر لك بها" ثم قال: "يا قبيصة، إن المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلّت له المسألة حتى يصيبَها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجَى (77) من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة. فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش. فما سواهنّ من المسألة يا قبيصة سُحْتٌ يأكلها صاحبها سحتًا". (78)

 وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: سرّحتني أمي إلى رسول الله أسألُه، فأتيتُه فقعدت قال: فاستقبلني فقال: "من استغنى أغناه الله، ومن استعفّ أعفّه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقيّة فقد ألحف". فقلت: ناقتي هي خير من أوقية، ولم أسأله. (79)

 وعن خالد بن عدي الجهني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جاءه من أخيه معروفٌ من غير إشراف ولا مسألة فليقبلْه ولا يردّه، فإنّما هو رزق ساقه الله إليه". (80) فهذا أحد المعنيين في قوله: إن من شرط الرضا: ترك الإلحاح في المسألة، وهو أليق المعنيين وأولاهما، لأنه قرَنه بترك الخصومة مع الخلق، فلا يخاصمهم في حقّه، ولا يطلب منهم حقوقه. والمعنى الثاني: أنه لا يلحّ في الدعاء ولا يبالغ فيه، فإن ذلك يقدح في رضاه، وهذا يصح في وجه دون وجه، فيصح إذا كان الداعي يلح في الدعاء بأغراضه وحظوظه العاجلة، وأما إذا ألحّ على الله في سؤاله بما فيه رضاه والقرب منه فإن ذلك لا يقدح في مقام الرضا أصلًا. وفي الأثر: "إن الله يحب المُلِحِّين في الدعاء". (81) وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم بدر للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، قد ألححتَ على ربك، كفاك بعض مناشدتك لربك" فهذا الإلحاح عين العبودية. وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه". (82) فإذا كان سؤاله يرضيه لم يكن الإلحاح فيه منافيا لرضاه.

 وحقيقة الرضا: موافقته سبحانه في رضاه، بل الذي ينافي الرضا أن يلحّ عليه متحكّمًا عليه متخيّرًا عليه ما لم يعلم: هل يرضيه أم لا؟ كمن يلحّ على ربّه في ولاية شخص أو إغنائه أو قضاء حاجته، فهذا ينافي الرضا لأنه ليس على يقين أن مرضاة الرب في ذلك.

 فإن قيل: فقد يكون للعبد حاجة يُباح له سؤاله إياها، فيلحّ على ربه في طلبها حتى يفتح له من لذيذ مناجاته وسؤاله والذلّ بين يديه وتملّقه والتوسّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وتفريغ القلب له وعدم تعلّقه في حاجته بغيره ما لم يحصل له بدون الإلحاح، فهل يكره له هذا الإلحاح وإن كان المطلوب حظًّا من حظوظه؟ قيل: ها هنا ثلاثة أمور:

 أحدها: أن يفنى بمطلوبه وحاجته عن مراده ورضاه، (83) ويجعل الرب تعالى وسيلة إلى مطلوبه، بحيث يكون أهمّ إليه منه، فهذا ينافي كمال الرضا به وعنه.

 الثاني: أن يفتح على قلبه حال السؤال من معرفة الله ومحبته والذلّ له والخضوع والتملّق ما ينسيه حاجته، ويكون ما فُتح له من ذلك أحبّ إليه من حاجته، بحيث يحب أن تدوم له تلك الحال، وتكون آثر عنده من حاجته، وفرحه بها أعظم من فرحه بحاجته لو عُجّلت له وفاته ذلك، فهذا لا ينافي رضاه. (84) وقال بعض العارفين: "إنه لتكون لي حاجة إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح عليّ من مناجاته ومعرفته والتذلّل له والتملّق بين يديه ما أحبّ معه أن يؤخر عنّي قضاءها، وتدوم لي تلك الحال". وفي أثر: "إن العبد ليدعو ربه عز وجل، فيقول الله عز وجل لملائكته: اقضوا حاجة عبدي وأخّروها، فإنّي أحبّ أن أسمع دعاءه. ويدعوه آخر فيقول الله لملائكته: اقضوا حاجته وعجّلوها، فإني أكره صوته (85)". (86) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء". (87) وروى أيضا من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ليسأل أحدكم ربه حاجته، حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسع نعله إذا انقطع". (88) وفيه أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما سئل الله شيئا أحبّ إليه من أن يُسأل العافية، وإن الدعاء لينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء". (89) وإذا كانت هذه محبة الرب تعالى للدعاء فلا ينافي الإلحاح فيه الرضا. (90)

الثالث: أن ينقطع طمعه من الخلق، ويتعلق بربه في طلب حاجته، وقد أفرده بالطلب، ولا يلوي على ما وراء ذلك. فهذا قد تنشأ له المصلحة من نفس الطلب وإفراد الرب بالقصد، والفرق بينه وبين الذي قبله: أن ذلك قد فتح عليه بما هو أحبّ إليه من حاجته، فهو لا يبالي بفواتها بعد ظفره بما فتح عليه. وبالله التوفيق". (91) والحمد لله رب العالمين.

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

........................

  1. لاشتراك الإنسان مع أمم الحيوان في الإحساس المريح بالملائم المُسعد وبالكريه للمنافر المؤلم.
  2. صححه الألباني في تخريج شرح الطحاوية لابن أبي العز (1 / 163) ( 163 ) والصحيحة (147). وأصله في صحيح مسلم (8/ 227) ( 2999 )  وأحمد (4/ 332، 333، 6/ 15): "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد..." الحديث. وفي رواية لأحمد: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ ضحك فقال: "ألا تسألوني مم أضحك؟" قالوا: يا رسول الله ومم تضحك؟ قال: "عجبتُ لأمر المؤمن..." الحديث، (18939) وسنده على شرط مسلم.
  3. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "من أعظم خبث القلوب أن يكون في قلب العبد غلٌّ لخيار المؤمنين". منهاج السنة (1/ 22)
  4. الترمذي (2516) وأحمد (4/287) وصححه أحمد شاكر. والأرناؤوط (2803) وقال: "حديث صحيح، وهذا الحديث رواه أحمد عن شيخه أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ بثلاثة أسانيد، الأخير منها متصل، والأول والثاني فيهما انقطاع". وصححه القرطبي في التفسير (8/335) وقال ابن رجب في الجامع (1/459): حسن جيد. وقال ابن تيمية في التوسل (52): "حديث معروف مشهور".
  5. أحمد (1444) والترمذي (2151) وضعفه محققو المسند والألباني في السلسلة (1906) لأنه من طريق محمد بن أبي حميد إبراهيم الأنصاري الزرقي، متفق على ضعفه. ومعنى الحديث صحيح.
  6. ربما قصد الشيخ أنه ما من شيء من متاع الدنيا إلا وهو زائل وما من حبيب إلا ومفارق، وليس مقصوده تقديم أَلَمِ المصيبة قبلها، ولو بعدم سروره بنعمة الله تعالى عليه، فليس هذا من شكر المُنعم، ولأن فيه نوعٌ من سوء الظن وسوداوية، فالمقصود بالذم هنا – والله أعلم - هو  فرح البطر، إما من جهة نفسه فيكون فرحًا كثيرًا زائدًا بدنيا مزاحمة للآخرة، أو من جهة ثمرته فيكون فرحًا غير مصحوب بشكر الله. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره (8 / 27) عند قول الله تعالى:{ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ }: "أي: لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدّكم، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم، فلا تتخذوا نعم الله أشرًا وبطرًا، تفخرون بها على الناس؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي: مختال في نفسه متكبر فخور، أي: على غيره. وقال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفَرَح شكرًا والحزن صبرًا".
  7.  من التكالب، وهو المنازعة بشدة لتحصيل الشيء.
  8. البخاري 2/105 ( 1303 ) ، ومسلم 7/76 ( 2315 ) ( 62 )
  9. ولا يعني هذا تسخّطه، ولكنه لم يستحضر رضًا ولا سخطًا لاستيلاء مشهد الرحمة على قلبه، فلم يتسع لغيرها.
  10. وقال ابن القيم أيضًا رحمه الله في المدارج (2 / 178): "الرضا ثلاثة أقسام: رضى العوام بما قسمه الله وأعطاه، ورضى الخواص بما قدّره وقضاه، ورضى خواص الخواص به بدلًا من كل ما سواه".
  11. ذكره الغزالي رحمه الله في الإحياء (6 / 431)
  12. فقد رجع الرجيم لأصله الشيطاني لمّا ابتُلي.
  13. أحمد (3712) وضعفه محققوه من جهة الجهالة بأبي سلمة الجهني، وأنه راوٍ آخر غير أبي موسى الجهني. وصححه أحمد شاكر، وكان الأرناؤوط قد صححه في تخريج ابن حبان ثم تراجع عنه هنا، وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين (1/150) وصححه الألباني في الصحيحة (199) وقال: "ليس في الرواة من اسمه موسى الجهني إلا موسى بن عبد الله الجهني، وهو الذي يكنى بأبي سلمة، وهو ثقة من رجال مسلم.
  14. هناك ملحظ دقيق خطير لا بد أن ينتبه له كل من يُعنى بالحديث في هذا الموضوع، لأنه يشتبه بمسألة خلق أفعال العباد، فمعنى كلام المصنف وشيخه هنا وهناك بأنّ الشرّ طبع النفس وشأنها وأن الشرّ ليس إلى الله تعالى كما في الحديث، وإنّما الخير هو بإمداد الله لها به؛ فكلّ هذا لا يعني بحال أن النفس تخلق صفاتها، بل إن الله تعالى هو الذي خلقها بهذه الصفة، ثم جعلها مفتقرة للخير، فإن شاء ربُّها أمدَّها به، وإن شاء خذلها وتركها نهبًا لطبعها الظالم الجاهل كما قال سبحانه: (وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا)، وكل شيء خلقٌ لله تعالى كما قال سبحانه: (الله خالق كل شيء)، وهذا منسحب على كل شرّ في الوجود، ويتّضح لك ذلك بتأمل خلق الله تعالى لإبليس، فهو من خلقه للنار أصلًا، ثم ركّب فيه أدوات التكليف من العلم والإرادة والقدرة، ثم خذله، وكذلك الحال في الكفرة الفجرة، فعُدَّهم في النهاية كصخرةٍ في النار كلّفها لحكمته البالغة، وكتب نهايتها في النار عدلًا تامًّا، فقد خلق الله للجنة أهلها وللنار أهلها، وأعطى كلّا منهما علمًا وإرادة وقدرة، ثم كلّفهم بما يطيقون من العلوم والأعمال، وجعل لهم مشيئة خاصة بهم، يُحسُّون ويشعرون بها، ويفعلون بها، ويتحرّكون بها، وهي تحت مظلّة مشيئة الله تعالى وقضائه وقدَره لا تخرج عن ذلك، فلا أله إلا الله ما أعزّه وأعظمه وأكبره وأغناه وأقْدَره، وما أشدَّ خوف العالِمِين به، وما أعظم فَرَقهم منه وخشيتهم له وحياءهم منه، (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، وحق لهم ذلك، فإنه مالك الملك ومدبر الأمر وله العزة والبطش والقهر، (لا يسئل عما يفعل وهم يسألون)، ويكفيك أن تعلم أن أعلم الناس به وأحبهم إليه وأعلمهم بصفات رحمته وعفوه ومغفرته ولطفه ورفقه كان أخوف الناس منه وأشدهم خشية له وحياء منه؛ لأنه كان أعلمهم به وبصفات جلاله وسطوته وعزته وغضبه وعقابه وانتقامه، فقال صلى الله عليه وسلم: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله عز وجل، وأعلمكم بما أتقّي". رواه مسلم (1110) فنسأل الله تعالى برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا، فإن رحمته أرجى من أعمالنا، ومغفرته أوسع من ذنوبنا، ونستغفره ونتوب إليه فهو أهل التقوى وأهل المغفرة ، وهو الغفور الرحيم.

فإن التبس عليك الأمر يومًا؛ فسلّم لحكمته وعلمه ورحمته ومشيئته، فالخلق خلقُه والحكم حكمُه والأمرُ أمره، واهتف لنفسك: (لا يسئل عما يفعل وهم يسألون).

15.                    يرخّص في الفتن ما لا يُرخص في غيرها، وذلك لأن الفتن سبب في اختلال الأمور، وانقلاب القلوب، واختلال الأديان إلا من عصم الله تعالى بحياة صالحة رشيدة أو موت مُسلّمٍ مُذهِب، فقد روى الترمذي (٣٢٣٣) وصححه الألباني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث اختصام الملأ الأعلى: «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ..» الحديث، وقد حمل الإمام مالك دعاء عمر رضي الله عنه: "اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط" الذي رواه عنه في موطئه فقال كما في الجامع لابن أبي زيد القيرواني (١٨٢): "ولا أرى عمر دعا على نفسه بالشهادة إلا أنه خاف التحوّل من الفتن، وقد كان يحب البقاء في الدنيا"، وكان من دعائه رضي الله عنه في آخر عمره: «اللَّهمَّ ارزقني شهادة في سَبِيلك، واجعل موتي في بَلدِ رسولك. قالت حفصة: فقلت: أنّى يكون هذا؟ قال: يأْتِيني به اللهُ إذا شاء»، البخاري (١٨٩٠). وقد استجاب الله دعاءه.

وعليه؛ فلا يُشرع تمنّي الموت عند الضرر إلا إن خاف المؤمن على دينه، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". رواه البخاري 7/156 ( 5671 ) ومسلم 8/64 ( 2680 ) ( 10 ) وروى مسلم (4 / 2064) (2681) عن قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خبّاب رضي الله عنه وقد أكتوى سبع كيّات في بطنه، فقال: لو ما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوتُ به. وروى أيضًا (4 / 2065) (2682) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنّى أحدكم الموت، ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه، إنّه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا". وروى أحمد (7578) بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنّينّ أحدكم الموت، إما محسن، فلعله يزداد خيرًا، وإما مسيء لعله يستعتب". وقد تمنّاه بعض الصحابة خوفًا على دينهم، فعند أحمد (16040) وصححه محققو المسند والألباني في الصحيحة (٢/ ٦٧٢/ ٩٧٩) عن عُلَيمٍ، قال: كنا جلوسًا على سطح معنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال يزيد: لا أعلمه إلا عبسًا الغفاري، والناس يخرجون في الطاعون، فقال عبس: يا طاعون خذني، ثلاثًا يقولها، فقال له عليم: لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنّى أحدكم الموت، فإنه عند انقطاع عمله، ولا يردّ فيستعتب" فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بادروا بالموت ستًّا: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافًا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشوًا يتّخذون القرآن مزامير يقدمونه يغنّيهم، وإن كان أقلّ منهم فقهًا". وقد تمنّى سيّد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه الموت ودعا لنفسه به بشرطه، - وقد يكون قد نوى الدعاء بالشهادة لأنّ إصابته كانت في المعركة- فقد روى البخاري (4117) ومسلم (1769) عن عائشة رضي الله عنها أن سعدًا أصيب يوم الخندق في أكحله – وهو عرق في وسط الذراع يكثر فصدُه- فحسمه – أي قطع سيلانه بكيِّهِ - رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده بمشقص، وضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب.. الحديث، وفيه: أن سعدًا قال: «اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحبّ إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها، واجعل موتي فيها، فانفجرت من لُبَّتِه – وفي لفظ: من ليلته -، فلم يرعهم - وفي المسجد خيمة من بني غفار - إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جُرحه دمًا، فمات منها».

16.                    لعله قصد بالروحانية أنها من صفات أهل الرَّوْح والريحان من المقربين لله تعالى المبشرين برضوانه، كما في آخر سورة الواقعة.

17.                    وهيب بن الورد بن أبي الورد القرشي، أبو عثمان، ويقال: أبو أمية المكي، مولى بني مخزوم، واسمه عبد الوهاب، ووهيب لقب. وكان ابن المبارك يقول: ما جلست إلى رجل أنفع مجالسة من وهيب بن الورد. وعن سفيان بن عيينة عن وهيب بن الورد قال: بينا أنا واقف في بطن الوادي إذا أنا برجل قد اخذ بمنكبي فقال يا وهيب خف الله لقدرته عليك واستحيي منه لقربه منك قال فالتفت فلم أر أحدًا. وعن زهير بن عباد قال: كان فضيل بن عياض ووهيب بن الورد وعبد الله بن المبارك جلوسًا فذكروا الرطب، فقال وهيب: أو قد جاء الرطب؟ فقال عبد الله بن المبارك: رحمك الله، هذا آخره، أَوَ لم تأكله؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال وهيب: بلغني أن عامة أجنّةِ مكة من الصوافي والقطائع فكرهتُها،– أي أنه لا يستحل الأكل من ثمار بساتينها الصوافي، وهي: الأراضي التي أخذت من الكفار فاستصفاها الخليفة له، وقد يضعها في بيت المال، وتسمّى كذلك: القطائع وتسمى الآن الإقطاعات؛ لأن الخليفة كان يوزع بعضها إقطاعات على من يشاء من المقربين له - فقال عبد الله بن المبارك: يرحمك الله أوليس قد رخص في الشرى من السوق إذا لم تعرف الصوافي والقطائع منه، وإلا ضاق على الناس خبزهم، أو ليس عامّة ما يأتي من قمح مصر إنما هو من الصوافي والقطائع، ولا أحسبك تستغني عن القمح، فسهل عليك! قال: فصُعق. قال فضيل لعبد الله: ما صنعت بالرجل؟ فقال ابن المبارك: ما علمت أن كل هذا الخوف قد أعطيه. فلما أفاق وهيب قال: يا ابن المبارك، دعني من ترخيصك، لا جرم لا آكل من القمح إلا كما يأكل المضطر من الميتة. فزعموا انه نحل جسمه حتى مات هزلًا.

وكان سفيان الثوري إذا جاء الناس في المسجد الحرام وفرغ قال: قوموا إلى الطبيب. يعني وهيبًا. وانظر: صفة الصفوة لابن الجوزي ( 1/420)

18.                    ذكره في المغني عن حمل الأسفار (2 / 1086) عن أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من رواية مكحول عن أبي الدرداء مرفوعًا ولم يسمع منه، ورواه أو نعيم في الحلية من قول كعب الأحبار غير مرفوع بإسناد ضعيف. وهو في كنز العمال (6/16651) وعلى كل حال فهو من أحاديث بني إسرائيل التي يستأنس بها اعتبارًا واتّعاظًا لا تصديقًا ولا تكذيبًا.

19.                    البخاري في خلق أفعال العباد (69) وفي التاريخ أيضًا، والبزار في المسند، والبيهقي في الشعب، ونقل السيوطي في اللآلئ المصنوعة (2 / 288) تحسين الحافظ ابن حجر للحديث في أماليه. وقد ليّنه في فتح الباري (134/11)

20.                    البخاري (1/19) مسلم (1/30)

21.                    الترمذي (2516) وأحمد (4/287) وصححه أحمد شاكر، والأرناؤوط (2803) وقال: "حديث صحيح، وهذا الحديث رواه أحمد عن شيخه أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ بثلاثة أسانيد، الأخير منها متصل، والأول والثاني فيهما انقطاع". وصححه القرطبي في التفسير (8/335) وقال ابن رجب في الجامع (1/459): حسن جيد. وقال ابن تيمية في التوسل (52): "حديث معروف مشهور".

22.                    وقد استدل المصنف رحمه الله على ذلك بحديث لا يثبت، وهو حديث الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما أنتم؟" فقالوا: مؤمنون. فقال: "ما علامة إيمانكم؟" فقالوا: الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمرّ القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء. فقال: "حكماء علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء". ذكره الغزالي في حلية الأولياء (9/291) وضعفه العراقي في تخريج الإحياء (1/53) وقال الألباني في الضعيفة (2614): "منكر".

23.                    تمامه: "فتقوم زمرة فيُنصب لهم لواء فيدخلون الجنة" قيل: ومن الحمّادون؟ قال: "الذين يشكرون الله تعالى على كل حال"، وفي لفظ آخر: "الذين يشكرون الله على السراء والضراء". قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (8 / 186) (3686): "أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس، وفيه قيس بن الربيع ضعفه الجمهور".

24.                    وهذا تحكّم وتشديد بلا دليل، وفضل الله - بحمد الله- واسع، فمن حَمِدَ الله بلسانه ولم يجزع فهو من الحامدين حتى وإن تألّم قلبه، أما إن كظم جزعه ولم يحمد فهو من الصابرين، والله أعلم.

25.                    وليس في الخبر أن بينهما خلوة، أو أنه كان ينظر لها مباشرة، فلعله استضافها ووكّل إحدى محارمه تنظر إلى عملها، أو أنه كان مباحًا في شريعتهم.. مع أن الأثر إسرائيلي فليس له ثبوت، والمقصود من ذكره الاعتبار بحال العابدة مع الرضا بأقدار الله تعالى.

26.                    ذكره في إحياء علوم الدين (6 / 434)

27.                    وهذا الوصف الجميل للرضا في الغاية من نفاسة العلم وجودة الفقه وحسن الأدب مع الله تعالى.

28.                    أي أسألك شوقًا إليك لِذات الشوق والمحبة والرجاء، لا تخلّصًا من مضرّة ولا هربًا من فتنة، والله أعلم.

29.                    أحمد (4/264) والنسائي (3/54) وصححه الألباني.

30.                    قدس الله روحه: أي طهرها من الذنوب، وهو بمعنى غفر الله له. أما الممنوع فهو قول: قدّس الله سرّه، لأنهم يقصدون بذلك أنّ له سرًّا يتصرّف به في تدبير الكون! وإن كان كثير من العامّة لا يقصدون ذلك المعنى الشركي ولكن يُمنع حسمًا للمادة وسدًّا للذريعة وحُسنًا للأدب وحفظًا لمقام ألفاظ الشرع.

31.                    الاستقامة (2 / 87)

32.                    شعب الإيمان (8181) والأدب المفرد (307) وضعفه الألباني.

33.                    شعب الإيمان (1/176) والحلية (3/122) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2009)

34.                    بكسر الهمزة، أي: حاجة ورغبة، وفي التنزيل: (غير أولي الإربة من الرجال)، وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند الترمذي (729) وغيره: "أنه كان يباشرني وهو صائم، وكان أملككم لإرْبِه".

35.                    أي أنه لم يتكلم برغبته في أمر دنيا.

36.                    مسهّلة عن الشؤم لضرورة الوزن.

37.                    أحمد (13034) قال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وهو في مصنف عبد الرزاق (17946)

38.                    وهذا توحيد عظيم وإيمان هائل له رضي الله عنه، وهو الذي كانت تسلّم عليه الملائكة حتى اكتوى فتركت سلامه، فلمّا ترك الكيَّ عادت إليه بالسلام، عليها وعليه السلام.

39.                    نقله في الإحياء (6 / 439)

40.                    جامع العلوم والحكم (1 / 369)

41.                    لا إله إلا الله، ما أعظم دينهم وأجود تحقيقهم! رضوان الله عليهم.

42.                    أي أنّه اجتهد في العبادة منذ خمسين سنة، ولا  يعني ذلك الرهبانية بحال، فلا رهبانية في الإسلام. وقد كانوا ولا زالوا يحرصون على لقيا الصالحين من أهل العلم والعبادة، لترقّ قلوبهم وتزيد علومهم ويقتربوا لربهم بمجالسة أهل الاجتهاد في طلب ولايته.

43.                    أي بالله تعالى، واكتفيت به عن خلقه.

44.                    أي أنه ليس معك إلا الهياكل الظاهرة للعبادة دون جوهرها وروحها ولبّها، ولم تجد آثارها على قلبك.

45.                    الإحياء (6 / 440) قال الغزالي: "ومعناه: أنك لم يُفتح لك باب القلب فتترقّى إلى درجات القرب بأعمال القلب، وإنما أنت تُعَدُّ في طبقات أصحاب اليمين، لأن مزيدك منه في أعمال الجوارح التي هي مزيد أهل العموم.

46.                    أي يعطيه ويتفضّل عليه بألطاف المواهب الربانية لقلوب أوليائه من المحبة والشوق والأنس ونحوها.

47.                    أي بقدْرها.

48.                    كما قيل: ربَّ قائم محروم، ونائم مرحوم! وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسّه النار، وليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن فاقشعرّ جلدُه من خشية الله إلا كان مثله مثل شجرة يبس ورقها، فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريح فتحاتّ عنها ورقها، إلا تحاتّت عنه ذنوبه كما تحاتّ عن هذه الشجرة ورقها، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة". وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "يا حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم! ولَمثقال ذرة من برّ مع تقوى ويقين، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترّين".

49.                    أي أنّ الله تعالى يزيده من فضله أعمالَ قلب صالحة وأجرًا مذخورًا.

50.                    أي المهتمّين بالسلوك والاجتهاد في التعبّد وأعمال القلوب تنظيرًا وتطبيقًا.

51.                    من دقائق الزهد عدم التوسع في المباح لأمور؛ منها الخوف من تعجيل الطيبات، وكان الصحابة هم سادة الزاهدين الورعين الراضين الصالحين، وقد أخرج ابن أبي شيبة رحمه الله تعالى (24524) أنّ عمر رأى جابر بن عبد الله رضي الله عنهم وبيده لحم قد اشتراه قال: ما هذا؟ قال: اشتريتُه بدرهم. فقال: أوَ كلما قام أحدكم اشترى بدرهم لحمًا! وفي رواية: كلّما اشتهيت اشتريت! أما سمعت الله يقول: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ) أم تخافون أن تكونوا منهم؟ وانظر أيضًا: تفسير السمعاني (5 / 157)

52.                    "الفرق بين الحال والمقام: أن الحال معنًى يرد على القلب من غير اجتلاب له ولا اكتساب ولا تعمّد، والمقام يتوصّل إليه بنوع كسب وطلب. فالأحوال عندهم مواهب، والمقامات مكاسب، فالمقام يحصل ببذل المجهود، وأما الحال فمِن عين الجُود". مدارج السالكين (2 / 447)

ولاحظ أنهم جعلوا للمقام معنى القيام، وفيه تكلّف القيام، فهو بجهد واكتساب، أما الحال فهو طبيعة وجبلة، فليس فيه معنى الاكتساب.

53.                    لو قال: "للعبادة"، فهي أسلم من جهة لفظها شرعًا ومعنًى.

54.                    أي أهل المعرفة بالله، ويعنون بذلك العلم بالله تعالى. والأمر في هذه التسمية واسع إن شاء الله لسلامة لفظها ومعناها، وفي التنزيل: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون)، فالمعرفة هي العلم، ولفظ العلم أشرف لأن الله تعالى يوصف بالعلم ومن أسمائه العليم، وقد جاء الثناء في الشرع على العلماء، والعلماء في لسان الشرع هم أهل العلم بعلم الآخرة القرآن والسنة، لا علوم أهل الدنيا.

وقد جاء النص بلفظ المعرفة عند الشيخين في حديث إرساله معاذًا إلى اليمن، -إن صحّ هذا اللفظ بحروفه دون معناه، لأن أكثر الرواة رووه بألفاظ أخرى-، كما في البخاري (1458) ومسلم (19): "فليكن أوّل ما تدعوهم إليه: عبادة الله عز وجل، فإذا عرفوا الله؛ فأخبرهم: أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات.." الحديث. قال الحافظ في الفتح (13 / 354): "الاحتجاج به يتوقّفُ على الجزم بأنه صلى الله عليه وسلم نطق بهذه اللفظة، وفيه نظر، لأن القصة واحدة، ورواة هذا الحديث اختلفوا هل ورد الحديث بهذا اللفظ أو بغيره، فلم يقل صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ منها، ومع احتمال أن يكون هذا اللفظ من تصرف الرواة لا يتم الاستدلال. وقد بينت في أواخر كتاب الزكاة أن الأكثر رووه بلفظ: "فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم اطاعوا لك بذلك.." ومنهم من رواه بلفظ: "فادعهم إلى أن يوحّدوا الله، فإذا عرفوا ذلك.." ومنهم من رواه بلفظ: "فادعهم إلى عبادة الله، فإذا عرفوا الله..". ووجه الجمع بينها: أن المراد بالعبادة التوحيد، والمراد بالتوحيد الإقرار بالشهادتين، والإشارة بقوله ذلك إلى التوحيد، وقوله: "فإذا عرفوا الله"، أي عرفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة الإقرار والطواعية، فبذلك يجمع بين هذه الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة، وبالله التوفيق". أهـ.

وهم قد أرادوا بقولهم: "العارف" أن يخصوه بمن له حسن معاملة مع الله تعالى ومزيد تعبّد وتعلق وعلم بالله تعالى، فيقولون: إن العارف هو العالم بالله، أما العالم فهو العالم بشرع الله. ولا يقصدون بذلك أن العالم بالشرع ليس عالمًا بالله تعالى، ولكن يقصدون أن من علماء الشريعة من ليس لهم كبير اهتمام بالعلم بالله تعالى وصفاته والتقرب إليه بخفي العبادة والمناجاة والأنس به والشوق إلى لقائه ونحو ذلك من أعمال القلوب الزاكية المزكية، وأنه يوجد من الناس من قلّ علمه بالعلم بتفاصيل العبادات والمعاملات في الشريعة لكنه قريب من الله بقلبه وقالبه دائم القنوت له والتقرب لمرضاته فسموه لذلك: العارف.

ولا منافاة في الحقيقة في بينهما، فقد يفتح الله تعالى لعبده من هذا أو هذا، وقد يجمعها له، فأحق الناس بالعلم بالله هم العالمون بشرعه، فهم يأخذون علمهم من معدن الوحي الكتاب والسنة، وهما فقط سبيل العلم بالله تعالى، ومع كثرة طرق نصوص الوحي للقلب فإنها تثمر الإيمان وزيادته ويقينه وثماره وتزكيته وتلك هي عين مرادهم من المعرفة. ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن علم معروف الكرخي أجاب: "معه رأس العلم؛ خشية الله".

55.                    أي الهروي رحمه الله.

56.                    أي الإلحاح عليهم بقضاء حوائجه.

57.                    الإلحاف هو الإلحاح والإصرار والتقصّي في الطلب.

58.                    تمامه: إذا سافَهُ العَوْدُ النباطيّ جَرْجَرَا

واللاحب: هو الجادّة، أي الطريق الواضح الذي لحبته الحوافر حتى أثّرت فيه فاتضح للسائر، وهو فاعل بمعنى مفعول أي ملحوب. والمنار: علامات الطريق التي يضعها الناس، ومعنى سافَهُ: أي شمّه، والعَوْد: هو الجمل المُسِنّ، ولا زالت دارجة في إطلاقها على البشر، والأنثى عَوْدَة وهي فصيحة. والنَّباطي هو الضخم أو المنسوب للنبط وهم عجم الشام، وجرجر: رغا البعير وضجّ. والمراد: أي ليس له منارٌ يهتدي به، فليس فيه علم ولا منار.

59.                    وقد تترك الأسدُ البلادَ تنزُّهًا   ....  إذا ما كلابُ الحيّ لجَّ هريرُها

60.                    البخاري 2/153 ( 1474 ) ومسلم 3/96 ( 1040 ) ( 103 )

61.                    مسلم (1041)

62.                    البخاري 2/152 ( 1470 ) ومسلم 3/97 ( 1042 ) ( 107 )

63.                    البخاري (1470)

64.                    رجال الأنصار من أشجع الناس، وأكرم الناس، وأصدق الناس، وأطيب الناس، قال ابن عباس رضي الله عنهما في الأنصار رضي الله عنهم: "ما استلّت السيوف، ولا زحفت الزحوف، ولا أقيمت الصفوف، حتى أسلم ابنا قَيْلَة". يعني الأوس والخزرج. ذكره في غرر الخصائص الواضحة (1 / 176).

والأوس والخزرج من بني عمرو بن عامر، من الأزد. وهم من وُصفوا بأنهم يكثُرون عند الفزع، ويقلّون عند الطمع. قال كعب بن زهير يمدحهم:

من سرَّه كَرَمُ الحياة فلا يزلْ ... في مِقْنَبٍ من صالحِ الأنصارِ

تَزِنُ الجِبالَ رَزانَةً أَحلامُهُم  ...  وَأَكُفُّهم خَلَفٌ مِنَ الأَمطارِ

الباذلين نفوسَهم لنبيّهم ... يوم الهياج وسطوةِ الجبّارِ

وَالناظِرينَ بِأَعيُنٍ مُحَمَرَّةٍ  ...  كَالجَمرِ غَيرِ كَليلَةِ الإِبصارِ

والمُكرِهينَ السَمهَرِيِّ بِأَذرُعٍ  ...  كَصَواقِلِ الهِندِيِّ غَيرِ قِصارِ

يتطهّرون كأنّه نسكٌ لهم ... بدماء من علقوا من الكفارِ

والذائدين الناس عن أديانهم  ...   بالمَشْرَفيّ وبالقَنا الخطّارِ

والباعثين نفوسهم لنبيّهم  ...  للموت يوم تعانقٍ وكرارِ

وإذا حللت ليمنعوك إليهمُ   ...  أصبحت عند معاقل الأعقارِ

وَهُم إِذا خَوَتِ النُجومُ فَإِنَّهُم ...  لِلطائِفينَ السائِلينَ مَقاري

وَهُمُ إِذا اِنقَلَبوا كَأَنَّ ثِيابَهُم  ...  مِنها تَضَوّعُ فَأرَة العَطّارِ

وَالمُطعِمَونَ الضَيفَ حينَ يَنوبُهُم ... مِن لَحمِ كومٍ كَالهِضابِ عِشارِ

وَالمُنعِمون المُفضِلونَ إِذا شَتَوا  ... وَالضارِبون عِلاوَةَ الجَبّارِ

ورثوا المكارم كابرًا عن كابرٍ   ...  إنّ الكرامَ همُ بنو الأخيارِ

والمشرفية: نسبة إلى مشارف من أرض العرب، والخطاّر: الرمح حين يهتز لارتفاعه وانخفاضه. والمعقل: الملجأ. والأعقار: الأسد. وفأرة العطار: حويصلة غزال المسك التي يستخرج منها المسك بعد خلطه بمواد أخرى.

65.                    البخاري 2/151 ( 1469 ) ومسلم 3/102 ( 1053 ) ( 124 )

66.                    البخاري 2/139 -140 ( 1429 ) ومسلم 3/94 ( 1033 ) ( 94 )

67.                    البخاري 2/152 ( 1472 ) ومسلم 3/94 ( 1035 ) ( 96 ) ومعنى يرْزأ: أي لم يأخذ من أحد شيئًا، وأصل الرزء: النقصان، أي: لم ينقص أحدًا شيئًا بالأخذ منه، وإشراف النفس: تطلّعها وطمعها بالشيء. وسخاوة النفس: أي عدم الإشراف إلى الشيء والطمع فيه والمبالاة به والشَّرَه.

68.                    مسلم 3/97 ( 1043 ) ( 108 )

69.                    الترمذي ( 681 ) وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني.

70.                    أحمد (22405) وصححه محققوه.

71.                    أي أسرع له.

72.                    أبو داود ( 1645 ) ، والترمذي ( 2326 ) وقال:  حديث حسن صحيح غريب. وأحمد (3869) وحسنه محققوه.

73.                    صحيفة المتلمس: لها قصة مشهورة عند العرب، والمُتَلَمِّس شاعر جاهلي، كان قدم هو وطرفة ابن العبد الشاعر على الملك عمرو بن المنذر، فأقاما عنده، فنقم عليهما أمرًا إذ هجاه طرفه، فكتب لهما كتابين إلى عامله بهجر، يأمره بقتهلما، وقال لهما: إني قد كتبت لكما بصلة، فاجتازوا بالحيرة، فأعطى المتلمّس صحيفته صبيًّا فقرأها فإذا فيها يأمر عامله بقتله، فألقاها في الماء، وذهب وقال لطرفه: افعل مثل فعلي؛ فإن صحيفتك مثل صحيفتي، فأبي عليه، ومضى بها إلى عامل الملك، فأمضى فيه حكمه وقتله. وانظر خبرهما مفصلًا في: وقد يجمع الله الشتيتين.

74.                    قوله: "ما يغديه وما يعشيه" قال البغوي في شرح السنة (6/86): قال بعضهم: من وجد غداء يومه وعشاءه لم تحلّ له المسألة، على ظاهر الحديث، وقال بعضهم: إنّما هو فيمن وجد غداءه وعشاءه على دائم الأوقات، وقال بعضهم: هذا منسوخ بأحاديث كحديث ابن مسعود عند أحمد (3675) وحسنه محققوه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله ما يغنيه؛ جاءت يوم القيامة خدوشًا، أو كدوشًا في وجهه"، قالوا: يا رسول الله، وما غناه؟ قال: "خمسون درهمًا، أو حسابها من الذهب".

75.                    أحمد (7635) وصححه محققوه، وأبو داود (1629) وصححه الألباني، وعند أحمد أن الذي ذكر صحيفة المتلمس هو الأقرع.

76.                    أي تحمّل دَينًا في سبيل الإصلاح بين المتخاصمين، ديةً أو سِوَاها.

77.                    أي من ذوي الألباب ممن عُرفوا برجاحة العقول من قومه العارفين بشأنه.

78.                    مسلم 3/98 ( 1044 ) ( 109 )

79.                    أبو داود (1630) وحسنه الألباني. ومعنى ألحف: ألحّ وأسرف من غير ضرورة.

80.                    أحمد (17936) وصححه محققوه.

81.                    قال في كشف الخفاء (1 / 246): "رواه الطبراني وأبو الشيخ والقضاعي عن عائشة مرفوعًا". وقال الحافظ في الفتح (11 / 95): "بسند رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة بقيّة عن عائشة مرفوعًا".أهـ. وقد قالوا: عنعة بقيّة غير نقيّة! وحكم عليه الألباني في إرواء الغليل (3 / 143) (161) بالوضع. والمؤلف لم يرفعه بل ذكره أثرًا، ومعناه صحيح.

82.                    أحمد (2/442) والبخاري في الأدب المفرد (658) والترمذي (5 / 456) (3373) وحسنه الألباني.

83.                    أي أن يَغِيبَ أو يضعف شهودُ معيّة الله ومناجاته وقربه عن قلبه بسبب انسداده بشرهه لدَرك حاجته الدنيوية.

84.                    فوسيلته أحب إليه وألذّ وأنفع وأطيب من غايته، كما قيل: "يا ابن آدم، لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك". وقيل: "يا ابن آدم، البلاء يجمع بينك وبين الله، والعافية تجمع بينك وبين نفسك". وقيل: "كلّ كسرٍ ألجأك إلى الله فهو جبر وإن أوجعك". فالرجوع بالقلب إلى الله إقبالًا على مرضاته هو الهدف، (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) وكل نعمة لا تقربك إلى الله فهي نقمة، وكل مصيبة قربتك إلى الله فهي نعمة، ومن استشعر موازين الآخرة تغيّرت نظرته للنعم والمصائب.

85.                    أي دعاءه.

86.                    الدعاء للطبراني (٨٧) والمعجم الأوسط (٨٤٤٢) بنحوه. وضعفه الألباني في السلسلة (5 / 321) (2296)

87.                    الترمذي (5 / 462) (3382) وحسنه الألباني.

88.                    الترمذي (2252) وحسنه الألباني في المشكاة وضعفه في الجامع. وقال الحافظ ابن حجر في الزوائد: (305): "إسناده حسن". وصوّب أيمن صالح شعبان في تخريج جامع الأصول (4 / 166) إرساله. وقد جاء بنحوه عند أبي يعلى (3403) بدون ذكر الملح، وقال عنه حسين سليم أسد: إسناده صحيح، على شرط مسلم، وكذلك صححه سليمان آل الشيخ في تيسير العزيز الحميد (1 / 184)

89.                    الترمذي (3 / 177) (2813) وصححه الألباني.

90.                    الإلحاح بالدعاء عبادة، والعبادة وسيلة الرضا، فالإلحاح إلى الله تعالى بدعائه هو من وسائل الرضا وأسبابه.

91.                    مدارج السالكين (2 / 205 - 240) باختصار.

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق