إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

هل الرضا بالله تعالى موهبيٌّ أم كسبيٌّ؟

 

هل الرضا بالله تعالى موهبيٌّ أم كسبيٌّ؟

 

أي: هل يُوهَبُ من الله كالغريزة، وهو ما يسمونه بالحال، أم يمكن للعبد تحصيله؟ ويسمّونه المقام. أي هل هو فطريٌّ، أم لا يُحَصل إلّا بالمجاهدة ورياضة النفس؟

والجواب: أنه هذا وهذا، فأصله موجود في معدن المرء وجِبِلَّته وغريزته، مختلفٌ وجودًا وعدمًا، قوةً وضعفًا من شخص لآخر، كما أن للعلم بالوحي الشريف مع الدُربة والمجاهدة أثر أصيل في إيجاده – بإذن الله تعالى - إن كان معدومًا، وفي حفظه  وزيادته وتقويته إن كان موجودًا، وكلما زاد العلم بالله وشرعه في القلب ازدادت موارد الرضا به تبارك وتعالى، وكلما تقلص العلم به بَرَكَ الجهل بكلكله على كاهله، فأخمد جذوته، وأطفأ نوره، وأضعف قوّته، كذلك إذا داوم العبد على تحريك قلبه به – إذ هو منقسم على علم القلب وعمله – فتفكّر فيه، ومارسه، وحَيَا به، وتذكّره آناء الليل وأطراف النهار وعند نومه بقوله بلسانه المواطئ قلبه: "رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا" (1). ويُخْطِرُ تلك المعاني الطاهرة الجميلة المُفعَمة على نياط قلبه كلّما لاحت مناسبتُه، حينها يقوى رضاه بربه، فلا يزال في زيادة علمٍ مباركٍ حتى يلقى الله تعالى يوم يقوم الأشهاد.

وبالجملة؛ فالرضا مبنيٌّ في الأساس على علوم وأعمال أخرى كالعلم بصفات الله تعالى وأفعاله، وكالتوكل والتفويض والتسليم والمحبة والإخلاص، فعلى قدرها يكون غَناءُ التوكل وضعفُه بضعفِها. وعليه؛ فالرضا موهبيّ كسبيّ، وهو محض فضل الله تعالى على عبده بإيجاده في قلبه ابتداءُ، وبحراسته وعمارته وإمداد عبده وإعانته بطرائقِ تحصيله ووسائل زيادته وحبالِ حفظه انتهاءً.

قال المُنجّد حفظه الله تعالى: "الرضا كسبيٌّ باعتبار سببه، موهبيٌّ باعتبار حقيقته. فإذا تمكن العبد في أسباب الرضا وغرس شجرة الرضا في قلبه جنى الثمرة. لأن الرضا آخر التوكل. فبعدما يعجز التوكل يأتي الرضا. و الذي ترسخ قدمه في طريق التوكل ينال الرضا. لأن بعد التوكل والتسليم والتفويض يحصُل الرضا، و بدونها لا يحصل الرضا.

ولذلك لو قال أحدهم: نريد تحصيل الرضا، نقول له: يجب أن يكون لديك توكلٌ صحيحٌ وتسليمٌ وتفويضٌ، ثم ينتج الرضا بعد ذلك. ولذلك لم يُوجِب الله على عباده المنازل العالية من الرضا؛ لأن ذلك شيءٌ صعبٌ جدًّا، وأكثر النفوس ربما لا يحصُل لها ذلك.

فالله ندب إليه ولم يوجبه - ليس أساس الرضا وإنما ما فوق ذلك- فإذا حصل للعبد شيءٌ فإنه لا بد أن يكون محفوفًا بنوعيه من الرضا: رضًا قبله، و رضًا بعده. وكذلك الرضا من الله عز وجل عن العبد، إنما هو ثمرة رضا العبد عن الرب سبحانه، فإذا رضيتَ عن الله رضي الله عنك.

والرضا باب الله الأعظم وجَنَّة الدنيا ومُسْتَراح العارفين وحياة المحبين ونعيم العابدين، وهو من أعظم أعمال القلوب. قال يحيى بن معاذ لما سئل: متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا؟ قال: "إذا أقام نفسه على أربعةِ أصولٍ يُعامِل بها ربه: يقول: إن أعطيتني قبلتُ، وإن منعتني رضيتُ، وإن تركتني عبدتُ، وإن دعوتني أجبتُ".

والرضا إذا باشر القلب؛ فإنه يدل على صحة العلم، وليس الرضا والمحبة كالرجاء والخوف، فمن الفروق: أن أهل الجنة مثلًا لا يخافون في الجنة ولا يرجون مثل رجاء الدنيا، لكن لا يفارقهم الرضا أبدًا. فإن دخلوا الجنة فارقهم الخوف ( لا خوفٌ عليهم و لا هم يحزنون ). في الدنيا هناك خوف، فإذا دخلوا الجنة زال الخوف. أما الرضا فلا يزول خارج الجنة و داخلها.

فالخوف والرجاء في الدنيا ليس موجودًا عند أهل الجنة في أحوال (2)، أما الرضا فلا يفارق العبد لا في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة ولا في الجنة. ينقطع عنهم الخوف؛ لأن الشيء الذي كانوا يخافونه أمِنوه بدخولهم الجنة، وأما الشيء الذي كانوا يرجونه فقد حصل لهم، أما الرضا فإنه لا يزال معهم وإن دخلوا الجنة. معيشتهم راضيةٌ وهم راضون، و رضوا عن الله، وراضون بثوابه وما آتاهم في دار السلام" (3).

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

..........................................

1-    قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم، أو إنسان، أو عبد، يقول، حين يمسي، وحين يصبح: رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا؛ إلا كان حقًّا على الله أن يرضيه يوم القيامة». رواه ابن ماجه (2/ 3870) وفي الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.

2-    قال ابن القيم في التفرقة بين الرجاءين: "لكنه ليس رجاء مشوبًا بشكٍّ، بل هو رجاءُ واثقٍ بوعدٍ صادقٍ من حبيبٍ قادر، فهذا لون ورجاؤهم في الدنيا لون". مدارج السالكين (2 / 175)

3-    سلسلة أعمال القلوب، محمد المنجد (2/ 24-25) بتصرف يسير، وانظر تفصيل ذلك في مدارج السالكين (2 / 173) وما بعدها.

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق