إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

عوائقُ الرِّضا

 

عوائقُ الرِّضا

 

الحمد لله، وبعد؛ فأمرٌ بهذا القدر في أعمال القلوب حقيق بالتنقيب عن كل ما يعمره في القلب ويدفع ضده، والله تعالى قد بنى ابتلاء الدنيا على سنة الدفع والمُدافعة، فالباطل يُدفع بالحق، والشرّ يدفع بالخير، والضلال يدفع بالهدى، والجهل يدفع بالعلم، والمنكر يدفع بالمعروف.. والسخط يدفع بالرضا مهما اشتدت عقباته وتلونت تلبيساته وتكاثرت أعباؤه، فالجائزة – برحمة الله تعالى – هي الحُسنى وزيادة! قال سبحانه: (ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلى العالَمِينَ (٢٥١)﴾.

الراضي بربه له خصال، "فالمؤمن بالقضاء، الراضي به، صبور متجلد، يتحمل المشاق، ويتضلع بالأعباء، وخاصة في العصور المتأخرة، فكيف بالوقت الذي يكون "القابضُ فيه على دينه كالقابض على الجمر". (1)

أمَّا ضعيف الرضا بالقضاء، الذي لا يقوى على احتمال المصائب، ولا يصبر على أدنى شيء منها، فهذا لضعف إيمانه، ورخاوة نفسه، وانزعاجها العظيم للشيء الحقير، فما أن يصاب بالتافه من الأمر حتى تراه حرج الصدر، فتقضّ مضجعه، وتؤرق جفنه، وهي - وأكبر منها - لو وقعت لمن هو أقوى منه إيمانًا ورضًا بالقضاء لم يُلق لها بالًا، ولم تحرك منه نفسًا، ولنام ملء جفونه رضيَّ البال، قرير العين بالله رب العالمين.

فالذي يجزع لأتفه الأسباب، قد يصل إلى الجنون، أو الوسوسة، أو تعاطي المسكرات على اختلاف مستوياتها، أو قتل النفس، أو الانتحار. وما أكثر هذه الأمور في المجتمعات التي لا ترضى بقضاء الله تعالى. فالذي لا يرضى بما يصيبه من المصائب؛ يدبّ إلى روعه القنوط، ويظن أنها قاصمة الظهر، ونازلة النوازل، ويرمي نفسه في وحل اليأس، وسجن الاكتئاب.

أمَّا المؤمن بالقضاء والقدر، الصابر على المصيبة، وعن المعصية، فلا تراه إلّا متفائلًا في جميع أحواله، منتظرًا الفرج من الله، مؤقنًا بأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرًا، وأن العاقبة للتقوى، وأن قضاء الله نافذ لا محالة، فلا يأس، ولا قنوط، ولا كسل، ولا هوان، ولا تهاون، تسمو به الحال فيصل إلى منزل الرضا، فيرضى عن الله، ويرضى الله عنه". (2)

وأمرُ الله نافذٌ مهما هرب العبد منه، وقَدَره كائنٌ مهما حاول العبد تغييره، وقضاؤه واقعٌ مهما زيّف القلب بصيرته بمصيره. وقد كان الصاحب بن عباد يقول: "بُدِئ الشعر بمَلِك، وهو امرؤ القيس، وخُتم بملك، وهو أبو فراس الحمداني. ومن شعره:

إذا اللهُ لم يُحْرَزْكَ مما تخافَهُ ....  فلا الدرعُ منّاعٌ ولا السيفُ قاضبُ

فعلى المؤمن الناصح لنفسه أن يكون كيّسًا فطنًا نبيهًا لمداخل الشيطان على خبايا قلبه الذي هو موضع نظر ربه، فمن عوائق الرضا:

1-  الاعتراض على قضاء الله الشرعي:

والاعتراض قد يكون على قضاء الله الديني الشرعي، وقد يكون على قضاء الله الكوني القدري، وخاصة ما يخالف ما يحب العبد ويهوى. فالاعتراض معارض لقول المسلم: رضيت بالله ربًّا، فكيف لا ترضى بأمرِ وقضاءِ مَن رضِيتَه ربًّا؟! فعلى المؤمن أن يُحب ما أحب الله، ويبغض ما أبغضه الله، ويرضى بما قدره الله، ويسلم لحكم الله.

إن المؤمن حفيّ بأمر ربه مهما تقلّبت به أعطاف أقداره، أما الكافر فخائبةٌ صفقتُه، غابرةٌ حُفرتُه، مكتملةٌ أركانُ عذابه، فأعظم الخذلان هو حال مَن كره رضوان الله تعالى، قال تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم). وتأمّل هذا الحديث المخيف الذي أخرجه الشيخان (3) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الناس سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، (4) فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال: "سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بيّنته لكم". فلما سمع ذلك القوم ارمّوا (5) ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر. قال أنس: فجعلتُ ألتفت يمينًا وشمالًا فإذا كل رجل لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي، (6) فأنشأ رجل من المسجد كان يُلاحَى (7) فيُدعى لغير أبيه، فقال: يا نبي الله، من أبي؟ قال: "أبوك حذافة". فبرَكَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، عائذًا بالله من سوء الفتن. (8) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أرَ كاليوم قط في الخير والشر، إني صُوِّرَتْ لي الجنةُ والنارُ فرأيتهما دون هذا الحائط". وفي رواية البخاري: "فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: "النار"! فتأمل كيف كن الرضا بالله تعالى والجأر بذلك من أسباب حفظ الله عبدَه من الفتن ومواقع السخط.

واعلم أن أكثر من يسبُّ القدر ويعترض على القضاء هم الشعراء الذين قال الله فيهم: (والشعراء يتبعهم الغاوون) فإن كان تابعهم غاويًا فكيف بهم؟! نعوذ بالله من الغواية عن الهداية، ومن الجهل بعد الحلم، ومن الحور بعد الكور. وتأمل حال الناس معهم الآن وكيف يستفزّون أحلام الناس بأبيات تسير بينهم كالنار في الهشيم، ورُبَّ بيتِ شِعر فرّقَ شملَ فئامٍ من الناس كثير! وانظر الى اجتماع الناس حولهم فيما يسمّونه حفلات وعرضات ومحاورات وأمسيات، وكيف يفقد بعض من كانوا محسوبين من أهل العقل رزانتهم، فيتمايلون ويرقصون ويصفقون ويصيحون ويرمون العمائم، وأعجب من ذلك بعض كبار السنّ الذين يرقصون الليل ويهزّون الأرض بأقدامهم حتى إذا صَفَّ أقرانُهم للصلاة قعدوا في صلاتهم على كراسيهم، والله المستعان، ولو امتلأت قلوبهم بتعظيم الصلاة والقرآن والحياء والتوقير للرحمن لَمَا رأوا لها سلوةً وفرَحًا سواها.

 وانظر كيف يتقصّف الناس على قصائد الغزل بالمعازف والأوتار، ثم تُغنّى بأجمل الأصوات الخالبة أفئدة السامعين المُصِيخين، حتى تفعل في ألبابهم فعل الرّاح المُعتّق، فيهذي سامعها كالسّكارى، ويتمايل كالعذارى، ثم يبكى كاليتامى، والمخذول من خذله الله تعالى، فكم من قلب عامر بالإيمان خرّبته وقسّته وأمرضتْهُ وأغفَلتْهُ وأنكسته، وعن التلذّذ القرآن العظيم وتدبّره أبعدته، ويكفي أنه مزمار الشيطان وحاديه، ومطيّته وناديه. قال تبارك وتعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّخِذَها هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُّهِين * وإذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا ولّى مُسْتَكْبِرًا كَأن لَّمْ يَسْمَعْها كَأنَّ فِي أُذُنَيْهِ وقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ ألِيم﴾ قال أكثر المفسرين: «معنى لهو الحديث في الآية الغناء»، وقال جماعة آخرون: «كلُّ صوتٍ منكَرٍ من أصوات الملاهي، فهو داخل في ذلك: كالمزمار، والرّبابة، والعود، والكمان، وأشباه ذلك، وهذا كله يصدّ عن سبيل اللَّه، ويُسبب الضلال والإضلال". (9)

والله تعالى عدل مقسط، فلما ذمّ الشعراء بيّن سبب ذلك، واستثنى من لم يكن من أهل ذلك الوصف، فقال جل ذكره: (ألم  تر أنهم في كل واد يهيمون) أي أنهم يتكلمون في كل أمر بلا وازعٍ من الأخلاق، ولا رقيب من الديانة، ولا أثرة من علوم الأنبياء، إن رضوا مدحوا وغلوا وكذبوا، وإن سخطوا هجوا وظلموا وبهتوا، يتسوّلون الحطام بأبياتهم، ويُبدّلون الحقائق بقصائدهم، (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) وهذا محض الكذب، ومصنع الزّيف، ومِهَادُ دعاوى نفخ الذوات الفارغة بأوهامِ أقنعةِ الخداعِ وألبِسَةِ التضليل. ثم استثنى الله عز وجل من اتقى منهم فقال: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا) أي من آمن بالله واتقاه، وعمل الصالحات، وعمر قلبه بالإيمان، وطهر لسانه بالصدق والتقوى، وعطّر صدره باليقين والرضا، وصقل روحه بالإكثار من ذكر الله تعالى، وانتصر من بعد ما ظُلم، وبخاصة من انتصر لله تعالى، وذبّ عن دينه، وجاهد بلسانِه أعداءَ الملة، فهو من الشعراء الصالحين المُصلحين البررة المجاهدين (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). وفي تنوير المقباس (10): "﴿إلّا الَّذين آمنُوا﴾ بِمُحَمد ﷺ والقُرْآن كحسان بن ثابت وأصْحابه ﴿وعَمِلُواْ الصّالِحات﴾ الطّاعات فِيما بَينهم وبَين رَبهم ﴿وذَكَرُواْ الله كَثِيرًا﴾ فِي الشّعْر ﴿وانتصروا﴾ لمُحَمد ﷺ وأصْحابه بِالرَّدِّ على الكفّار ﴿مِن بَعْدِ ما ظُلِمُواْ﴾ هجوا هجاهم الكفّار ﴿وسَيَعْلَمْ الَّذين ظلمُوا﴾ هجوا النبي ﷺ وأصْحابه ﴿أيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ أي مرجع يرجعُونَ فِي الآخِرَة، وهِي النّار، يَعْنِي إن لم يُؤمنُوا".

  ولا يعني هذا تعميم المذمّة في الاعتراض على القضاء على الشعراء، فمنهم أهل إيمان عظيم، ويقين راسخ، ورضًا نادر، وجهاد كبير، ولهم أبيات في نفع الناس سائرة، ومواعظ في تنبيه قلوب الغافلين شائعة، وقصائد في نصر دين الله ذائعة. ولكن جرت العادة من كثيرهم بذلك جهلًا وغفلة وتساهلًا، والحمد لله رب العالمين.

2-  التهاون في أمر التوكل على الله تعالى:

التوكل شرط الإيمان، قال تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، وإذا رضي العبد بربه حقًّا تعلق قلبه بحوله وطوله وقوّته ومدده دون أسباب الخلائق، والتوكل الصحيح موصل بإذن الله تعالى للرضا الصحيح، لأنه إذا صدق التوكّل على الله تعالى ترتّب عليه علم القلب بأن تدبير الأمور بيد الله تعالى، وأنه لا راد لما قضاه ولا معقب لحكمه فيرضى ويسلّم.

3-  التّسخّط:

السخط ضد الرضا ونقيضه وحريبه، وفيه شقاوة الساخط وخذلانه وخساره. وقد جعل الله تعالى الهمّ والغم والحزن في التسخّط والتبرّم من أمر الله، وكتب على صاحبه شتات القلب، ومرض الروح، وكسف البال، وسوء الحال، والظن بالله خلاف ما هو أهله، وضعف اليقين بموعود الله. وأمَّا الرضا فيفرّغ القلب لربه، ويقلّل همّه وغمّه بدنياه، فيتفرّغ لعبادة الله بقلب خفيف من أثقال الدنيا وهمومها وغمومها.

والسخط من سوء الخلق؛ لأن الساخط مخاصم لله تعالى فيما لم يرض به من أحكام شرعه وأحكام قدره، من أمره ونهيه، أو قضائه ورزقه وتدبيره، وما يصيبه من نوائب ومصائب. وهذه المخاصمة هي أصلُ منهج إبليس مع ربه، فقد كان منهجه عدم الرضا بأقضيته وأحكامه الدينية والكونية القدرية، فلو رضي لم يُمسخ من الحقيقة الملكية إلى الحقيقة الشيطانية الإبليسية.

والسخط يفتح باب الشك بالله تعالى، وقضائه وقدره وأمره وحكمته وعلمه، فقلَّ أن يسلم الساخط من شك يُداخل قلبه، ويُزايلُ يقينه، وإن كان لا يشعر به، لكن لو فتّش نفسه غاية التفتيش، واختبرها، لوجد إيمانه معلولًا، وتصديقه مدخولًا، ورضاه منقوضًا، فإن الرضا واليقين صاحبان لا يكادان يفترقان، كما أن السخط والشك قرينان لا ينفكّان.

والسخط يوجب اضطراب قلب العبد وريبته وانزعاجه وعدم قراره، كما أنه يوجب تلوّن العبد وعدم ثباته مع الله، فإنه لا يرضى إلا بما يلائم طبعه ونفسه، والمقادير تجري دائمًا بما يلائمه وبما لا يلائمه، وكلّما جرى عليه منها ما لا يلائمه أسخطه، فلا تتحقق عبوديته لله تعالى.

فإذا ابتلى الله سبحانه وتعالى عبده في رزقه أو غير ذلك من أمور حياته، فإنَّما ذلك امتحان له: أيرضى أم يسخط. يدل على ذلك آيات منها: { فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ، وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }. لأن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق، فقد يُوسَّعُ على الكافر لا لإكرامه، بل لاستدراجه، ويضيّق على المؤمن لا لإهانته، بل لإكرامه في حاله وعاقبة أيّامه، ولحكمة هو يعلمها سبحانه، وقد يكون منعًا له من شرِّ الغنى حميةً له وحفظًا.

هذا ومن الناس من تمنّى أنه لم يُخلق! وهذه الأمنية تختلف بحسب مقصد قائلها، فإن حمله على ذلك الخوف من الحساب والعقاب والخشية والحياء من تقصيره في جناب ربه تبارك وتعالى؛ فتلك أمنية محمودة. وعلى ذلك يُحمل ما ورد عن تمنّي بعض الصحابة أنهم لم يُخلقوا، كما جاء عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه كان يقول: "يا ليتني كنت شجرة تُعضَدُ ثم تُؤكل". وكذلك قال طلحة وأبو الدرداء وأبو ذر رضى الله عنهم. وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول - وقد أخذ تبنة من الأرض-: "يا ليتني كنت هذه التّبنة، يا ليتني لم أكُ شيئًا مذكورًا، يا ليت أمي لم تلدني". وقال عثمان رضى الله عنه: "وددت أني إذا متُّ لا أُبعث". وقال أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه: "وددت أنى كنت كبشًا فذبحني أهلي، فأكلوا لحمى، وحسوا مرقي". وقالت عائشة رضى الله عنها: "يا ليتني كنت نسيًا منسيًا". وقال عمران بن حصين رضي الله عنه: "يا ليتني كنت رمادًا تذروه الرياح". (11)

وأما إن كان الحامل عليه التسخّط والاعتراض وردّ القضاء والتبرّم بقدر الله تعالى فهي من الأمنيات المحرمة والكلمات المذمومة التي تنافي خلق المؤمن وصبره واحتسابه ورضاه وحمده وشكره لله تعالى.

وبالجملة؛ فالسخط يهدم بنيان الرضا فلا يجتمعان لأنهما نقيضان، وعلى قدر نسبة وجود السخط في القلب يرتفع منه ويخرج بقدره من الرضا، وتلك الفاقرة نعوذ بالله منها.

4-  الحزن غير المشروع:

أكثر الحزن مذموم إما لجهته وموضوعه أو قدْرِه وكمّيته، فيا أيها الراضي بالله: لا تحزن، فالحزن شعور سلبيّ سوداوي مَرَضِيّ، مخالف للسرور والسعادة والاستبشار والصحّة، وهو مفضِ مع الاستمرار في سردابه للكآبة والقنوط وسوء الظن بالله تعالى وحسن تدبيره وعظيم حكمته ولطفه ورحمته وبرّه، فلا تقف عند أخطائك، ولا تجلِد بها ذاتك، فلكلّ منّا أخطاؤه الغبيّة في الحياة، وللعبد فُرَصٌ ما دام قلبه ينبض بالحياة، وله مخارج من نكباته مهما كانت في دينه ودنياه إن كان مع الله تعالى.

وليكن شعارك دومًا حينما تضيق بك الدروب، وتتراكم عليك الخطوب، وتُمْنَى بفشلٍ وخيبة: لعل في الأمرِ خيرة، (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون). نعم؛ إن الله يعلم ما لا نعلمه، فيرى تمام العاقبة مهما تقاصرت عنها بصائرنا، وأمور المؤمن خير لأن الله تعالى نفسه من يصنعها وبُقدّرها، فكن على الدوام في كل حال واثقًا بالله علام الغيوب، ومدبر الأمور، وهو الرحيم الغور، كن دومًا قويَّا به، متوكَّلًا عليه، راضٍ به، فما خاب من استمسك بعراه، وأخلص له وجهه، وكفر بكل معبودٍ سواه.

 واعلم أنّ كثيرًا من الخِيرة مقرون بالكُرْه، ولم يَضِعْ مِنْ مالِكَ ما وَعَظك. والجنةُ دارُ اللذائذ، وكما قيل: يا فاكهةُ موعدي وإيّاكِ الجنة. وقال ابن عطاء السكندري: "منعُ اللهِ عطاءٌ، ولكن لا يفهم العطاء في المنع الا صدٌيق"، أي أن أكثر الناس لا يدركون مصالح منع الله لهم مشتهياتهم، فهذا المنع في حقيقته عطاءٌ كبير وآلاء جسيمة ومنن كثيرة لم تكن لو أعطاهم الله عاجل رغيبتهم، وقد تكون لو عُجّلت لهم فسادًا عريضًا عليهم في دينهم ودنياهم، ولو كُشفت لهم بعض حكمته في منعهم لخَرُّوا له سجدًا شاكرين حامدين. فالحمد لله رب العالمين على منعه وعطائه وعلى كل حال.

والمرض لا يقرّب أجلًا والصحة لا تدفع محتومًا، بل هي أسباب إن شاء الله تعالى أمضاها وإن شاء ردّها، وقد ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد (((العقد الفريد (٣/‏٢١٨) والنجوة: هي النجاة، وضلّة: من الضلال، أي عدم علمي به. والمشهور أنّ الأبيات لأم تأبط شرًّا وهو السّليك بن السّلكة، وقد فقدته حينما قتل، والله أعلم. ))) أنّ أعرابيًّا خرج هاربًا من الطاعون، فبينما هو سائر إذ لدغته أفعى فمات، فقال أبوه يرثيه:

طاف يبغى نجوةً … من هلاك فهلك

والمنايا رُصَّدٌ … للفتى حيث سلك

ليت شعري ضَلَّةً … أيُّ شيء قتَلَك

كلُّ شيء قاتلٍ … حين تلقى أجلك

وأبلغ من ذلك قول رب العزة تبارك وتعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون). ولمّا احتُضر أبو بكر رضي الله عنه، تمثّلت عائشة رضي الله عنها بقول الشاعر:

‏لعمرُكَ ما يُغني الثراء عن الفتى  ...  إذا حشرجتْ يومًا وضاقَ بها الصدرُ

‏فقال: يا بنيّة، ليس كذلك، ولكن كما قال تعالى :( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد ). والله المستعان.

ومن جميل المقول: "بطريقةٍ ما ستدرك أن الطريق الذي اختاره الله لك كان أفضل ألف مرة من الطريق الذي أردته لنفسك، وأن الباب الذي أُغلِق في وجهك ألف مرة كان وراءه شرٌ محض، وأن اليد التي أفلتتك لم تكن تناسبك منذ البداية، وأن البلاء الذي أنهكك لم يكن سوى رحمةٌ مُهداة، وأنّ انهيار الأسباب من حولك لم تكن بالقسوة التي ظننت، وإنما هي سنة الله في خلقه، وأن الأمر الذي جفاك النوم من أجله لم يكن يستحق كل هذا، وأنك قلقت أكثر مما ينبغي. ويومًا ما ستدرك أنك لست مالك أمرك، وأن أمرك إن ضاق واستضاق فله ربٌّ هو أولى به مني ومنك ومنهم ومنهن، وأنّ الله رحيم يُنجينا من شرور البشر، ومن أنفسنا حين لا نقوى عليها". ويا أيها الحزينُ تَصَدَّق.

اعلم – رحمني الله وإياك- أن الله تعالى يحب الخير لعباده، ويدلهم على طريق الفرح، فلقد قال سبحانه: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ونهى عن الحزن في غير موضعه: (ولا تحزن عليهم) ومن أجلِّ أعمال القلوب قاطبة: الفرحُ بالله تعالى. ولو كان للسعادة معيارٌ حسيّ؛ لصُعق أهل المال والجاه والسلطان والصحة من افتقارهم لها إزاء غِنى الأتقياء بها، ولو علم الناس حقيقة السعادة ما ذهبوا بعيدًا، لأنها بين أيديهم لو كانوا يعقلون، إنّها في الفرح بالله تعالى، وطريقُها الإيمان والقرآن والاستقامة.

حتى مع اليأسِ لا تحزن؛ فلك أسوةٌ صالحة، فكم من مؤمنٍ حبيبٍ لله قد مات وحاجته في صدره لم يدركها في دنياه. وبما أنّ المؤمن بشرٌ مثل جنسه فلا يُنكر عليه الحزن العارض لفوات ملائم أو طروء مخالف لطبعه أو مضايقة روحه ونفسه، ولكن عليه أن يكون مَلِكَ نفسه وسيّد مشاعره وطبيب روحه؛ فيُرخي لمشاعره الزمام شيئًا بحيث لا يكبتها، كما لا يتركها بلا قيد ولا خطام. ونبيّ الهدى صلى الله عليه وسلم لم يسلم من الحزن العارض، فقد قال في ابنه إبراهيم رضي الله عنه وقلبه عامر بالرضا والحمد: "وإنا لِفراقك يا إبراهيمُ لمحزونون".  (12) وسئل ابن عيينة رحمه الله عن هَمٍّ لا يُعرف سببه؟ فقال: "هو ذنبٌ هممتَ به في سرِّك ولم تعملْه؛ فجُزيت همًّا به". فللذنوب عقوبات؛ السرُّ بالسرِّ، والعلانيةُ بالعلانية، والله المستعان.

وليستعملْ المُوفّق علمَهُ بالله وحسن ظنه به وعقله وفكره فيما بين يديه من دوافع حزنه، وروافع بلائه، وأسباب سلوانه، ولسانُ حال الشارد: لَكِ الله يا عذابات السنين، ويا جراحات الأنين، كم لك في الفؤاد من لوعةٍ تكوي نداءات الحنين. فيجيبُه نداءُ العقل بتلاوة منشور الفلاح للمتقين: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) وقول العليم الرحيم: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) وقوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا). قال أحد السلف: "تذكَّر أنَّ كلَّ نعمةٍ دون الجنةِ فانيةٌ، وكلَّ بلاءٍ دونَ النارِ عافية".

 فإن كان الأمر لفوات دنيا؛ فليعلمْ أنّ الدنيا بحذافيرها لا تستحق على التحقيق حزنَ ساعة، لكن لضعفنا البشري المُركّب، وغفلتنا الآنيّة، فإنّا نسترسل فيما لا ينبغي للعاقل الاسترسال فيه. والزمن طبيب جيّد للأحزان. وعن تجربة: فمِن أجدى طرقِ المواساة غير المباشرة للمُصابِ والمكلوم؛ إشغالُه بأنْ يواسيَ مصيبةَ غيرِه ممن يحبهم، فينسى – مؤقتًا - مصيبته التي ستبرد قليلًا بالتقادم. واعلم بأنّ من الخطوب ما لا يداويه سوى موعود الآخرة!

تذكّرْتُ عصْرًا قد مَضَى فتهافَتَتْ ...  بناتُ الحشا وانهلّ مني المدامعُ

ونعلمُ أنّ المُلكَ للهِ وحدهُ ...   وَأنّ قَضَاءَ اللَّهِ لا بُدّ وَاقِعُ

وأمّا إن كان الحزن للدِّين؛ فينظر: إن كان لذنبٍ أو فوات طاعة وقُربَه؛ فحزنه محمود، لكن عليه أن يجعل حزنه إيجابيًّا، بحيث يعوّض ما فاته، ويستدرك ما فرّط فيه بحسْب وسعه وطاقته، ويستغفر لذنبه ويلحّ بدعاء ربه بقبول توبته والعفو عنه.

يا صاحبَ الهمِّ لا تنزعجْ ...    فعمّا قليلٍ يكونُ الفرجْ

فما في سديمِ الدُّنا من ظلامٍ ...   إلا ومنه يكونُ البلَجْ

وأمّا الحزنُ لدِين غيره؛ كتقصير الناس في طاعة الله، وانتشار المنكرات، وضعف حال المسلمين، وضعف تدينهم، وظلمهم من قبل أعداء الدين قتلًا وسجنًا وتشريدًا، ونحو ذلك من الحزن السلبي لغلبة الكفار المادية للمسلمين؛ فإنّه لا يصنع شيئًا، بل منهيٌّ عنه شرعًا، قال تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئًا). وقد يكون حزنُه محمودًا من جهة رحمته بهم، ولكن لا بدّ أن يكون حزنًا باعتدال، مع مزجه بالاحتساب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه المنكرات، وبالدعوة إلى سبيل الله تعالى، والمجاهدة لأعداء دينه، وبالرضا بالقضاء لمصيبات الأمة ونقص أمنهم وأرزاقهم، مع بذله جهده وطاقته في سبيل رفع ما يمكن رفعه من حال الأمة، وكلٌّ ميسر لما خلق له. وليعلم أن الجنة هي ميعاد المحبين من المؤمنين، وأنّ غمسةً فيها تُنسي شقاء الدنيا كلّه.

واعلم أنّ من الأدب مع الله تعالى أن تقول في إنكارك على من جاهر بالمنكر أو عاند أو حارب أو حادّ شرع الله أن تقول: ما أغرَّ فلانًا بالله! ولا تقل: ما أجرَأ فلانًا على الله، فقد تكون موهمة لشيء من قدرة المخلوق على الخالق تعالى وتقدس، وهذا معنًى فاسدٌ مُحال، (يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم)؟

وثمّة بشارة لقلب كل مؤمن: وهي أنّه مهما كان مكانك وزمانك وضعفك وعجزك وفقرك وقِلّتك أمام انتفاش الباطل وأهله؛ فاعلم أنّهم لا يستطيعون سلَب الإيمان من صدرك. وهذه وربّي كافية في برْدِ اليقين وثلجِ الطمأنينة، والشيطان نفسه لا يملك قدرةً عليك، ولا تسلُّطًا على إرادتك، إنما هي أمانٍ ووساوس وكيد ضعيف، وهو القائل لأوليائه يوم الدين: (وما كان لي عليكم من سلطان الا ان دعوتكم فاستجبتم لي)، فكن قويًّا بربك، واثقًا منه، موقنًا به، متعلقًا به، طائعًا له، مخبتًا تائبًا منيبًا. ومِن نافع وصاياهم: "عند القَدَرِ لا تجزع، وعند الأمرِ لا تعجز".

فَثِبْ واثقًا بالله وثْبةَ ماجدٍ … يَرى الموْتَ في الهيجا جَنَى النّحلِ في الفَم

ومن حقوق الصحبة تخفيفُ الأحزان، (إذ يقولُ لصاحبه لا تَحْزن). وأمرُ المؤمن خيرٌ كلّه، والله تعالى يقول: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أي ليس عليهم خوف من المستقبل، ولا حزن على الماضي. وليس مع الله ضيعة.

فإذا ابتُليتَ بنكبةٍ فاصبرْ لها ... اللهُ حسبي وحدَهُ وكفاني

ويا صاحب الهم: أينك عن الملاذ؟ إنّه يقينك بالله وثقتك به، انطرح بكليّتك بين رحمته وكرمه، قال ابن مسعود: "الصبر نفسُ الإيمان، واليقين هو الإيمان كلّه". إلهي، أنا لك، وأنا إليك راجع.

تموتُ النفوس بأوصابها ...  ولم يدرِ عُوّادُها ما بها

وما أنصفتْ مهجةٌ تشتكي ...  أذاها إلى غيرِ أحبابها

 فلكل مهموم، أو حزين، أو مريض، أو مُحطّم الفؤاد، أو متآكل الروح من فشله أو عثرته أو إحباطه: ثَمّ ربٌّ يراك، وإلهٌ يسمع نجواك، ويفرح بضراعتك، ويُقرّبك إذا تخلّى عنك الأقربون. ويذْكُرك إن نسيك المحبون، ويرحمُك إذ قسا عليك الألدّون، ويرفعك ويرزقك ويشفيك ويسعدك، ويشرح صدرك وييسر أمرك. فأين أين أين أنت عن طرق بابه، واللياذِ بعظيم جنابه، والالتذاذِ بجميل خطابه، والانطراح في عبوديته ودعائه! اشْكُ نفسَكَ والناسَ إليه، واحذر من أن تشكوه إليهم، فكيف تشكو من لا يأتي بالخير إلا هو!

وَإِذَا شَكَوتَ إلى ابنِ آدمَ إِنَّمَا ... تَشْكُو الرَّحِيمَ إلى الذي لا يَرْحَمُ

وعليك بجادّة الأنبياء: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) والبثُّ هو الحزن الذي لا يُطاق. والناس يقولون: لا تكبت همومك في صدرك، وبُثَّها لصديق يواسيك؛ لأنّ الصدر إذا نَفَثَ برأ، ولا بدَّ من شكوى إذا لم يكن صبرُ.

وأبثثتُ عَمْرًا بعضَ ما في جَوَانحي ... وجَرَّعتُه من مُرِّ ما أتجرّعُ

ولا بدَّ من شكوى إلى ذي مروءةٍ  ...  يواسيكَ أو يُسلِيكَ أو يتوجَّع

وما علموا أنّ البث النافع هو الشكوى إلى من بيده مقاليد الأمور ومعاقد الأقدار. فيا نازفًا همَّهُ بدموعه، ومُرسلًا شجَنَه بأنينه، وشِكايته بزفراته؛ أبشر ببشرى الله لك: (فإنّي قريب). فبُثَّ له وحده شجونك وأحزانك، وقل كما قال العبد الصالح عليه السلام: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون). ودرّب نفسك على أن يكون قلبُك أقوى احتمالًا وأرحبَ مكانًا وأشدَّ جلَدًا لأليم الواردات عليه، فإنْ ضاقت بك الأرضُ يومًا بما رحُبَتْ؛ فالجَأ لمن لا يَخيب من دعاه، ولا يخسر من عامله، ولا ينهزم من توكل عليه، ولا يفتقر من اغتنى به. أمّا من لم يُطِق، ورأى صلاحه في بث بعض شكواه لمن وثق به؛ فلا بأس، بشرط الأدب مع الله تعالى، بعدم تسخّط أقضيته والتبرّم من أقداره.

إِذا لم أطِق صَبرًا رَجعتُ إلى الشكوى ... وناديتُ تحت الليل يا سامع النَّجوَى

وكيف ينفعنا الإيمانُ بمرِّ القضاء إذا لم تثبت على ثلجِ يقينِه وبرْدِ حُسنِ الظن بعاقبته قلوبُنا عند احتدام الكُرب! وتذكّرْ أنّ أعظم مُسَكّن في العالم هو جُرعة من الرضا بمرّ القضاء. ولكل مصاب ومحزون ومهموم: سيكونُ هذا يومًا ما مجرد ذكرى من الماضي، فأَرْضِ ربَّكَ الآن؛ لتسعد بالذكرى غدًا، فالدنيا، كلّ الدنيا لا تساوي غمسةً في الجنة.

وكن – يا صاحبي – دائم الحياء من ربك، ويعظم الحياء في القلب بتذكر صفات الله تعالى، والتفكر في عظمته، والتدبر في كتاب كلامه المنزل لك، وفي كتاب خلقه المسطور أمامك في الكون الفسيح والكون الصغير، وتذكر عظيم نعمائه عليك، وتتابع ألطافه، وتراكم آلائه، فمهما صنعت لتؤدي شكرها لم تفلح، لكنه شكور حميد يقبل منك القليل، ويثيبك عليه الثواب الجزيل، ويَفرح بقربك منه وهو المتفضّل عليك، وهو المعين لك في الأولى والمعطي لك في الأخرى، فله الحمد أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا وهو الولي الحميد. فإذا تدبرت ذلك ونَقْصَ أعمالك وتقلّبَ حالك؛ أبصرت نقصك وضعفك وعظيم جريرتك وحتْمَ الرجعى إليه. واعلم أن الحياء قرين الإيمان، فقد قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "إنّ الحَياءَ والإيمانَ قُرِنا جَميعًا، فَإذا رُفِعَ أحدُهُما رُفِعَ الآخَرُ". (13)

هَبِ البعثَ لم تأتنا رسْلُهُ   ...  وجاحِمَةُ النار لم تُضرَمِ

أليس بكافٍ لذي فكرةٍ  ... حياءُ المسيءِ من المُنعمِ

وكن مع القرآن يكن الله معك، وأَنِرْ أرجاء بيتك بتلاوته، وجوانح روحك بتدبره، وربيع عقلك بتعلّمه، وسماءك بأن تكون من أهله، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: "وإنَّ البيت ليُتلى فيه القرآن؛ فيتراءى لأهلِ السماء كما تتراءى النجومُ لأهل الأرضِ". (14)

وعن يحيى بن عون: قال: دخلت مع سَحنون (15) على ابن القصّار وهو مريض، فقال: "ما هذا القلق"؟ قال له: الموت والقدوم على الله. قال له سحنون: "ألستَ مصدّقًا بالرسل والبعث والحساب، والجنة والنار، وأن أفضل هذه الامة أبو بكر، ثم عمر، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى يوم القيامة، وأنه على العرش استوى، ولا تخرج على الأئمة بالسيف، وإن جاروا"؟ قال: إي والله! فقال: "مُتْ إذا شئت، مُتْ إذا شئت". (16)

ولكل قلبٍ أضناه الحزن لعجز يده أو لسانه عن إنكار منكر: أنكِرْ بقلبك، ثم تدبر قول ربك: (ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) وقوله: (ولا تحزن عليهم).

وما دام المؤمن متعلقًا بربه، محسنًا الظن به، تامّ الطمأنينة بتدبيره، مفوّضًا أموره إليه؛ فهو – والله -بخيرٍ مهما اشتد بلاؤه. فلله في ثنايا ابتلائه منحًا عظيمة ونعمًا جليلة، لا يتصورها إلا من عرف ربه بجميل صفات كماله، وكفى بنعمة الصبر والرضا والشكر والحمد والإيمان نعمة، فلله الحمد كثيرًا.

ولا تحدثني عن دنياك مهما كانت حالك معها، لكن حدثني عن حال قلبك مع ربك، فهو محور سعادتك لأبد الأبد. ولقد كتب أخٌ لأحمد بن حنبل أيام المحنة:

هذي الخطوبُ ستنتهي يا أحمد ...  فإذا جَزِعْتَ من الخطوب فمن لها

الصبرُ يقطعُ ما ترى فاصبر لها ...   فعسى بها أن تنجلي ولعلّها

فأجابه الإمام:

صبَّرْتني ووعظتني فأنا لها ...  فستنجلي بل لا أقول لعلّها

ويحُلُّها من كان يملك عقدَهَا...  ثقةً به إذْ كان يَمْلِكُ حلّها

وتذكّر أن الخلق مجرد أسبابٍ يُجري الله تعالى أسبابًا للرزق على أيديهم، فلا خوفٌ علينا في أرزاقنا فهي مكفولة مضمونة، لكن الخوف العظيم من نقص أدياننا وتقصير أعمالنا، إذ لم يضمنها الله لنا، بل وعدنا وأوعدنا، فرزق الدنيا مضمون كما قال رسول الله ﷺ: «إنّ رُوح القُدُس (17) نَفَثَ في رُوعي (18) أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها». (19) ولكنّ رزق الآخرة غير مضمون، قال الله تعالى: (ليس بأمانيكم وأماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به). فاسأل الرازق الغنيَّ ابتداءً وانتهاءً وإفرادًا، اسأله أنواعَ الأرزاق، واعلم أن خيرها رزق الإيمان والعمل الصالح، وتوكّل على الحي الذي لا يموت، وثق بمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يُجار عليه، ولا تلتفت بقلبك ولا بوجهك لسواه. فكل شدّة إلى زوال، وكل كربة إلى ذهاب، وكل هم إلى نهاية، المهم ألّا تهتزّ ثقتك بالله طرفة عين.

لبستُ ثوب الرَّجى والناس قد رقدوا  ... وقمتُ أشكو إلى مولاي ما أجدُ

وقلتُ: يا عُدّتي في كلِّ نائبةٍ  ... ومن عليه لكشف الضرِّ أعتمدُ

أشكو إليك أمورًا أن تعلمها ...  مالي على حملها صبرٌ ولا جلدُ

وقد مددتُ يدي بالذل معترفًا  ... إليك يا خير من مُدَّتْ إليه يدُ

فلا تردنَّها يا ربِّ خائبةً ... فبحرُ جودِكَ يُروي كلَّ من يردُ

ويصلح حالُكَ إذا دبّرت دينك أكثر من تدبير دنياك، فرزقك مكتوب لك، ولو هربت عنه لأدركك، فابذل أسبابه واعمر آخرتك، ولا تخش الفقر فإن ذلك من لمّات الشيطان: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم). فلا تغتمّ لمستقبلٍ يصنعُهُ من هو أرحم بك منك.

واعلم أن الحزن الذي لا يُخرج الإنسان من كونه صابرًا راضيًا، أي كان قلبه مطمئنًا فإنه لا يؤاخذ عليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافي للرضا قط، مع أنه لا فائدة فيه، بل قد يكون فيه مضرة، لكنه عفي عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه الله". (20)

ويا أيها الحزين أينك عن هذا الحديث العظيم الهائل المبدّد سحب الأحزان والمبيد عواصف الهموم، وقد أفادني في أحيان كثيرة، فما أن تضيق بي نفسي بكُرب بالدنيا وأحزانها الفانية حتى ألهج لربي به، فإذا أنا في جَنَّة الأُنس والسلوى بحمد ربي اللطيف الرحيم، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب عبدًا همّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي، إلا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحًا". قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلّمهن؟ قال: "بلى، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلّمهن". (21)

يا من يُرَجّى في الشدائدِ كلِّها   ... يا من إليه المُشتكى والمفزَعُ

ما لي سوى قرعي لبابك سُلّمًا  ... فإذا رددتَّ فأيُّ باب أقرعُ

5-  النياحة:

ومِمَّا يضاد الرضا وينافيه النياحة، سواء كانت صادرة من النساء أو الرجال، وإن كان المعتاد أن يكون من النساء في المآتم، وعند القبور، وعند نزول المصائب، لضعف صبرهن ووهن احتمالهنّ إلا من رحمها الله منهنّ فسكّنت قلبها بالصبر، وسلَّتْه بالرضا، وأسعدته بالحمد والشكر. والنياحة من كبائر الذنوب لأنها منافية للرضا والتسليم، وهي من الجزع والاعتراض على القضاء قال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية". (22)

والنياحة ضلال عظيم، تتضمن فعل ما نهى الله عنه، وترك ما أمر به، ففيها ترك الصبر، وفيها الجزع، وقول الهُجْر. والنائحة متوعَّدَةٌ بالعذاب، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهليَّة (23) لا يتركونهنّ: الفخر في الأحساب، (24) والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة"، وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب". (25) فالنياحة وما يحفها ويقترن بها من المخالفات الشرعية تنافي الرضا بالقضاء، وهي أيضًا من التّسخّط الذي هو ضد الرضا.

أمَّا البكاء على الميت حين وفاته على وجه الرحمة فحسن،، فقد قال صلى الله عليه وسلم في ذلك: "إنها رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنَّما يرحم الله من عباده الرحماء". (26) ولا زال أهل الوفاء يبكون أحبتهم رحمة وشوقًا، وإن كانت قلوبهم بالله راضية. قال إسحاق بن أحمد: كنا عند البخاري، فورد عليه كتاب فيه نعي الدارمي، فنكس رأسه ثم رفع واسترجع، وجعل تسيل دموعه على خدّيه، ثم أنشأ يقول:

‏إن تبقَ تُفجعْ بالأحبة كلِّهمْ   ...  وفناءُ نفسك لا أبا لك أفجعُ

6-  تمنّي الموت لبلاء الدنيا:

فالذي خلقك وأحياك ورزقك وربّاك هو من قدّر عليك تلك المصيبة، ومهما كان وقعها على قلبك فلا تجزع خلا مصائب الدين، لأن الله تعالى وإن قدّرها كونًا فهو لا يحبها شرعًا، فعليك فورًا بالتوبة منها، ومباعدة أسبابها، وعدم الفرح بها والركون إليها والانبساط عند ورودها، أما مصائب الدنيا فهي هباء وفناء، فلا عليك ما فاتك منها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به، فإن كان لا بد متمنّيًا الموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". (27) فدل الحديث على النهي عن تمني الموت بسبب بلاء، أو محنة، أو خشية ذلك من عدو، أو مرض، أو فاقة، أو نحوها من المصائب التي تصيب الإنسان في حياته، لما في ذلك من الجزع، وعدم الصبر على المقدر، وعدم الرضا بالقضاء.

وهذا بخلاف تمني الشهادة في سبيل الله، فإنّ هذا حسن مطلوب؛ لأنه ذروة الإيمان، وهو دليل على الصبر والثبات والرضا بما يصيبه في ذلك مِمَّا يقدره الله عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، وددت أني أقاتل في سبيل فأُقتل، ثُمَّ أحيا، ثُمَّ أقتل، ثُمَّ أحيا، ثُمَّ أقتل". (28)

7- الجزعُ والهلعُ:

عند الأمر لا تعجز وعند المصيبة لا تجزع، فالمصيبة إذا هجمت على القلب الغافل أورثته شيئًا من الجزع بحسبها وبحسب القلب الواردة عليه، فإذا تذكّر العبدُ أن هذه المصيبةَ وسبَبها مقدورٌ مكتوبٌ؛ صبر على قدر الله، وسلّم لأمره؛ فإن هذا من جملة ما أمره الله به؛ كما في قوله تعالى: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلّم".

 والجزع ضعف في النفس، وخوف في القلب، تمدّه شدة الطمع والحرص، وهو متولّد من ضعف الإيمان بالقدر، وصاحبه معاقب به، فيحرمه الراحة التي يرتاحها العابدون الراضون، ويخرّب القلب الذي حقّه عِمَارَة اليقين والرضا والإيمان، ويذهب بخيرية العبد واستقامته وصدق تديّنه. والهلع أفحش الجزع، والهلع له معان منها: الحرص، والشح، والضجر، والبخل، والشره، والإمساك، والذي لا يشبع، وضيق العطن، والعجلة، وهذه المعاني كلها تنافي الرضا بالقضاء.

والجزع ضد الصبر الآيل إلى الرضا، فلا خير في العجز ولا في الجزع، كما نجده في حال كثير من الناس حتى من بعض المتدينين، فنراهم إذا ظُلِموُا أو رأوا منكرًا أو عُدوانًا لا ينتصرون ولا يصبرون، بل يعجزون ويجزعون إلا من رحم الله. وفي صحيح مسلم (29) عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنى فعلت كذا وكذا. ولكن قل: قَدَرُ الله (30) وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".

فمن أراد بلوغ مقام الرضا فليحبس نفسه عن الجزع، والهلع، والتشكي، والتسخط، وأن يسأل ربه ثبات قلبه على الأحكام القدرية والشرعية. وليس المراد أن يقسو قلبه ويمتنع عن الانفعال والتأثر بالنوازل، فمن لم يتأثر بها لغلظة قلبه وقساوته لا لصبره واحتماله فليس من الراضين بالقضاء والقدر. (31) كما قيل:

يُبكى علينا ولا نبكي على أحدٍ  ...  لنحن أغلظ أكبادًا من الإبلِ

وههنا مسألة غريبة ولولا كثرة دورانها على ألسنة الناس ما أوردتها لوضوح أمرها وتبيانه، كما أن في ثنايا جواب الشيخ لها نفائس نادرة، والمسألة هي حكم قتل المريض الميئوس منه بطلب منه من قبل الطبيب ونحوه. فقد أجاب شيخنا الشنقيطي حفظه الله تعالى عنها بقوله: "هذه مسألة خطيرة جدًّا، وهي التي يسمونها: مسألة قتل الرحمة، ولذلك -والعياذ بالله- من غرائب هذا الزمان أن الحرام في هذا الزمان لا يسمى باسمه؛ بل يصدق عليه قول الله: { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } [العنكبوت:38]، وهذا من تزيين الشيطان لعصاة بني آدم، فهناك قتل يقولون عنه: قتل الرحمة، ويسمونه بهذا الاسم، وصدق عليهم قول الله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة:11].

وهذا القتل الذي يسمّونه بقتل الرحمة يكون المريض ميئوسًا من علاجه، فيقولون: لماذا يتعذب؟ يعطى إبرة تقضي عليه فيرتاح من عذاب المرض، ومن آلام المرض، وهذا لاشك أنه اعتداء وقتل عمد، وسيأتينا -إن شاء الله- في مسألة القتل بالسم، فحقن المواد السامة في جسم الإنسان التي يقتل مثلها يعتبر قتل عمد، والطبيب إذا فعل ذلك فإنه يعتبر قاتلًا، وللعلماء كلام في مسألة من قال لغيره: اقتلني، فإذا قال لغيره: اقتلني، فله صورتان: الصورة الأولى: أن يُكرهه على قتله، فيقول له: إن لم تقتلني سأقتلك، ففي هذه الحالة لا قصاص ولا دية على القاتل؛ لأنه في هذه الحالة هدده، وله الحق أن يدفع عن نفسه، ولم يستبح نفسًا محرمة، وسقط القصاص لوجود الإذن بالقتل، وسقطت الدية لأنه مستتبع لحكم القصاص.

وعلى كل حال: هذا القتل لا يجوز، وقد قالوا: إنما ذلك لأجل أن الشخص يتعذب بالآلام، بل توسع الأمر إلى درجة -والعياذ بالله- أنهم نظروا في الأشخاص المتخلّفين عقليًا، ووجدوا أنهم عبء على أهليهم وعبء على ذويهم، فيحقنونهم بمواد تقضي عليهم، وهذا لاشك أنه من الاعتداء على حدود الله عز وجل، والإنسان وصفه الله عز وجل وقال: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [الأحزاب:72]، وهناك قاعدة يضعها طالب العلم بل يضعها كل مسلم نصب عينيه، وهي أن الطب له جانبان إن خرج عنهما فليس بطب، ولا تأذن له الشريعة أبدًا:

 الجانب الأول: علاج الأسقام ومداواة الجروح ونحو ذلك، وهو إصلاح الفاسد في الجسد.

الجانب الثاني: بذل الأسباب التي تحول بين الإنسان وبين الوقوع في المرض والسقم، وهو الذي يسمى بالطب الوقائي، فالأول يسمى: الطب العلاجي، والثاني يسمى: الطب الوقائي، فإنْ فَعَل الطبيبُ أيّ فعلٍ في الآدمي خارج عن العلاج، أو خارج عن الوقاية؛ فهذا ليس بطب، وقد خرج عن رسالة الطب، وخرج عن الإذن الشرعي بالطب.

فإذا قال: إن هذا مريض يتألم ويحصل له كذا وكذا، فنقول له: أنت طبيب تداوي، فإن أمكنك أن تداوي بذلت ما في وسعك، وإذا لم يمكنك أن تداوي فلا تدخلن بين المخلوق والخالق، فإن هذا ليس إليك، ولست أنت الذي ترحم، وليس بيدك الرحمة، إنما هي بيد الله سبحانه وتعالى الذي وسعت رحمته كل شيء، ولا تكن كمن قال الله فيهم: { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } [الحجرات:16]، فلست أنت الذي تعلّم الله من هو الذي يُرحم والذي لا يُرحم. ارحم بشيء تملكه، وشيء لا تملكه ليس من صنعك، وقد تكون هناك درجات من درجات العلى في الجنة جعلها الله لولي من أوليائه بعذابه في المرض والسقم، وقد يجعل الله عز وجل في قرارة قلبه من اليقين ما يتلذذ به بهذا السقم والمرض، وقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم، وبعض السلف لما مرض في الطاعون كان يقول: "اطعني فوعزّتك وجلالك إني لأتلذّذ بما يصيبني منك"، وهذه هي منزلة الرضا عن الله عز وجل.

فلست أنت الذي تتدخل بين المخلوق والخالق، فهذه أشياء لا دخل للإنسان فيها، وليست من رسالة الطبيب، فإن حدود الطبيب محصورة، والله عز وجل بعزته وجلاله وقدرته وعظمته وكماله جعل كل شيء لغيره محدودًا قاصرًا، فمهما بلغ من القوة ومهما بلغ من المنزلة في العلم والإدراك للأشياء، فإنه يقف عند حد معين، ليقف ذليلًا أمام عزة الله جل جلاله، مهانًا أمام كرامة الله، يقف مكتوف اليدين أمام الله الذي علَّمه، وعندها يعلم علم اليقين أنه لا حول له ولا قوة، ولذلك مهما تقدم الطب فسيصل إلى درجة لن يستطيع أن يتقدم عندها؛ لأن الله قال: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } [الإسراء:85]، وسيقولون: إن هذا لا علاج له عندنا، لكي يعلم كل أحد أن الله سبحانه وتعالى وحده الذي يشفي من المرض، كما قال صلى الله عليه وسلم: "واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك". (32)

هنا تظهر عظمة الله عز وجل، فيعيش المريض يئن ويتألم في المستشفى، والأطباء واقفون، حتى يدخل كل شخص إلى المستشفى فيعلم أن الطبيب لا يملك له مثقال خردلة ولا أقل من ذلك من دون الله عز وجل، فهذا كله فيه أسرار وحكم، ولكن الذين كفروا لا يعقلون.

وهذه أشياء ما كان يعرفها المسلمون، فما كان المسلمون كلما مرض مريض حقنوه بحقنة وقضوا عليه، ما كانوا يفعلون هذا أبدًا، ولكن بحكم الاتصال بالكفار وسهولة المعرفة كما يقولون، أصبح شيئًا مألوفًا، وإلا فالمسلمون يعرفون الرضا، والتسليم بقضاء الله وقدره، ويعيش المريض ويأتي شخص ويقول لك: هذا المريض جالس عند أهله سنة أو سنتين وقد عذبهم. وما يدريك أن هذه السنة والسنتين كم أصلحت من قلب كان فاسدًا، وكم قومت من شخص كان معوجًّا، وكم سددت من شخص كان تائهًا بعيدًا عن الله سبحانه وتعالى، فقد يعيش مريض في البيت ويئن ويتألم فإذا بالشاب السوي القوي يتذكر أنه إذا شاب وهرم سيئول إلى هذا المآل، فيخاف من معصية الله عز وجل.

فهناك حكم وأسرار كثير من الناس لا يعقلها ولا يعلمها، وأشياء لا يتدخل فيها الإنسان، أما الطب فله حدوده إذا رأى مفسدة أن يزيلها، أما حكم ومصالح ذلك المرض فلا يعلمها إلا الله عز وجل، والله أرحم بخلقه من خلقه بأنفسهم، قال صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه طارحة ولدها في النار؟" قالوا: لا يا رسول الله، قال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها". (33)

المقصود: أن هناك حدودًا ينبغي الوقوف عندها، وإذا خرج الطب عن هذه الأمانة والمسئولية من مداواة الأجساد، ووضع الأسباب، والحيلولة بين الأجساد والأسقام بقدرة الله عز وجل؛ فإنه ليس بطب، وإنما هو العبث، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يزن الطب بهذا الميزان، قال صلى الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله، فإنّ الله ما وضع داءً إلا ووضع له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا داءً واحدًا وهو الهرم"، وفي رواية: "الموت". (34)

فنحن نقول: لا يجوز هذا الأمر، وهو حقن المريض بما يؤدي إلى موته، ولو كان مرضه ميئوسًا منه، ولو كان قد استنفذت مقاتله، فيسلّم الأمر لله سبحانه وتعالى، فلا يجوز للطبيب ولا يجوز لأولياء المريض ولا للمريض أن يأذن بهذا الأمر الذي لا يُحلّه الله ولا رسوله، والله تعالى أعلم". (35) والحمد لله رب العالمين.

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

..............................................

1.    الترمذي (2260) وصححه الألباني.

2.    الرضا بالقضاء، سالم القرني، مجلة جامعة أم القرى (5 / 350) بتصرف يسير.

3.    البخاري (٧٠٨٩) ومسلم (٤/ ١٨٣٢) (2359) واللفظ له.

4.    أي أكثروا سؤاله فيما ليس لهم أن يسألوه.

5.    أي: سكتوا.

6.    ولفظ البخاري: "فغطّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين". رضي الله عنهم وأرضاهم، ألا ما كان أخشعهم لله تعالى وأرهبهم وأتقاهم وأعلمهم وأزكاهم وأرضاهم، اللهم ألحقنا بهم غير خزايا ولا ندامى، إله الحق آمين.

7.    يُخاصم.

8.    وهذا فقه عظيم من المُحَدَّث المُلهَم رضي الله عنه، فالصدع بالرضا في هذا المقام، والتعوذ بالله تعالى من سوء الفتن كان – بإذن الله تعالى- من أسباب تخفيف غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي الرواية الأخرى لمسلم: قال: "فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك".

9.    وانظر: مجموع فتاوى ابن باز (٢١/‏١٥٠)

10.                    تنوير المقباس من تفسير ابن عباس للفيروزآبادي (١/‏٣١٥)

11.                    ولمزيد أمثلة انظر: مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة (١/‏٣١٣)

12.                    البخاري 2/105 ( 1303 ) ومسلم 7/76 ( 2315 ) ( 62 )

13.                    أبو نعيم في الحلية (٤/ ٢٩٧)، والحاكم (١/ ٧٣)، والبيهقي في الشعب (٧٧٢٧)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (٣٢٠٠)

14.                    أخرجه الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/26- 27) من طريق السراج: حدثنا أبو رجاء قتيبة بن سعيد: حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال... فذكره. وأخرجه أحمد (6/65): ثنا حسن: ثنا ابن لهيعة به. قال الألباني في السلسلة الصحيحة 1-9 - (10 / 2): وهذا إسناد جيد؛ لأن قتيبة صحيح الحديث عن ابن لهيعة، ولهذا قال الذهبي عقب الحديث: "هذا حديث نظيف الإسناد، حسن المتن.. وله شاهد من طريق آخر".

15.                    قاضي القيروان، وصاحب "المدونة". قال الذهبي رحمه الله تعالى في السير (12 / 64): "سمع من: سفيان بن عيينة، والوليد بن مسلم، وعبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، ووكيع بن الجراح، وأشهب، وطائفة. ولم يتوسع في الحديث كما توسع في الفروع. وقد لازم ابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، حتى صار من نظرائهم. وساد أهل المغرب في تحرير المذهب، وانتهت إليه رئاسة العلم. وعلى قوله المعوّل بتلك الناحية، وتفقّه به عدد كثير. وعن أشهب قال: ما قدم علينا أحد مثل سحنون. وعن يونس بن عبد الأعلى قال: سحنون سيد أهل المغرب. وقال عيسى بن مسكين: سحنون راهب هذه الأمّة، ولم يكن بين مالك وسحنون أحد أفقه من سحنون. وكان يقول عن نفسه: "إني حفظت هذه الكتب، حتى صارت في صدري كأم القرآن". وكان إذا قرئت عليه مغازي ابن وهب تسيل دموعه، وإذا قرئ عليه الزهد لابن وهب يبكي.

ومن أقوال الإمام سحنون رحمه الله: "محبّ الدنيا أعمى، لم ينوّره العلم". وقال: "كان بعض من مضى يريد أن يتكلم بالكلمة، ولو تكلم بها لانتفع بها خلق كثير، فيحبسها، ولا يتكلم بها مخافة المباهاة. وكان إذا أعجبه الصمت تكلم"، وقال: "أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علمًا". وقال: "ما وجدت من باع آخرته بدنيا غيره إلا المفتي". وعنه: "سرعة الجواب بالصواب أشدّ فتنة من فتنة المال".

توفي الامام سحنون في شهر رجب سنة أربعين ومئتين، وله ثمانون سنة، وخلفه ولده محمد. وقال أبو العرب: اجتمعت في سحنون خلال قلّما اجتمعت في غيره: الفقه البارع، والورع الصادق، والصرامة في الحق، والزهادة في الدنيا، والتخشّن في الملبس والمطعم، والسماحة. ولم يكن يهاب سلطانًا في حق، شديدًا على أهل البدع، انتشرت إمامته، وأجمعوا على فضله". رحمه الله تعالى.

16.                    سير أعلام النبلاء (12 / 67)

17.                    "رُوح القدس": القُدُس: الطهارة، ورُوح القدس: اسم جبريل عليه السلام أي: الروح المقدسة الطاهرة.

18.                    "نفث في رُوعِي": النفث: النفخ بالفم، والرُّوع بضم الراء: القلب، والمعنى: ألقى في قلبي، وألهمني. أما الرَّوع بفتح الراء فهو الفَزَعُ. وانظر: الصحاح للجوهري (٣/‏١٢٢٣)

19.                    ابن ماجه (٢١٤٤)، وابن حبان (٣٢٣٩)، والحاكم (٢/‏٤) وصححه الألباني في صحيح الجامع (٢٠٨٥)

20.                    أمراض القلوب (58)، مجموع الفتاوى (10 / 46)

21.                    أحمد (3712) وابن حبان (972) وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط – وإذا أطلقتُ الأرناؤوط فهو شعيب رحمه الله-.

22.                    البخاري (1294) ومسلم (103) (165)

23.                    في نسبته هذه الأربع لأمر الجاهلية مذمّة كافية، فأمر الجاهلية موضوع، وما نُسب إليها على لسان الشرع فهو مذموم.

24.                    الأحساب: هي ما افتُخر بها من أمور معنوية كالنسب والجاه والمنصب. فالأنساب داخلة في الأحساب، ولمّا كان الفخر تارة يكون بها وتارة بغيرها كالمنصب والجاه والمال ونحوها عمّم ذلك، أما الطعن فلا يكون عادة إلا في النسب فخصّه، والله أعلم.

25.                    مسلم 3/45 (934) (29) والسربال هو القميص أو الثوب. أما الدرع فهو ما كان لاصقًا بالبدن.

26.                    البخاري (1284) ومسلم (923)

27.                    البخاري (6351)، ومسلم (2680)

28.                    البخاري (7226)

29.                    مسلم (8/56)

30.                    يصحُّ: قَدَرُ الله، وقَدَّرَ الله.

31.                    وانظر: الرضا بالقضاء، سالم القرني، مجلة جامعة أم القرى (5 / 353-367)

32.                    البخاري (5750) مسلم (2191)

33.                    البخاري (5999)

34.                    ابن ماجه (3427) وصححه الألباني. وأحمد (18455) بلفظ: "إلا الموت والهرم" وحسنه محققوه.

35.                    شرح الزاد للشنقيطي (11/ 348)

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق