إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

(وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم)

 

(وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم)

 

وَرُبَّ باكٍ فَواتَ حاجَتِه   ...   وَفي الفَواتِ النَجاةُ مِن عَطَبِه

إنّ المؤمن راض مسلّم لأمر ربه تعالى ليقينه بعلمه محكمته ولطفه ورفقه ورحمته، وأن ما يختاره مولاه له خير مما يختاره هو لنفسه، فهو أرحم به من نفسه ومن والديه له، فهو راض سعيد بتدبير ربه واختياره مهما كان حاله الظاهر بائسًا، فاختيار الله تعالى لعبده خير من اختيار العبد لنفسه، فهو أعلم وأرحم وأحكم وألطف وأرفق به من نفسه، فعلام يتبرّم العبد بفعل مولاه.

 وتدبر مرارًا قوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، ولاحظ كيف وصف الله تعالى الأمرَ الذي كرهته بعض النفوس بالخير لها وهي لا تعلم، وكيف وصف الأمر الذي أحبته بالشر لها، فلم يذكر أن غيره خير منه ونحو ذلك، بل وصفه بالشرّ، مع أنها – لجهلها بالعاقبه – تُحبّه! فإنها لجهلها تحب ما فيه حتفها وهلاكها وتكره ما فيه نجاتها وفلاحها. ثم قف كثيرًا عند خاتمة الآية وسلّم لربك كلَّ أمرك (والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، فعِلْمُ الله كامل تامّ مستغرق لكل أمرك ماضيه وحاضره ومستقبله، ومحيط بكل تفاصيله، ويعلم كل ما يكتنف أمرك من أمور أخرى تغيّر حقيقته أو مساره، ففوّض أمرك إليه، وسلّمه له، وارض به كل الرضا، واعلم أنه لا يخيب مع ربه من هذا دِينُ قلبِه.

ومن عرف حقيقة الدنيا والآخرة هانت نفسه لله تعالى، وقرّت عينه به، واكتفى به عمّا سواه، ولم يلتفت لِما فاته من حطام الدنيا ما دام دينُه مُعافى، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية. فما أستطيع أن أسأله هيبة له.. الحديث وفيه: فقلت (1): يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟». (2) قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف، فإنه موضوع على عكس الأغراض، فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض، فإن دعا وسأل بلوغ غرض؛ تعبّدَ الله بالدعاء، فإن أُعطي مراده شكر، وإن لم ينل مراده فلا ينبغي أن يلحّ في الطلب؛ لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض، وليقل لنفسه: ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )، ومن أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه، وربما اعترض في الباطن، أو ربما قال: حصول غرضي لا يضر، ودعائي لم يستجب. وهذا كله دليل على جهله وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة.

 ومن الذي حصل له غرض ثم لم يُكدّر؟! هذا آدم، طاب عيشه في الجنة، وأخرج منها، ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده، والخليل ابتلي بالنار، وإسحاق بالذبح (3) ويعقوب بفقد الولد، ويوسف بمجاهدة الهوى، وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان بالفتنة، وجميع الأنبياء على هذا. وأما ما لقي نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش فمعلوم، فالدنيا وضعت للبلاء، فينبغي للعاقل أن يوطّن نفسه على الصبر، وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلُطْفٌ، (4) وما لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبلّة للدنيا، كما قيل:

طُبِعتْ على كدرٍ وأنت تريدُها ... صفوًا من الأقذاءِ والأكدَارِ" (5)

وقال ابن القيم رحمه الله في الآية: (وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون): "في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد، فان العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه؛ لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة؛ لعدم علمه بالعواقب. فان الله يعلم منها مالا يعلمه العبد. وأوجب له ذلك أمورًا منها: أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شقّ عليه في الابتداء، لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح، وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع. وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهى وإن هويته نفسه ومالت إليه، وأنّ عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب.

 وخاصَّةُ العقلِ تحمّل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل، فنظرُ الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها، والعاقل الكيّس دائمًا ينظر إلى الغايات من وراء ستور مبادئها، فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة. فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خُلِطَ فيه سمّ قاتل، فكلّما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السمّ، ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مُفضٍ إلى العافية والشفاء، وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمَرَهُ نفعُه بالتناول. ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها، وقوة صبر يوطّن به نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤول إليه عند الغاية. فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك، وإذا قوي يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة.

 ومن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يختاره له ويقضيه له، لما يرجو فيه من حسن العاقبة.

ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم، (6) فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئًا، بل يسأله حسن الاختيار له، وأن يرضيه بما يختاره، فلا أنفع له من ذلك.

 ومنها: أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمدّه فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر، وصرَف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه. (7)

ومنها: أنه يريحه من الأفكار المُتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرّغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عَقَبَة وينزل في أخرى، ومع هذا فلا خروج له عما قدّر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه، لأنه مع اختياره لنفسه. ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به، فيصير بين عطفه (8) ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره ولطفه يهوّن عليه ما قدّره. وإذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيّله في رده، فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي ربّه". (10)

وتأمل دعاء الاستخارة تجد فيه راحة الصدر وقرة العين ورسوخ الثقة وثلج اليقين، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلّم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلّم السورة من القرآن، يقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر- ثم يسميه بعينه- خيرًا لي في عاجل أمري وآجله- أو قال: - في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- فاقدُره لي، ويسّره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أنه شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رَضّني به». (10)

ومن الرضا والتفويض الإكثار من الحوقلة ومن ما شاء الله، لأن التوكل موصل للرضا. ومن أدامهما كُوفئ بنخلِ الجنة وقوّةِ الدنيا. قال الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله: "قول ما شاء الله، لا حول ولا قوّة إلا بالله. قالها الإمام مالك لمن سأله كيف حصلت هذا العلم؟‏ ‏وهذا الدعاء فيه شبه إجماع من أهل العلم أن من افتتح به الدرس يُفتح عليه". (11) ومن صيد خواطر ابن الجوزي رحمه الله أنه قد عقد فصلًا سمّاه: الندم على ما فات، قال فيه: "تأملت أحوال الفضلاء، فوجدتهم - في الأغلب - قد بُخسوا من حظوظ الدنيا، ورأيت الدنيا - غالبًا - في أيدي أهل النقائص.

فنظرت في الفضلاء، فإذا هم يتأسفون على ما فاتهم مما ناله أولو النقص، وربما تقطع بعضهم أسفًا على ذلك. فخاطبت بعض المتأسفين فقلت له: ويحك تدبر أمرك، فإنك غالط من وجوه:

أحدها: أنه إن كانت لك همة في طلب الدنيا، فاجتهد في طلبها تربح التأسّف على فوتها، فإن قعودك متأسفًا على ما ناله غيرك، مع قصور اجتهادك غاية العجز.

والثاني: أن الدنيا إنما تُراد لتُعبَر لا لتُعمَر، وهذا هو الذي يدلك عليه علمك ويبلغه فهمك. وما يناله أهل النقص من فضولها يؤذي أبدانهم وأديانهم. فإذا عرفت ذلك ثم تأسفت على فقدِ ما فقدُه أصلحُ لك، وكان تأسُّفُك عقوبةً لتأسّفِكَ على ما تعلم المصلحة في بُعْدِه، فاقنع بذلك عذابًا عاجلًا، إن سلمت من العذاب الآجل.

والثالث: أنك قد علمت بخس حظ الآدمي في الجملة من مطاعم الدنيا ولذاتها، بالإضافة إلى الحيوان البهيم، لأنه ينال ذلك أكثر مقدارًا مع أمن، وأنت تناله مع خوف وقلة مقدار. فإذا ضوعف حظك من ذلك كان ذلك لاحقًا بالحيوان البهيم من جهة أنه يشغله ذلك عن تحصيل الفضائل. (12) وتخفيف المؤن يحث صاحبه على نيل المراتب. فإذا آثرت - مع قلة الفضول - الفضول، عدت على ما علمت بالإزراء، فشُتّت علمك، ودُللت على اختلاط رأيك". (13)

فَلا تَجزَع وَإِن أَعسَرتَ يَومًا  ...  فَقَد أَيسَرتَ في الزَمَنِ الطَويلِ

وَلا تَيأَس فَإِنَّ اليَأسَ كُفرٌ  ...  لَعَلَّ اللَهَ يُغني عَن قَليلِ

وَلا تَظنُن بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوءٍ  ... فَإِنَّ اللَهَ أَولى بِالجَميلِ

وعلى الداعي تصديق الوعد بالإجابة، فلا يحمل همّها ما دام مستجمعًا أسباب قبولها، عالمًا معاني إجابتها بالتعجيل أو التأجيل أو كفاية الشر بقدرها أو ادخارها حسنات، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم؛ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمّا أن تُعجّل له دعوتُه، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يُصرف عنه من السوء مثلها"، قالوا: إذا نُكثر. قال: "الله أكثر". (14) و"ينبغي لمن وقع في شدّة ثم دعا أن لا يختلج في قلبه أمرٌ من تأخير الإجابة أو عدمها. لأن الذي إليه أن يدعو، والمدعوُّ مالك حكيم، فإن لم يُجِبْ فَعَلَ ما يشاء في ملكه، وإن أخَّرَ فَعَلَ بمقتضى حكمته. فالمعترض عليه في سرّه خارج عن صفة عبد، مزاحم بمرتبة مستحق.

ثم ليعلم أن اختيار الله عز وجل له خير من اختياره لنفسه. فربما سأل سيلًا سال به! وروي أن أحد السلف كان يسأل الله عز وجل أن يرزقه الجهاد فهتف به هاتف: "إنك أن غزوت أُسرتَ، وإن أُسِرْت تنصّرت".

فإذا سلّم العبد تحكيمًا لحكمته وحكمه، وأيقن أن الكل ملكه؛ طاب قلبه، قُضيت حاجته أو لم تقض. فإذا رأى يوم القيامة أن ما أُجيب فيه قد ذهب، وما لم يُجب فيه قد بقي ثوابه، قال: ليتك لم تجب لي دعوة قط. فافهم هذه الأشياء، وسلّم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال". (15)

ومما يعين على الرضا والتسليم؛ اليقين بأن تدبير الله للعبد أجدى وأنفع من تدبير العبد لنفسه، وأن العاقبة غيب لا يعلمه إلا مولاه، فخير له أن يرضى بتدبير من هو أرحم به من نفسه، وتأمل قصة الخضر مع موسى عليه السلام في السفينة والغلام والجدار، وما تحتها من معان عظيمة في الرضا والتسليم والحمد والشكر لله رب العالمين. وسنذكر ما تيسر منها مع شرح الإمام البغوي لها في تفسيره القيم، قال في قوله تعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا )، "قال: { فَانْطَلَقَا } يمشيان على الساحل يطلبان سفينة يركبانها، فوجدا سفينة فركباها، وعن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مرّت بهم سفينة فكلّموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نَوْلٍ (16) فلما لججوا البحر أخذ الخضر فأسًا فخرق لوحًا من السفينة"، (17) فذلك قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ } له موسى { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } أي: منكرًا، والإمرُ في كلام العرب: الداهية، وأصله: كل شيء شديد كثير. وقال القتيبي: { إِمْرًا } أي: عجبًا. وروي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء. وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشى به الخرق.

{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) }، قال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كانت الأولى من موسى نسيانًا، والوسطى شرطًا، والثالثة عمدًا". (18) { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } في القصة أنهما خرجا من البحر يمشيان، فمرّا بغلمان يلعبون، فأخذ الخضر غلامًا ظريفًا وضيء الوجه، فأضجعه ثم ذبحه بالسكين. قال السدي: كان أحسنهم وجهًا، وكان وجهه يتوقّد حسنًا. قال ابن عباس: كان غلامًا لم يبلغ الحنث. وهو قول الأكثرين. قال ابن عباس: لم يكن نبي الله يقول: (أقتلت نفسا زكية) إلا وهو صبي لم يبلغ. وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الغلام الذي قتله الخَضِرُ طُبِعَ كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا". (19) { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } أي: منكرًا. قال قتادة: النُّكر أعظم من الإمر؛ لأنه حقيقة الهلاك، وفي خرق السفينة كان خوف الهلاك.

قوله عز وجل: { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا } أي فعلمنا { أَنْ يُرْهِقَهُمَا } يغشيهما { طُغْيَانًا وَكُفْرًا } قال سعيد بن جبير: فخشينا أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه. { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً } أي صلاحًا وتقوى { وَأَقْرَبَ رُحْمًا }، قال قتادة: أي أوصل للرحم وأبرّ بوالديه. قال الكلبي: أبدلهما الله جارية، فتزوجها نبيّ من الأنبياء، فولدت له نبيًّا فهدى الله على يديه أمة من الأمم.

قال مطرف: فرح به أبواه حين وُلد، وحزنا عليه حين قتل. ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله تعالى، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وقال عز وجل: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا). (20)

وقد كتب ابن القيم رحمه الله فائدة جليلة من قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) وقوله عز و جل: (وان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)، "فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية، والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية. فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه، وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده، ويحب الموادعة والمتاركة وهذا المحبوب شرّ له في معاشه ومعاده، وكذلك يكره المرأة لوصفٍ من أوصافها وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها وله في إمساكها شرّ كثير لا يعرفه!

فالإنسان كما وصفه به خالقه ظلوم جهول، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه. فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه، وأضرّ الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه، فاذا قام بطاعته وعبوديته مخلصًا له؛ فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرًا له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته؛ فكل ما هو فيه من محبوب هو شرّ له.

 فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب. فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارِّها وأسباب هلكتها في محبوباتها.

 فانظر إلى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعاهدها بالسقي والإصلاح، حتى إذا أثمرت أشجارُها أقبل عليها يُفصِّل أوصالها ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو خلّيت على حالها لم تطب ثمرتُها، فيُطَعّمها من شجرة طيّبة الثمرة حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها أقبل يقلّمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها، ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها، لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك.

 ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت، بل يعطّشها وقتًا ويسقيها وقتًا، ولا يترك الماء عليها دائمًا وإن كان ذلك أنضر لورقها وأسرع لنباتها. ثم يعمد إلى تلك الزينة التي زيّنت بها من الأوراق فيُلقي عنها كثيرًا منها لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما في شجر العنب ونحوه، فهو يقطع أعضاءها بالحديد ويلقي عنها كثيرًا من زينتها وذلك عين مصلحتها، فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهّمتْ أن ذلك إفساد لها وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتها.

 وكذلك الأب الشفيق على ولده، العالم بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بَضَعَ جلده وقَطَعَ عروقه وأذاقه الألم الشديد، وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه، وكان ذلك رحمة به وشفقة عليه. وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه؛ لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته حمية له ومصلحة، لا بخلًا عليه.

 فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم اذا أنزل بهم ما يكرهون؛ كان خيرًا لهم من أن لا ينزله بهم، نظرًا منه لهم وإحسانا إليهم ولطفًا بهم، ولو مُكّنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علمًا وإرادة وعملًا، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته، أحبوا أم كرهوا.

 فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه، وخفي ذلك على الجهلة به وبأسمائه وصفاته فنازعوه تدبيره وقدحوا في حكمته ولم ينقادوا لحُكمه، وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عرفوا، ولا لمصالحهم حصّلوا، والله الموفق.

 ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جَنّة لا يشبهها فيها إلا نعيم الآخرة، فإنه لا يزال راضيًا عن ربه. والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين، فإنه طيّب النفس بما يُجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له، وطمأنينته إلى أحكامه الدينية، وهذا هو الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا. وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك.

 وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره، فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضى، فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة، لا يخرج عن ذلك البته، كما قال في الدعاء المشهور: "اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك، سمّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي. ما قالها أحد قط الا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحًا" قالوا: أفلا نتعلّمهن يا رسول الله؟ قال: "بلى، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن". (21) والمقصود قوله: "عدل فيّ قضاؤك" وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو ألم وسبب ذلك، فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبّب، وهو عدل في هذا القضاء، وهذا القضاء خير للمؤمن كما قال: "والذى نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء الا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن". (22) فسألت شيخنا (23) هل يدخل في ذلك قضاءُ الذنب؟ فقال: نعم بشرطه. فأجمَلَ في لفظةِ بشرطه ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذلك". (24)

ومن يحمد الدنيا لعيشٍ يسرُّهُ  ...  فسوف – وربّي- عن قليلٍ يلومُها

ولله الأمر من قبل ومن بعد، فإنا نكتب هذا الآن ( شعبان/ ١٤٤١) والعالم أجمع يكتسحه بأمر الله تعالى وباء قاتل يسمونه كورونا (كوفيد ١٩) وقد غصت مشافي بعض الدول بالحالات الحرجة، وفاضت ثلاجات الموتى بعشرات الآلاف من جثث المتوفين حتى وضعوها في صالات التزلج الواسعة، وعطلت الجمعة والجماعة في أكثر بلاد الإسلام، وصار حظرٌ للتجوال على مدار اليوم والليلة. والناس في استغفار وتوبة وجؤار بالدعاء وقنوت وابتهال، فهم في كرب لا يعلمه إلا الله، ولا نعلم كيف ستنجلي، ولكنّا على يقين بأنها خير للمؤمن فإما شهادة أو عافية، والحمد لله على كل حال. سائلًا المولى الرحيم أن يرفع الوباء والبلاء، وأن ينزل رحمته ولطفه وعافيته إنه سميع قريب مجيب. ومهما يكن من أمر فأمر الله كله خير، وكل مصيبة ليست في الدين فخطبها يسير مقارنة بمصائب الأديان. والخيبة كل الخيبة ظنُّ المبتلى في دِينه أنه معافى.. (فأنساهم أنفسهم).

وكلُّ كسرٍ فإنّ الدينَ يجبرُه   ...  وما لكسر قناة الدين جبرانُ

ولله في ذلك حكم باهرة لا نعلمها والله يعلمها وهو العليم الخبير، آمنا وسلمنا وإلى الله أنبنا وإلى الله المصير. ومن حِكَم ذلك أنها قرعت قلوب الناس فدفعتهم للتوبة من الحوبة، وللأوبة من الشوبة، وللاستيقاظ من رقدة الغفلة، والاستعداد ليوم النُّقْلَة. ومن حكمها التي رأيناها عيانًا بيانًا أنها ردّت جبابرة الملاحدة للتواضع والانكسار والافتقار التام، وحنت جباههم خضوعًا وأذلّت أعناقهم خشوعًا خوفًا من سوء مصير الدنيا، فهم من أحرص الناس على الحياة، لأنها في أعينهم حياة واحدة، وقد جاءهم ما لا قِبَلَ لهم به، وأفزعهم فيروسٌ لا يرى بالعين، ولا ترده الأسلحة ولا المبيدات، فبينا هم يزعمون أنهم أصبحوا – عياذًا بالله تعالى – آلهة تخلق وتدبر؛ إذ هم يصيحون فشلًا، ويبكون حيرة وخيبة، ويهلعون رعبًا ومخافة ويأسًا، والله تعالى يقول: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) وقال  تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ). وقال تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [ القصص : 58 ]. وقال سبحانه: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) } .

وتأمل خبر تلك النملة التي قالت لقومها ناصحة: (ادخلوا مساكنكم) فقد صارت اليوم عادٌ الثانية وطغاة العالم وجبابرة البشر يصيحون في أقوامهم: ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم ذلك الفيروس الذي لا يُرى، قالوا هذا وهم بالأمس يقولون: (من أشد منا قوة) فسبحان من لا يدوم سواه، ولا باقي إلا إيّاه، ولا أله إلا هو.

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

..............................

1.    القائل هنا هو عمر رضي الله عنه.

2.    البخاري، الفتح 8 (4913) واللفظ له، مسلم (1479)

3.    الصواب وعليه الأكثرون أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وآيات الكتاب بهذا شاهدة. قال شيخ الإسلام رحمه الله في مسألة تعيين الذبيح: "النزاع فيها مشهور، لكن الذي يجب القطع به أنه إسماعيل، وهذا الذي عليه الكتاب والسنة والدلائل المشهورة، وهو الذي تدل عليه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.. ومما يدل على أنه إسماعيل: قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات. قال تعالى: { فبشرناه بغلام حليم }، وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحلم، وأنه يكون حليمًا. وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال: { ستجدني إن شاء الله من الصابرين }؟ وقيل: لم ينعت الله الأنبياء بأقلّ من الحلم، وذلك لعزّة وجوده، ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالى: { إن إبراهيم لأواه حليم }، { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } لأن الحادثة شهدت بحلمهما: { فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } - إلى قوله - { وفديناه بذبح عظيم }. فهذه القصة تدل على أنه إسماعيل من وجوه:

أحدها: أنه بشره بالذبيح، وذكر قصته أوّلًا، فلما استوفى ذلك قال: { وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق }، فبيّن أنهما بشارتان؛ بشارة بالذبيح، وبشارة ثانية بإسحاق، وهذا بيّن.

 الثاني: أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إلا في هذا الموضع، وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة، كما في سورة هود من قوله تعالى: { وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب }، فلو كان الذبيح إسحاق لكان خُلفًا للوعد في يعقوب.

الوجه الثالث: أنه ذكر في الذبيح أنه غلام حليم، ولما ذكر البشارة بإسحاق ذكر البشارة بغلام عليم في غير هذا الموضع. والتخصيص لا بد له من حكمة، وهذا مما يقوّي اقتران الوصفين، والحلم هو مناسب للصبر الذي هو خُلُقُ الذبيح. وإسماعيل وُصف بالصبر في قوله تعالى: { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين }، وهذا أيضًا وجه ثالث فإنه قال في الذبيح: { يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين }، وقد وصف الله إسماعيل أنه من الصابرين، ووصف الله تعالى إسماعيل أيضًا بصدق الوعد في قوله تعالى: { إنه كان صادق الوعد } لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفّى به.

 الوجه الرابع: أن البشارة بإسحاق كانت معجزة؛ لأن العجوز عقيم، ولهذا قال الخليل عليه السلام: { أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون }، وقالت امرأته: { أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا }، وقد سبق أن البشارة بإسحاق في حال الكبر، وكانت البشارة مشتركة بين إبراهيم وامرأته. وأما البشارة بالذبيح فكانت لإبراهيم عليه السلام، وامتُحن بذبحه دون الأم المُبَشّرة به.

ومما يدل على أن الذبيح ليس هو إسحاق أن الله تعالى قال: { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } فكيف يأمر بعد ذلك بذبحه؟ والبشارة بيعقوب تقتضي أن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب. ولا خلاف بين الناس أن قصة الذبيح كانت قبل ولادة يعقوب، بل يعقوب إنما ولد بعد موت إبراهيم عليه السلام، وقصة الذبيح كانت في حياة إبراهيم بلا ريب.

ومما يدل على ذلك أن قصة الذبيح كانت بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسادن: "إني آمرك أن تُخمّر قرني الكبش، فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة ما يُلهي المصلي } (قلت: رواه أبو داود (2030) بنحوه، وصححه الألباني. والخمار: الغطاء. وقد احترق القرنان حينما أحرق الحجاج – بلا قصد - الكعبة برميها بالمنجنيق الملتهب نارًا، حينما كان ابن الزبير رضي الله عنهما متحصّنًا منه في مسجد الكعبة.) ولهذا جُعلت مِنى محلًّا للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن. ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة لا من أهل الكتاب ولا غيرهم، لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون أن قصة الذبح كانت بالشام فهذا افتراء؛ فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعُرف ذلك". مجموع الفتاوى (4 / 331- 335) مختصرًا.

4.    أي أن العبد إذا أعطاه الله مراده فإن هذا على خلاف سنّة الدنيا المُكَدّرة، إنما هو محض كرم الله تعالى ولطفه به.

5.    صيد الخاطر (399) والبيت الذي ختم به خاطرته مأخوذ من قصيدة أبي الحَسَن التِّهامِي في رثاء ابنه، وهي من الكامِل، مع التحفظ على قوله: "حكم المنيّة" فالحكم لله لا لمخلوقاته، وقد يكون قصد بذلك حكمُ الله تعالى بأن جعل سُنّته أن المنيّة – وهي الموت – جارية على جميع الناس، فبهذا التوجيه يكون البيت صالحًا. ومنها:

حُكْمُ الَمنِيَّةِ فِي البَريَّةَ جارِ … ما هَذهِ الدُّنْيا بدار قَرارِ

بَيْنا يُرى الإنْسانُ فِيها مُخْبِرًا … حَتّى يُرى خَبَرًا مِنَ الأخْبارِ

والنَّفْسُ إنْ رَضِيَتْ بذَلكَ أوْ أبَتْ … مُنْقادَةٌ بِأزمَّةِ الأقْدارِ

طُبعَتْ عَلى كَدَرٍ وأنْتَ تُرِيدُها … صَفْوًا مِنَ الأقْذارَ والأكْدارِ

وإذا رَجَوْتَ الُمسْتَحِيلَ فَإنّها … تَبْنِي الرَّجاء عَلى شَفِيرٍ هارِ

العَيْشُ نَوْمٌ والَمِنيَّةُ يَقْظَةٌ … والَمرْءُ بَيْنَهُما خَيالٌ سارِ

فاقُضُوا مَآرِبَكُمْ عِجالًا إنّما … أعْمارُكُم سَفَرٌ مِنَ الأسْفارِ

يا كَوْكَبًا ما كانَ أقْصَرَ عُمْرهِ … وكَذاكَ عُمُرُ كَواكِبِ الأسْحارِ

جاوَرْتُ أعْدائِي وجاوَرَ رَبَّهُ … شَتّانَ بَيْنَ جِوارهِ وجواري

6.    ولا يمنع هذا من دعاء ربه ما فيه صلاحه وقيامه من جلب الخير الخاص ودفع ضده، فالعبد على الدوام يسأل ربه كل حاجته، فما هو إلا به، وأنّا له إلّا عليه، قال سبحانه: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم).

7.    وتظهر هذه المعاني الجميلة في دعاء الاستخارة الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن.

8.    العطف هنا هو الرحمة والحنان.

9.    الفوائد (1 / 136- 138) مختصرًا.

10.                    البخاري، الفتح 13 (7390)

11.                    المجموع (ص: ٤٨٢)

12.                    أي لا يكن حظك كحظ الحيوان الذي غاية همته طعامه ولذته، لأنك إن زدت في همتك لتحصيل ما حصّله كنت شبيهًا له فيما يُحصّله وفيما حُرِمَ منه من فضائل الدين والعقل، وحُرمْتَ لذلك ما أُعطيه أهلُ الفضائل مع نقص لذائذ دنياهم الحسية.

13.                    صيد الخاطر (1 / 5)

14.                    أحمد (10749) وجود سنده محققوه. والبخاري في الأدب المفرد (710)، والحاكم (1/ 493) وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن صحيح.

15.                    صيد الخاطر (1 / 51) بتصرف يسير.

16.                    أي مجّانًا بلا أجرة.

17.                    البخاري (1 / 218)

18.                    البخاري: (5 / 326)، مسلم (4 / 1847-1850)

19.                    مسلم (2661)

20.                    تفسير البغوي (5/ 190-194) باختصار.

21.                    أحمد (3712) وضعفه محققوه من جهة الجهالة بأبي سلمة الجهني، وأنه راوٍ آخر غير أبي موسى الجهني. وصححه أحمد شاكر، وكان الأرناؤوط قد صححه في تخريج ابن حبان ثم تراجع عنه هنا، وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين (1/150) وصححه الألباني في الصحيحة (199) وقال: "ليس في الرواة من اسمه موسى الجهني إلا موسى بن عبد الله الجهني، وهو الذي يكنى بأبي سلمة، وهو ثقة من رجال مسلم.

22.                    مسلم (2999)

23.                    أي ابن تيمية رحمه الله.

24.                    الفوائد (1 / 91- 94)

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق