إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

حبُّ الدُّنيا

 

حبُّ الدُّنيا

 

الحمد لله، وبعد؛ فإن من غرائز النفوس التي لا تكاد تنفك عنها حب الدنيا، قال تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والحرث)، وقد أرشد سبحانه بعد بيان حالنا الضعيف مع زينة الدنيا إلى ما ينبغي لنا حقًّا أن نرتقي إليه، فقال تبارك وتعالى: (قل أؤنبؤكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله). وقال سبحانه مُعَرِّيًا غريزة بني آدم: (وتحبون المال حبا جما)، وقال سبحانه مبيّنًا حقيقة الدنيا وحال الغافلين معها: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما)، ثم نقل الوصف مباشرة للآخرة فقال: (وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله) أي: اختاروا مصيركم، واحرثوا لآخرتكم، واعملوا لمنازلكم غدًا. وتدبر قوله تعالى ورجمته بنا حين زوى كثيرًا من ترف الدنيا عنا، فقال سبحانه: ﴿ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فِضَّةٍ ومَعارِجَ عَلَيها يَظْهَرُونَ﴾ قال الحسن رحمه الله تعالى: "لولا أن يكون الناس كفارًا أجمعون، يميلون إلى الدنيا، لجعل الله تبارك وتعالى الذي قال، ثم قال: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها، وما فعل ذلك، فكيف لو فعله؟! ذكره الطبري في تفسيره (٢١/‏٥٩٨).

 وروى أحمد (14037) والنسائي (7/61) بسند جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حُبّب إلي من دنياكم النساء، والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة". وروى البخاري (٥٤٣١) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كانَ رَسول اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ الحَلْواءَ والعَسَلَ». ونحو هذا من الطيبات المعينة على عبادة الله تعالى. فحبُّ الدنيا غريزة هذبتها الشريعة، وأكثرها محتاج لمجاهدة قلب حتى يكتفي منها بالبُلغة للوصول لغايته في الدار الآخرة، والعاقل هو من لم يُحبّ الدنيا لذاتها بل بما تفضي به إلى مرضاة الله.

 قال ابن تيمية رحمه الله في الصفدية (2 / 272): "ليس في الدنيا من اللذات أعظم من لذة العلم بالله وذكره وعبادته، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"، هكذا لفظ الحديث، لم يقل: حبّب إلي ثلاث، فإن المُحبّب إليه من الدنيا اثنان، وجعلت قرة عينه في الصلاة، فهي أعظم من ذينك، ولم يجعلها من الدنيا".

 ومن أمثلة محبة العلم أن ابن هطيل رحمه الله تعالى كان مُوْلعًا بشرح الرضى على كافية ابن الحاجب، لا يفارقه في أغلب أوقاته، فلما حضرته الوفاة طلب هذا الشرح، ثم وضعه على صدره، وقال:

تمتَّعْ من شَميمِ عَرَارِ نجدٍ  ...   فما بعد العَشيّةِ من عَرَارِ

وبالجملة؛ فحب الدنيا غريزة هذّبها الشرع، إنما المذموم هو المبالغة في زينتها، والتنافس في حطامها الذي يقسّي القلب فيغفل عن معالي الآخرة. وترك زيادة الترفّه والتنعّم جادة نبوية لا مطلق الطيبات، فقد قال سبحانه: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون). وفي صحيح البخاري معلقًا (10/264). - وقد وصله النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده- باب قول الله تعالى: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده }، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدّقوا في غير إسراف ولا مَخْيَلة". وقال ابن عباس: "كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سَرَفٌ أو مخْيَلةٌ". وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (17186) أن ابن عباس لما ذهب لمناظرة الخوارج قالوا له: مرحبًا بك يا أبا عباس فما هذه الحُلّة؟ قال: قلت: ما تعيبون عليَّ؟! لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل، ونزلت: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق).

ولنا في الأنبياء أسوة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «بَيْنا أيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرادٌ مِن ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ، فَناداهُ رَبُّهُ: يا أيُّوبُ، ألَمْ أكُنْ أغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرى؟ قالَ: بَلى وعِزَّتِكَ، ولَكِنْ لا غِنى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ». رواه البخاري (٢٧٩) قال القَسطلاّني رحمه الله في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (١/‏٣٣٣): "قوله: "ولكن لا غِنى بي عن بركتك": أي خيرِك، واستُنبط منه فضل الغِنى لأنه سمّاه بركة، ومُحالٌ أن يكون أيوب صلوات الله عليه وسلامه أخذ هذا الماء حبًّا للدنيا، وإنما أخذه كما أخبر هو عن نفسه لأنه بركة من ربه تعالى لأنه قريب العهد بتكوين الله تعالى، أو أنّه نعمة جديدة خارقة للعادة، فينبغي تلقّيها بالقبول، ففي ذلك شكر لها وتعظيم لشأنها، وفي الإعراض عنها كفرٌ بها، وفيه جواز الاغتسال عريانًا؛ لأنّ الله تعالى عاتبه على جمع الجراد، ولم يعاتبه على الاغتسال عريانًا". أهـ. باختصار. وبالله التوفيق.

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق