إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

ثمارُ الرّضا بالله تعالى

 

ثمارُ الرّضا بالله تعالى

 

الحمد لله، وبعد؛ فإن الإسلام تسليمٌ واستسلام، وهذا محض الرضا، فهو استسلامُ المتوكلين على ربهم قبل نزول القضاء، وإسلامُ الأمر والقلب لله بعد نزوله، وإسلام الوجه لله إخلاصًا لكل عبادة وقصد، وإسلام الاتّباع لرسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه عند كل حركة وسكون.

وإنّ ثمرة الرضا مباركة طيّبة، وكيف لا تكون كذلك وهي استناد إلى ركن سعادة الدنيا والآخرة، وهي الثقةُ بتدبير الحيّ القيوم البرّ اللطيف، وانغماسٌ في بحر الطمأنينة لتدبير العليم القدير الحكيم الرحيم، وارتواء بالفرح والغبطة والسرور بالله تبارك وتعالى.

فيا صاحبي؛ تأمّل ما عندك لا ما ليس عندك، فإنّ ما عندك من جود ربك الوهاب الكريم، وما ليس عندك فهو من حكمة ربك اللطيف الرحيم. وكن من أهل الحياة الطيبة (فلنحيينه حياة طيبة) وهي الإيمان والقناعة، وقد مات حبيبك صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة. ففوّض أمرك إلى من بيده مقاليد الأمور وأعِنَّةِ النواصي ومفاتح الأرزاق، واعلم أنّه أرحم وأعلم وألطف وأرفق وأحكم بك من نفسك.

وإذا البشائر لم تحِن أوقاتُها  ...  فلِحكمةٍ عند الإله تأخرتْ

سيسوقها في حينها فاصبر لها   ...  ‏حتى وإن ضاقت عليك وأقفرتْ

وغدًا سيجري دمع عينك فرحةً  ...  ‏وترى السحائب بالأماني أمطرت

وترى ظروف الأمس صارت بلسمًا  ...  وهي التي أعيتْك حين تعسّرتْ

وتقولُ سبحان الذي رفع البلا  ...  ‏مِن بعد أن فُقد الرجاء تيسرتْ

والمؤمن الصالح راضٍ ومرضيٌّ عنه حال رحيله لربه تعالى، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه». قالت عائشة- أو بعض أزواجه-: إنا لنكره الموت. قال: «ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحبّ إليه مما أمامه، فأحبّ لقاء الله، وأحبّ الله لقاءه. وإن الكافر إذا حُضِرَ بُشّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه». (1) قال ابن القيم رحمه الله: "ثمرة الرضا: الفرحُ والسرور بالرب تبارك وتعالى". (2)

وما لي من عبدٍ ولا من وليدةٍ   ...   وإنّي لفي فضلٍ من الله واسعُ

هذا وإن الرضا بالله تعالى يورث الشوق العظيم إليه، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر؛ فقال: «إنّ عبدًا خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده؛ فاختار ما عنده»، فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فعجبنا له. وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخَيَّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أَمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر، إلا خُلّة الإسلام، لا يبقينّ في المسجد خَوْخَة (3) إلا خوخة أبي بكر". (4) وحُقَّ للصديق ذلك رضي الله عنه وأرضاه.

أَلا يا صَبا نَجدٍ مَتَى هِجتَ مِن نَجدِ  ...  لَقَد زَادَنِى مَسرَاكَ وَجدًا عَلَى وَجدِى

أَإنْ هَتَفَت وَرقَاءُ فِي رَونَقِ الضُّحَى   ...   عَلَى فَنَنِ غَضِّ النَّباتِ مِنَ الرَّندِ

بَكيتَ كَما يَبكِى الوَليدُ وَلَم تَكُن  ...  جَلِيدًا وَاَبدَيتَ الَّذِى لَم تَكُن تُبدِى

وَحَنَّت قَلُوصِي مِن عَدَانَ إِلى نَجدِ  ...  وَلَم يُنسِهَا أَوطَانَهَا قِدَمُ العَهدِ

وقَدْ زَعَمُوا أنَّ المُحِبَّ إذاَ دَنا … يَمَلُّ وأنَّ النَّأْيَ يَشْفِي مِنَ الوَجْدِ
بِكُلٍّ تَداوَيْنا فَلَمْ يُشْفَ ما بَناعَلى أنَّ قُرْبِ الدّارِ خَيْرٌ مِنَ البُعْدِ

هذا، وإنّ من ثمار الرضا الطيبة أنّ الرضا بقضاء الله تعالى عند فقد الأحبة كالولد سبب لدخول الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار: «لا يموت لإحداكنّ ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلتِ الجنة». فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: «أو اثنين». (5)

والاسترجاع مع الرضا مؤذنٌ بخلفٍ طيّب، فعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها. إلا أخلف الله له خيرًا منها». (6)

ومن حمد الله تعالى واسترجع عند المصيبة فهو موعود ببيت في الجنة، وإذا بنى الله لعبد بيتًا أسكنه إياه، ولا حَمْدَ ولا استرجاعَ إلا على متنِ الرضا، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد». (7)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّةُ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة». (8) والصفيُّ هو الحبيب المُصافي سواء أكان قريبًا في النسب أم لا.

ومن ثمار الرضا بالله تعالى: أنها سببٌ لمحبة الله ورضاه وتجنب سخطه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أرضى الناس بالله، وأسرّ الناس بربه، وأفرحهم به تبارك وتعالى.

والرضا دليلٌ على كمال الإيمان وحسن الإسلام، وحبل متين للفوز بالجنة والنجاة من النار، ومظهر من مظاهر صلاح العبد وتقواه. وصاحبها موعود بالبشرى في الآخرة، وهي دليل حسن ظن العبد بربه، وطريق إلى الفوز برضوان الله تعالى، فالرضا يثمر رضا الرب عن عبده، فإن الله عز وجل شكور حميد، وإذا ألححتَ عليه وطلبتَه وتذلّلتَ إليه أقبل عليك وقرّبك.

 والرضا – فاعلم - يضفي على الإنسان المسلم راحة نفسية وسكينة روحية، ويجنّبه – بإذن الله - الأزمات النفسية من قلق زائد وتوتر وعجلة وانفعال وغضب، كما أنها طريق واضح إلى تحقيق السلام في مجتمعات الناس، فإن المجتمع مكون من لبنات أفراد، فإن استقاموا استقام.

كما أنّ الرضا يخلّص من الهمّ والغمّ والحزن وضيق الصدر ووحره وشتات القلب وكسف البال وسوء الحال، ولذلك فإن باب جنة الدنيا يفتَح بالرضا قبل جنة الآخرة؛ فالرضا يوجب طمأنينة القلب وراحته وبَرْده وسكونه وقراره، بعكس السخط الذي يؤدي إلى اضطراب القلب وريبته وقلقه وانزعاجه وضيقه وعدم قراره.

فالرضا ينزِل على قلب العبد سكينةً لا تتنزّل عليه بغيره ولا أنفع له منها؛ ومتى ما نزلت على قلب العبد السكينة استقام وصلُحت أحواله وصلُح باله، وكان في أمنٍ ودَعَةٍ وطيبِ عيشٍ ورغد روح وسعادة حال. كما قيل: "من قرَّت عينه بالله تعالى؛ قرَّت به كل عين، ومن لم تقرَّ عينه بالله؛ تقطّعَ قلبُه على الدنيا حسَرات".

وقد تأملت سبب الهم والحزن في الدنيا فوجدته راجع لأحد أمور أربعة:

 الأول: أن المبتلى بذلك قد أعطى الأمر الذي أحزنه أو أهمّه أكبر من حجمه، مع أن الدنيا بأسرها لا تستحق ذلك، فهي تافهة لا تستحق تقطيب الجبين لأجلها، ولا زفرات الحزن لفقدها، ولا اللهث لتحصيل ترفها، وهي دار الأحزان والآفات ومجمع الهموم والنكبات لمن لم يصحبها بطاعة الله وذكره والفرح به واليقين به والرضا به وعنه، فعلام نعطيها أكبر من حجمها؟!

 فالعاقل من وضعها حيث وضعها الله تعالى، ولم يرفعها فوق همّته لآخرته وعقباه، ولم يزاحمها بها همًّا وإرادة واشتغالًا، فهي دار ممرّ ومعبر لا بقاء ومقرّ، فنحن – وإن حزنّا لأجلها لضعفنا أحيانًا – فينبغي أن يكون حزنًا عارضًا سريع الزوال، مشفوعًا ممزوجًا بالرضا بالقضاء واليقين بحكمة الله وعلمه ولطفه ورحمته، والفرح بالله تعالى الذي إن حصل فكل ما سواه زائل.

الثاني: قد يكون ذلك بسبب تقصير العبد في أمر الله تعالى، وتساهله في مناهيه، فقد يكون مقصّرًا في ذكر ربه، ومن أعظم الذكر الصلاة، قال سبحانه: (وأقم الصلاة لذكري)، ومن أعرض عن الصلاة وقصّر فيها فلا يستغرب ضنك عيشه وضيق نفسه وكدر حاله، قال سبحانه: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا). فليراجع نفسه من قريب، وليتب إلى الله تعالى من فوره، وليعلم أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده وأوبته بعد حوبته وقربه وازدلافه بعد بُعده واستيحاشه، وهذا الألم النفسي من حزن على الماضي أو همّ بحاضر ومستقبل هو من سياط تأديب العبد الآبق من سيده الرحيم المحب اللطيف الرفيق إلى حبائل عدوه الماكر المبغض الكاره، فيأذن الحكيم تعالى بدخول الألم قلبَ عبده لينفض عن قلبه غين الغفلة ويقشع عن بصيرته غيم الذنوب ويجلو عن نفسه وعقله وروحه وصحيفته كدر الأوزار ووسخ الخطايا وقتر الغفلات! فحينها ينتبه العبد فيرجع إلى كنف مولاه ورحمة سيده ولطف إلهه سبحانه وبحمده وهو الحكيم اللطيف الخبير.

 الثالث: قد يكون الهم والحزن لطف من الله محض للعبد كيما يرفع به درجته في المهديين المرضيين، فقد قال الرحمة المهداة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: "ما يصيب المسلم من نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه". (9) لذا فقد يكون الابتلاء - ومنه الهمّ والحزن - مُسَبًّبا على ذنب سابق، وقد يكون لمحض الرحمة والفضل، فحتى أكمل الخلائق صلى الله عليه وسلم لم يسلم من ذلك ليرفع الله تعالى درجته ويجزل مثوبته.

الرابع: الحزن لأجل دين الله تعالى، إما لفوات طاعة أو وقوع في خطيئة أو تألم وتوجّع لحال المسلمين المكلومين، وهو حزن الصالحين، وفيه تفصيل، وسيأتي بسطه قريبًا إن شاء الله تعالى، وعليه التكلان وإليه المرجع والمآب.

هذا وإنّ "الرضا يخلّص العبد من مخاصمة الرب في الشرائع والأحكام والأقضية والمقادير، فإبليس مثلًا لما أُمِر بالسجود أبى(10) لم يرضَ، كيف أسجد لبشرٍ خلقتَه من ترابٍ؟ فعدم الرضا من إبليس أدّى إلى اعتراضٍ على أمر الله. فإذًا منافقو عصرنا الذين لا يرضون بحكم الله في الربا والحجاب وتعدّد الزوجات في كل مقالاتهم في مخاصمةٍ مع الرب سبحانه لماذا؟ لأنّ كلامهم يدور على مخاصمة الرب في شرعه و إن لم يصرّحوا بهذا. فالرضا يخلّص الإنسان من هذه المخاصمة. (11)

 والرضا من العدل، إذ الرضا يُشْعِر العبد بعدل الرب، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: "عدلٌ فيَّ قضاؤك".(12) والذي لا يشعر بعدل الرب فهو جائرٌ ظالمٌ، فالله أعدل العادلين حتى في العقوبات. فقطع يد السارق عقوبةٌ، فالله عدَل في قضائه وعقوباته، فلا يُعْتَرض عليه لا في قضائه ولا في عقوباته.

وعدم الرضا راجع إلى فواتِ شيءٍ أخطأك وأنت تحبّه وتريده، أو لشيءٍ أصابك وأنت تكرهه وتسخطه. فيحصل للشخص الذي ليس عنده رضًا قلقٌ واضطرابٌ إذا نزل به ما يكره أو فاته ما يحب فيصيبه الشقاء النفسي، أما إن كان راضيًا فلو نزل به ما يكره أو فاته ما يحب فلا يشقى ولا يتألّم؛ لأنّ الرضا يمنع عنه هذا الألم، فلا هو يأسى على ما فاته و لا يفرح بما أوتي، ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم )، لأنه مقدّرٌ مكتوبٌ.

والرضا يفتح باب السلامة من الغشّ والحقد والحسد؛ لأن المرء إذا لم يرضَ بقسمة الله سيبقى ينظر إلى فلانٍ وفلانٍ، فتبقى دائمًا عينه ضيقةٌ وحاسدٌ ومتمنٍّ زوال النعمة عن الآخرين. والسخط يدخل هذه الأشياء في قلب صاحبه. (13)

والرضا يجعلك لا تشكّ في قضاء الله وقدَره وحكمته وعلمه ورحمته وعدله، فتكون مستسلمًا لأمره معتقدًا أنه حكيمٌ مهما حصل. لكن الإنسان الساخط يشكّ ويوسوس له الشيطان: ما الحكمة هنا وهنا؟! ولذلك فالرضا واليقين أخوان مصطحبان، والسخط والشكّ توأمان متلاصقان.

 وإنّ من أهم ثمرات الرضا: أنّه يثمر الشكر، فصاحب السخط لا يشكر. فهو يشعر أنه مغبونٌ وحقّه منقوصٌ وحظّه مبخوسٌ، لأنه يرى أنه لا نعمة لديه أصلًا! فالسخط نتيجة كفران المنعم والنعم، والرضا نتيجة شكران المنعم والنعم.

والرضا يجعل الإنسان لا يقول إلا ما يُرضي الرب، والسخط يجعل الإنسان يتكلّم بما فيه اعتراضٌ على الرب، وربما يكون فيه قدحٌ في الرب عز وجل.

وصاحب الرضا متجرّدٌ عن الهوى، وصاحب السخط متّبعٌ للهوى. ولا يجتمع الرضا واتباع الهوى، لذلك الرضا بالله وعن الله يطرد الهوى بإذن الله.

وصاحب الرضا واقفٌ مع اختيار الله، يحسّ أن عنده كنزٌ إذا رضي الله عنه أكبر من الجنة، لأن الله عندما ذكر نعيم الجنة قال: ( و رضوانٌ من الله أكبر)، فرضا الله إذا حصل فهو أكبر من الجنة وما فيها. والرضا صفة الله، والجنة مخلوقةٌ. وصفة الله أكبر من مخلوقاته كلها. ( وعد الله المؤمنين و المؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و مساكنَ طيبةً في جناتِ عدْنٍ و رضوانٌ من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ). فرضا الله أكبر من الجنة.

والرضا يخلّص العبد من سخط الناس، لأن الله إذا رضي عن العبد أرضى عنه الناس، والعبد إذا سعى في مرضاة الله لا يبالي بكلام الناس. أما إذا سعى في مرضاة الناس فسيجد نفسه متعبًا؛ لأنه لن يستطيع إرضاءهم فيعيش في شقاءٍ. أما من يسعى لرضا الله فلا يحسب لكلام الناس أي حسابٍ ولن يتعبَ نفسيًّا. ولو وصل إليه كلام الناس فلن يؤذيَه نفسيًّا، ولن يبالي ما دام الله راضيًا عنه. (14)

والله يعطي الراضي عنه أشياءَ لم يسألها، ولا تكون عطايا الله نتيجة الدعاء فقط ما دام في مصلحته. (15)

والرضا يفرّغ قلب العبد للعبادة، فهو في صلاته خالٍ قلبُه من الوساوس، (16) في الطاعة غير مشتّت الذهن،(17) فيستفيد من العبادة. فالرضا يركّز ويصفّي الذهن فينتفع صاحبه بالعبادة.

والرضا له شأنٌ عجيبٌ مع بقية أعمال القلوب الصالحة، فأجره لا ينقطع وليس له حدٌّ، بخلاف أعمال الجوارح، فأجرها له حدٌّ تنتهي بمدّةٍ معينةٍ. فعمل الجوارح محدودٌ، لكن عمل القلب غير محدودٍ. فأعمال الجوارح تتضاعف على حدٍّ معلومٍ محسوبٍ، أما أعمال القلوب فلا ينتهي تضعيفها وإن غابت عن بال صاحبها. كيف؟

إنسانٌ راضٍ يفكّر بذهنه وقلبه أنه راضٍ عن الله وعن قضائه، عرضت له مسألةٌ حسابيّةٌ فانشغل ذهنه بها. العلماء يقولون: أجرُ الرضا لا ينقطع وإن شُغِل الذهن بشيءٍ ثانٍ؛ لأن أصله موجودٌ حتى ولو انشغل القلب بشيءٍ ثانٍ الآن.

إنسانٌ يخاف الله، أحيانًا يحصل له بكاءٌ ووجلٌ نتيجة هذا الخوف، لو انشغل باله مع ولده يضمّد جراح ولده ونسي موضوع التأمل في الخوف وما يوجب البكاء والخشية فلا زال أجره على الخوف مستمرًّا؛ لأنه عملٌ قلبيٌّ مركوزٌ في الداخل لم ينتهِ أجره، بل هو مستمرٌّ. وهذا من عجائب أعمال القلوب. وهذا يمكن أن يوضِّح لماذا أجر أعمال القلوب أكثر من أجر أعمال الجوارح، مع أنه لا بد من أعمال الجوارح طبعًا، لأنه إذا لم يكن هناك أعمال جوارح فالقلب خَرِبٌ". (18)

ومن لطائف حكمة الله تعالى ما ذكره الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري عن شاب من أهل أبها: أنه ابتعث إلى ألمانيا للدراسة، ولما أقبلت الاختبارات النهائية أراد الاختلاء بدروسه في جزيرة، فذهب قبل الاختبار بيوم وحجز تذكرة على العبّارة، ووضع عفشه في العبارة، ثم خرج يتنزه حولها حتى يحين الانطلاق. فرأى زهرة فقطفها، فأخذته الشرطة وحبسته ليلة، ولم تطلقه إلا بعد ظهر اليوم التالي وقد فاته الاختبار!

 فلما خرج ذهب للعبارة ليأخذ كتبه وشنطته فإذا شاطئ البحيرة كله مأتم؛ إذ غرقت العبارة ومات كل ركابها وأعلنوا أنه لم ينج منهم أحد، ولكن للقدر قول آخر بأمر ربه، إذ سلّم الله ذلك الشاب الذي حبسه عنها رحمة به. قال الإمام أحمد: "القدر سرُّ الله في خلقه".

ومن ثمار الرضا بالله تعالى أنه وسيلة لدفع البلاء ورفعه، فعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى عمر رضي الله عنه غضبه قال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا. نعوذ بالله من غضب الله، وغضب رسوله. فجعل عمر رضي الله عنه يردّد هذا الكلام حتى سكن غضبُه، فقال عمر: يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: "لا صام ولا أفطر؟". (19) أو قال: "لم يصم ولم يفطر". قال: كيف من يصوم يومين ويفطر يومًا؟ قال: "ويطيق ذلك أحد؟". قال: كيف من يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: "ذاك صوم داود عليه السلام". قال: كيف من يصوم يومًا ويفطر يومين؟ قال: "وددت أني طُوِّقتُ ذلك". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله. صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده. وصيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله». (20)

إنَّ مِن أعظم ثمار الرضا ذلكم النعيم الروحي والسكينة القلبية والطمأنينة النفسية للراضي بربه تعالى. ومن جميل كلام الشيخ سعود الشريم: "إنّ الطمأنينة والاستقرارَ النفسي مطلب البشر قاطبةً وإن اختلفوا في تحديد معاييرها وسبُل الوصول إليها، وربما ضاقت بعض النفوس عطَنًا في نظرتها لمثلِ هذا المعنى الرفيع، فحصرته كامنًا في المال وتحصيله، ونفوسٌ أخرى حصرته في الجاه والمنصب، ونفوسٌ غيرها حصرته في الأهل والولد. وهذه المفاهيم وإن كانت لها حظوة في معترك الحياة الدنيا، إلا أنها مسألةٌ نسبيّة في الأفراد ووَقتيّة في الزمن، والواقع المشاهَد أن الأمر خلافُ ذلكم، فكم من غنيّ لم يفارق الشقاء جنبيه، ولم يجد في المال معنى الغنى الحقيقي؛ إذ كم من غنيٍّ يجد وكأنّه لم يجد إلا عكسَ ما كان يجد، وكم من صاحب جاهٍ ومنزلة رفيعة لم يذق طعم الأنس والاستقرار في وردٍ ولا صدر، ولا لاح له طيفُه يومًا ما، وكم من صاحب أهلٍ وولدٍ يتقلّب على رمضاءِ الحزن والقلق والاضطراب النفسيّ وعدم الرضا بالحال، بينما نجد في واقع الحال شخصًا لم يحظَ بشيء من ذلكم البتةَ؛ لا مال ولا جاهٍ ولا أهل ولا ولد، غيرَ أن صدرَه أوسع من الأرض برمّتها، وأنسَه أبلغُ من شقاء أهلها، وطمأنينَتَه أبلجُ من قلقهم واضطرابهم، لماذا؟

 لأنّ تلكم الأصناف قد تباينت في تعاملها مع نعمة كبرى ينعم الله بها على عبده المؤمن، نعمةٍ إذا وقعت في قلب العبد المؤمن أرته الدنيا واسعةً رحبة ولو كان في جوف حجرةٍ ذرعُها ستة أذرعٍ، ولو نزِعت من قلب العبد لضاقت عليه الواسعة بما رَحُبت ولو كان يتقلّب بجنبيه في حجر القصور والدور الفارهة.

إنها نعمةُ الرضا، نعم نعمة الرضا، ذلكم السلاح الفتّاك الذي يقضي بحدّه على الأغوال الهائلة التي ترعب النفسَ فتضرب أمانها واطمئنانَها بسلاح ضعف اليقين والإيمان؛ لأن من آمن عرف طريقَه، ومن عرف طريقه رضي به وسلكه أحسنَ مسلكٍ ليبلغَ ويصل، لا يبالي ما يعرض له؛ لأن بصرَه وفكره متعلقان بما هو أسمى وأنقى من هذه الحظوظ الدنيوية. ولا غروَ أن يصل مثل هذا سريعًا؛ لأنّ المتلفِّت لا يصل ولا يُرجى منه الوصول، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا". (21) وقال: "من قال: رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد رسولًا؛ وجبت له الجنّة". (22)

إنّ للرضا حلاوةً تفوق كلَّ حلاوة، وعذوبةً دونها كلُّ عذوبةٍ، وله من المذاق النفسي والروحيِّ والقلبيّ ما يفوق مذاقَ اللسان مع الشهد المكرَّر. فهذان الحديثان عليهما مدار السعادة والطمأنينة، وباستحضارهما ذكرًا وعملًا تتمكّن النفس من خوض عُباب الحياة، مهما خالط ذلك من مشاقٍّ وعنت؛ لأن الحديثين قد تضمّنا الرضا بربوبيّة الله سبحانه وألوهيته والرضا برسوله والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له، فأخلِق بمن جمع هذه الدعاماتِ الثلاثة في قلبه أن يحيا هنيًّا ويعيشَ رضيًّا؛ لأن هذه الدعامات مقاصد مشروعةٌ مضادّة لما يخالفها من الهوى والشبهة والشهوة التي تعترض المرءَ ما دام حيًّا، وهي معه في سجال معتَرَكٍ بين الحقّ والباطل والزَّين والشَّين والرضا والسخط، ومن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السّخط، ولا يظلم ربّك أحدًا.

إنّ الأمة في هذا العصر الذي تموج فيه الفتن بعضها ببعض، وتتلاقح فيه الشرور والنكبات لهي أحوج ما تكون إلى إعلان الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد رسولًا.

 نعم، إنها أحوج ما تكون إلى إعلان ذلكم بلسانها وقلبها وجوارحها؛ لأن ما تعانيه الأمة المسلمة اليوم يصدق فيه قول الحسن البصري رحمه الله حينما سئل: من أين أتِي هذا الخَلْق؟ قال: "من قِلَّة الرضا عن الله"، قيل له: ومن أين أتي قلّة الرضا عن الله؟ قال: "من قلّة المعرفة بالله". ولا جرم أننا نسمع مثل هذا الإعلان على الألسنِ كثيرًا، بيدَ أن هذا ليس هو نهاية المطاف ولا غاية المقصد، بل إننا أحوج ما نكون إليه في الواقع العمليّ ليلامسَ شؤوننا المتنوّعة في المأكل والمشرب والملبس والعلم والعمل والحكم والاقتصاد والاجتماع والثقافة والإعلام وسائر نواحي الحياة". (23)

وإنّ من ثمار الرضا: نقاء الصحيفة من درن خطايا اللسان، وذلك بسلامة الكلام حتى على من مسّك أذاه، وهذا من جميل الرضا وهو من الحكمة أيضًا، فأكبر الخيبة وأعظم الغبن: أن تُهدي أغلى ما لديك أبغض من لديك. فهذه ثمرة الغِيبة!

وقد قيل: أحق الناس بالشفقة ‏رجلٌ نصب خيمته على رصيف السالكين، يمرّون خِفافًا إلى المعالي، ويُفني عمره وهو يصف أحوالهم وينتقد مسيرهم، ‏فيا ضيعة الأعمار راحت سبهللًا!

وبما أنّك لن تُرضي الناس – ولو حرصت – فاكتف بإرضاء رب الناس وهو من سيكفيك الناس سبحانه وبحمده. فارضَ بربّك، وارض بقسمه وقضائه، وثق بحكمته ورحمته، وقد أحسن ابن دريد في وصف خيبة من رام إرضاء الناس فقال:

وما أحدٌ من ألسنِ الناس سالمًا  ...  ولو أنّه ذاك النبيُّ المطهّرُ

فإن كان مقدامًا يقولون أهوجٌ (24)...  وإن كان مِفضاﻻً يقولون مُبذِرُ

وإن كان سِكّيتًا يقولون أبكمٌ   ...  وإن كان مِنْطيقًا يقولون مِهْذَرُ (25)

وإن كان صوّامًا وبالليل قائمًا  ...  يقولون زرّافٌ (26) يُرائي ويمكرُ

فلا تحتفل بالناس في الذمّ والثنا  ...  وﻻ تخش غير الله فالله أكبرُ

وللرضا ثمرات وثمرات جامعها الفوز والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.

يا مَن تَرَفَّعَ لِلدُنيا وَزينَتِها   ...   لَيسَ التَرَفُّعُ رَفعَ الطينِ بِالطينِ

إِذا أَرَدتَ شَريفَ القَومِ كُلّهم   ...  فَاِنظُر إِلى مَلِكٍ في زِيِّ مِسكينِ

لا تَخضَعَنَّ لِمَخلوقٍ عَلى طَمَع  ...  فَإِنَّ ذَلِكَ وَهنٌ مِنكَ في الدينِ

وَاِسترزق اللَه مِمّا في خَزائِنِه  ... فَإِنَّ ذاكَ له بالكافِ وَالنونِ

أَلا تَرى كُلَّ مَن تَرجو وَتَأملُه  ... مِنَ البَرِيَّةِ مسكينَ اِبنَ مِسكينِ

أَرى أُناسًا بِأَدنى الدينِ قَد قَنِعوا  ...  وَلا أَراهُمُ رَضوا في العَيشِ بِالدونِ

فَاِستَغنِ بِالدينِ عَن دُنيا المُلوكِ كَما  ...  اِستَغنى المُلوكُ بِدُنياهُم عَن الدينِ

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

.....................................................

1.    البخاري، الفتح 11 (6507)، ومسلم (2683)

2.    المدارج (٢ ‏/ ١٧٣)

3.    الخوخة: هي الباب الصغير بين البيتين أو الدارين.

4.    البخاري، الفتح 7 (3904) واللفظ له، ومسلم (2382)

5.    البخاري، الفتح 3 (1249)، ومسلم (2632) واللفظ له.

6.    مسلم (918)

7.    الترمذي (1021) وحسن إسناده الألباني.

8.    البخاري، الفتح 11 (6424)

9.    البخاري 7/148 ( 5641 ) ومسلم 8/16 ( 2573 ) والنصب هو التعب والمشقة، أما النّصب فهو المرض. قال العثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين 1/109) معلقًا على هذا الحديث المبشّر العظيم: "المصائب تكون على وجهين: فتارة إذا أصيب الإنسان تذكر الأجر واحتسب هذه المصيبة على الله فيكون فيها فائدتان: تكفير الذنوب، وزيادة الحسنات. وتارة يغفل عن هذا فيضيق صدره، ويغفل عن نيّة الاحتساب والأجر على الله، فيكون في ذلك تكفير لسيئاته، إذًا هو رابح على كل حال في هذه المصائب التي تأتيه.

فإما أن يربح تكفير السيئات وحط الذنوب بدون أن يحصل له أجر لأنه لم ينو شيئًا ولم يصبر ولم يحتسب الأجر، وإما أن يربح شيئين كما تقدم. ولهذا ينبغي للإنسان إذا أصيب ولو بشوكة، فليتذكر الاحتساب من الله على هذه المصيبة".

10.                    وصف الله تعالى معصية آدم بالعصيان (وعصى آدم ربه فغوى) لأنها نتاج الضعف البشري الغريزي أمام سلطان الشهوة، لذلك كان قريب الفيئة سريع التوبة من الحوبة، أما إبليس فوصفه بقوله: (إلا إبليس أبى) لأن سبب معصيته هو الكبر، فسُلب النعمة وباء بالخيبة ورمي بالخذلان وعوقب بالطرد وسيم باللعنة.

11.                    روى مسلم (8/52) عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: جاء مُشركو قُريشٍ يُخاصِمونَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم في الْقَدَرِ، فنزلت: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النَّارِ على وُجوِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ، إنا كلَّ شيءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). قال ابن القيم رحمه الله: "والمخاصمون في القدر نوعان:

أحدهما: من يُبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره، كالذين قالوا: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا). والثاني: من يُنكر قضاءه وقدره السابق. والطائفتان خصماءُ الله، قال عوف: "من كذّب بالقدر فقد كذّب بالإسلام، إن الله تبارك وتعالى قدّر أقدارًا، وخلق الخلق بقدَر، وقسم الآجال بقدَر، وقسم الأرزاق بقدَر، وقسم البلاء بقدَر، وقسم العافية بقدَر، وأمر ونهى".

وقال الإمام أحمد: "القَدَرُ قُدرة الله" واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدًّا، وقال: هذا يدل على دقّة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين. وهو كما قال أبو الوفاء، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها. وسلف القدرية كانوا ينكرون علمه بها، وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم". شفاء العليل (1 / 28)

12.                    أحمد (3712) وضعفه الأرناؤوط. وصححه الألباني في الصحيحة (199) وقد مرّ تفصيل ذلك، وأنه بناء على اختلافهم في تعيين الراوي الجهني.

13.                    من أصناف الناس نوعٌ ثقيل الروح، سامٌّ الأنفاس، قد كثفت دغائل نفوسهم كأنما قُدُّوا من أحجار النار، ولا أدري كيف يتنفسون الهواء بقلوب سوداء كالحٌ حقدها والغٌ ضغنها، وكيف يمشون على أقدام تحمل كل هذا الثقل من الغل والحقد. فلم يرضوا بقضاء الله لهم ولا بقضائه لغيرهم (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)، نعوذ بالله من الخسار والتباب، فلا تكن – حرسك الله – ممن اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، ولا ممن رضوا حطام الفانية، وتفكر – ويدك على قلبك- في حال من خسر صفقة دينه وإيمانه، فاشترى حفرة الجحيم بإنفاذِ غيظٍ غشومٍ لتصديقِ بهتانِ نفسٍ ظلوم، فعاد أخسر من سَلْم الخاسر الذي باع مصحفًا واشترى بثمنه طنبورًا! وأغبن صفقة من أبي غبشان الذي باع مفتاح الكعبة بزِقّ خمر! فإن مررت بناديهم فاضرع لربك حامدًا مبتهلًا شاكرًا: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاهم به، وفضّلني على كثير ممن خلق تفضيلًا.

14.                    قال تعالى: (لن يضروكم إلا أذى) فهو مجرد أذى نفسي لا ضرر حقيقي، وقال سبحانه: (وإن تتقوا وتصبروا لا يضركم كيدهم شيئا) فلا ضرر على المؤمن ما دام متّقيًا صابرًا.

فليتك تحلو والحياة مريرةٌ   ...  وليتكَ ترضى والأنام غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ   ...   وبيني وبين العالمين خرابُ

إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هيّنٌ   ...   وكلُّ الذي فوق التراب ترابُ

15.                    فالله طبيب عبده ووليّه وربّه، يسدي له الخير ويلطف به ويرفق به ويرحمه شَعَر العبد أم لم يشعر، ويوصل الخير إليه من طرق أكثرها خفيّ، وهو يوالي عليه هذه النعماء شَكَرَ العبد أم قصّر، عَلِمَ أم جَهِل. ومتى استشعر المؤمن هذه المعاني الهائلة التي تتقاصر دونها تعابير الخلائق؛ امتلأ قلبه بحبّ الله ربّه، وتهلّلت روحه فرحًا واستبشارًا بإلهها ومعبودها، وأشرقت أرجاؤه سرورًا واغتباطًا بسيدها البر الرحيم.

16.                    وهذا من أعظم ثمرات الرضا بالقضاء، فالعبد متوكل على الله قبل نزول القضاء، راضٍ به بعد نزوله. فأطيب الناس عيشًا المتوكّلون الرّاضون.

17.                    فعلام يتشتّت الذهن وصاحبه قد فوّض كل أمره لمن بيده مقاليد الأمور وإليه يرجع الأمر كله، وهو أرحم بالعبد من والدته ومن نفسه، وكيف لا يطمئن لمن لا يأت الخير إلا من قِبَلِه عز وجل.

18.                    سلسلة أعمال القلوب، محمد المنجد (31-32) بتصرف.

19.                    أي لم يحظ بأجر الصيام لأنه على غير سنّة، ولم يحظ بترف الفطر وراحته.

وفي الديباج على مسلم (3 / 246): "قال العلماء: سبب غضبه أنه كره مسألته لأنّ حاله لا يناسب حال النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم، فكان حقّه أن يقول: كيف أصوم؟ ليجيبه بما هو مقتضى حاله، كما أجاب غيره. وقيل: لأن فيه إظهار عمل السرّ. وقوله: "لا صام ولا أفطر" نفى الأول شرعًا والثاني حسًّا. وقوله: "وددت أني طوّقت ذلك" أي: أُقدرتُ عليه. قال القرطبي: يشكل مع وصاله وقوله: "إني أبيت أُطعم وأُسقَى" قال: ويرتفع الإشكال بأنّ هذا كان منه صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، ففي وقت يواصل الأيام بحكم القوة الإلهية، وفي آخره يضعف فيقول هذا بحكم الطباع البشرية. قال: ويمكن أن يقال: تمنّى ذلك دائمًا بحيث لا يخلّ بحقّ من الحقوق التي يخلّ بها من أدام صومه من القيام بحقوق الزوجات واستيفاء القوّة على الجهاد وأعمال الطاعات".

وقال الصنعاني في سبل السلام (2 / 172): "قال ابن العربي: إن كان معناه الدعاء فياويح من أصابه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم! وإن كان معناه الخبر فيا ويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم! وإذا لم يصم شرعًا؛ فكيف يكتب له ثواب؟

وقد اختلف العلماء في صيام الأبد، فقال بتحريمه طائفة وهو اختيار ابن خزيمة لهذا الحديث وما في معناه، وذهب طائفة إلى جوازه وهو اختيار ابن المنذر، وتأولوا أحاديث النهي عن صيام الدهر بأنّ المراد: مَن صامه مع الأيام المنهي عنها من العيدين وأيام التشريق، وهو تأويل مردود بنهيه صلى الله عليه وسلم لابن عمرو عن صوم الدهر وتعليله بأنّ لنفسه عليه حقًّا ولأهله حقًّا ولضيفه حقًّا، ولقوله: "أمّا أنا فأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنّتي فليس مني" فالتحريم هو الأوجه دليلًا، ومِن أدلته ما أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة من حديث أبي موسى مرفوعًا: "من صام الدهر ضيّقت عليه جهنم" وعَقَدَ بيده. قال الجمهور: ويستحب صوم الدهر لمن لا يُضعفه عن حقّ، وتأوّلوا أحاديث النهي تأويلًا غير راجح، واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم شبّه صوم ست من شوال مع رمضان وشبّه صوم ثلاثة أيام من كل شهر بصوم الدهر، فلولا أن صاحبه يستحق الثواب لما شبّه به. وأجيب بأنّ ذلك على تقدير مشروعيته، فإنّها تُغني عنه كما أغنت الخمس الصلوات عن الخمسين التي قد كانت فرضت، مع أنّه لو صلاها أحد لوجوبها لم يستحق ثوابًا بل يستحق العقاب". وقيل غير ذلك. وانظر كلام الخطابي في غريب الحديث (1 / 519) والزرقاني في شرحه (2 / 241)

20.                    مسلم (1162)

21.                    مسلم (34)، والترمذي (2623).

22.                    أبو داود (1529) وصححه الألباني.

23.                    من خطبته في الحرم المكي الجمعة (18/ 2/1430)

24.                    الأهوج: من كان فيه تسرع وحماقة.

25.                    المهذار: كثير الكلام فيما لا ينفع.

26.                    زرف في الكلام: زاد فيه وكذب.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق