إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

مسائلُ في الصَّرْع

 

مسائلُ في الصَّرْع

 

الحمد لله، وبعد؛ فالصرْع- بتسكين الراء-: هو علة في الجهاز العصبي تصحبها غيبوبة وتَثَنّي في العضلات. وهو منقسم على الروح والجسد، فصرع الروح علّته قوى خفية كتلبّس الجان للمصروع، فيؤثر على الجسد فيصرعه. ودواء هذا النوع بالتوكل على الله تعالى وبالرقية والدعاء والاستغفار.

 أما صرع الجسد فهو علّة في الأعصاب لها أنواع سببها – بإذن الله - خلل في الجهاز العصبي، ودواء هذا النوع هو عين دواء النوع الأول مع زيادة أدوية الأطباء الحسية كوخزات الكهرباء أو بالأدوية والعقاقير المعتادة، ومع تقدم العلوم الطبية في مجال أمراض الدماغ والأعصاب عُرفت أنواع عديدة من الصرع تعود إلى خلل في كهرباء الدماغ يؤثر في أعضاء البدن، ولها أدوية تنظم كهرباء الدماغ فتمنع الصرع بإذن الله. وكذلك لبعض أنواعه علاج بالجلسات النفسية أحيانًا.

 والصرع بنوعية من جملة الابتلاء الإلهي كبقية الابتلاءات بالأمراض وغيرها التي تستوجب رجوعًا لله تعالى، وتعلقًا به سبحانه، وانطراحًا بين يديه، وانكسارًا لعظمته، وتذلّلًا لعزته تبارك وتعالى، مع بذل الوسع في رفع البلاء بالدعاء دومًا، وباستحباب الدواء أحيانًا.

وقد كثر خوض الناس في هذا الزمان في مسألة تلبّس الجانّ بالإنسان، وهذه المسألة مبنيّة على أُسّين:

أولاهما: وجود الجن، فهذا أمر معلوم متيقن منه، ومنكر الجن كافر لتكذيبه صريح القرآن والسنة المتواترة، فقد ذكرهم الله تعالى في آيات عديدة، كقوله عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، بل أنزل سورة سميت باسمهم، قال تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا). وعدم رؤيتنا لهم لا ينفي وجودهم، فقد جعل الله لهم خاصية الاختفاء عن أعيننا، قال سبحانه وتعالى:  ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ )، وذكر سبحانه وتعالى أصل خلق الجن فقال تعالى: ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانّ من نار، وخلق آدم مما وُصف لكم"، رواه مسلم (5314)

ولا يوجد في طوائف المسلمين من ينكر وجود الجن، بل حتى الكفار من اليهود والنصارى يؤمنون بوجودهم، قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (18/10): "لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا في أن الله أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم. وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن. أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين.. وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترا معلومًا بالاضطرار". وقال في الرد على المنطقيين (470): "عامّة أساطين الفلاسفة كانوا يقرون بهذه الأشياء، وكذلك أئمة الأطباء كأبقراط وغيره يقرّ بالجن، ويجعل الصرع نوعين: صرعًا من الخلْط، وصرعًا من الجن".

الثاني: دخول الجنّ لجسد الآدمي، ومنه التلبّس، فهذا ثابت، لكنه ليس كثبوت وجود الجن، وعليه من أنكر التلبّس فقد أخطأ وضل وكذّب ما ثبت في الأدلة الشرعية والواقع المتكرر وجوده. ولكن لخفاء هذه المسألة لا يُكَفَّرُ المخالف فيها، ولكن يُخَطَّأ ويُضلّل؛ لأنه لا يعتمد في إنكار ذلك على دليل، ولم يتعمّد تكذيب الوحي، وإنما يعتمد على عقله القاصر عن فهم كثير مما يحيط به في حياته، وهذا خذلان وضلال، مع أن العقل الصحيح لا يتعارض البتة مع النص الصحيح الصريح.

وقد ذُكر تلبس الجان للإنسي في سورة البقرة فقال تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)، أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا على هيئة المصروع الممسوس. وقد جاء في السنة ذكر المسّ كذلك – وهو التلبّس - فعند ابن ماجه (2 / 1174) (3548) وصححه الألباني عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: "لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أُصلّي! فلمّا رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ابن أبي العاص؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "ما جاء بك؟" قلت: يا رسول الله، عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي. قال: "ذاك الشيطان. ادنُه"، فدنوت منه، فجلستُ على صدور قدمَيّ. قال: فضرب صدري بيده وتفل في فمي وقال: "اخرج عدوَّ الله"! ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: "الحق بعملك". قال: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد". وفي رواية: فقلت: يا رسول الله، إن القرآن ينفلت مني، فوضع يده على صدري وقال: "يا شيطان، اخرج من صدر عثمان". فما نسيت شيئًا أريد حفظه". أخرجه البيهقي في دلائل النبوة ( 5 / 308 ) وقال الألباني في السلسلة (6/ 999): "إسناده صحيح.. وفي الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان ويدخل فيه ولو كان مؤمنًا صالحًا، وفي ذلك أحاديث كثيرة منها حديث يعلى بن مرّة، وذكر فيه خبر أمّ الصبي التي اعترضت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنها في سفره، وفيه: "وأتته امرأة فقالت: إن ابني هذا به لممٌ منذ سبع سنين يأخذه كل يوم مرتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَدنيه". فأدنته منه فتفل في فيه وقال: "اخرج عدوَّ الله، أنا رسول الله". ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رجعنا؛ فأعلمينا ما صنع". فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ استقبلته ومعها كبشان وأقط وسمن، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ هذا الكبش فاتخذ منه ما أردت". فقالت: والذي أكرمك؛ ما رأينا به شيئًا منذ فارقتنا.. الحديث.

وفي الختام أقول: ليس غرضي مما تقدم إلا إثبات ما أثبته الشرع من الأمور الغيبية، والرد على من ينكرها. ولكنني من جانب آخر أنكر أشد الإنكار على الذين يستغلون هذه العقيدة، و يتخذون استحضار الجن ومخاطبتهم مهنة لمعالجة المجانين والمصابين بالصرع، و يتخذون في ذلك من الوسائل التي تزيد على مجرد تلاوة القرآن مما لم ينزل الله به سلطانًا، كالضرب الشديد الذي قد يترتب عليه أحيانًا قتل المصاب، كما وقع هنا في عمّان وفي مصر، مما صار حديث الجرائد والمجالس. لقد كان الذين يتولون القراءة على المصروعين أفرادًا قليلين صالحين فيما مضى، فصاروا اليوم بالمئات، وفيهم بعض النسوة المتبرجات، فخرج الأمر عن كونه وسيلة شرعية لا يقوم بها إلا الأطباء عادة، إلى أمور ووسائل أخرى لا يعرفها الشرع ولا الطب معًا.. وقد ورد خبر آخر عن الطبراني في المعجم الكبير (5/275) (5314) في قصة الوازع، ولكن الخبر لا يثبت". أهـ مختصرًا.

وقد روى البخاري ( 2035 ) ومسلم ( 2175 ) عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيته أزوره ليلًا، فحدّثته، ثم قمت لأنقلب، فقام ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمرّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما، إنها صفية بنت حيي"، فقالا: "سبحان الله يا رسول الله"! فقال صلى الله عليه وسلم: "إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا، أو شيئًا". فدل هذا على وجود الجان في مسالك عروق الإنسان.

ومن الأدلة كذلك ما رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبَّر، ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك"، ثم يقول: "الله أكبر كبيرًا"، ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه ونفثه". رواه أبو داوود (775) وصححه الألباني. وقال في إرواء الغليل (2 / 56) بعد ذكر الروايات والشواهد: "وأما حديث أبي أمامة فلفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة من الليل كبّر ثلاثًا، وسبّح ثلاثًا، وهلّل ثلاثًا، ثم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه وشركه"، وفى رواية: "ونفثه" بدل "وشركه". أخرجه أحمد (5/253).. ثم استدركت حديثًا مرسلًا آخر، وفيه تفسير الألفاظ التي وردت في هذه الزيادة، وهو من رواية أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه"، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تعوّذوا بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه"، قالوا: يا رسول الله وما همزه ونفخه ونفثه؟ قال: "أما همزه فهذه الموتة التي تأخذ بني آدم، وأما نفخه فالكبر، وأما نفثه فالشِّعر". أخرجه أحمد (6/156) بإسناد صحيح إلى أبى سلمة، وفيه رد على من أنكر من المعاصرين ورود هذا التفسير مرفوعًا.

وبالجملة فهذه أحاديث خمسة مسندة، ومعها حديث الحسن البصري، وحديث أبي سلمة المرسَلَين إذا ضمّ بعضها إلى بعض قطع الواقف عليها بصحة هذه الزيادة، وثبوت نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى المصلي الإتيان بها اقتداء به عليه الصلاة والسلام. وأما الزيادة الأخرى وهي "السميع العليم" فصحيحة أيضًا، وقد ورد فيها أحاديث". أهـ.

 وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: "نفثه: الشعر، ونفخه: الكبِر، وهمزه: الموتة". قال ابن كثير (1/61): "فهمزه الموتة، وهو الخنق الذي هو الصرع". وقال ابن منظور (لسان العرب (2/93): "الموتة: جنس من الجنون والصرع، يعتري الإنسان فإذا فاق عاد إليه عقله". وقد ذكر القاضي أبو يعلى في طبقات الحنابلة (108- 109) أن الإمام أحمد بن حنبل كان يجلس في مسجده فأنفذ إليه الخليفة العباس المتوكل صاحبًا له يعلمه أن جارية بها صرع، وسأله أن يدعو الله لها بالعافية، فأخرج له أحمد نعلي خشب بشراك من خوص للوضوء، فدفعه إلى صاحب له، وقال له: "امض إلى دار أمير المؤمنين، وتجلس عند رأس الجارية وتقول له، - يعني الجان- قال لك أحمد: أيّما أحب إليك: تخرج من هذه الجارية، أو تصفع بهذه النعل سبعين"؟ فمضى إليه، وقال له مثل ما قال الإمام أحمد، فقال له المارد على لسان الجارية: السمع والطاعة، لو أمرنا أحمد أن لا نقيم بالعراق ما أقمنا به، إنه أطاع الله، ومن أطاع الله أطاعه كل شيء، وخرج من الجارية وهدأت ورزقت أولادًا، فلما مات أحمد عاودها المارد، فأنفذ المتوكل إلى صاحبه أبي بكر المَرُّوذي وعرّفه الحال، فأخذ المروذي النعل ومضى إلى الجارية، فكلمه العفريت على لسانها: لا أخرج من هذه الجارية، ولا أطيعك، ولا أقبل منك، أحمد بن حنبل أطاع الله، فأُمرنا بطاعته.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قومًا يقولون: إن الجنّ لا يدخل في بدن المصروع من الإنس، فقال: "يا بني يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه". وانظر: مجموع الفتاوى (19/12).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على المنطقيين" (407): "إن دخول الجني بدن الإنس، وتكلّمه على لسانه بأنواع الكلام وغير ذلك أمر قد علمه كثير من الناس بالضرورة..". وقد عالج ابن تيمية الإنسان المصروع بسبب الجني مرات كثيرة، وحدَّث عن نفسه في ذلك فقال: "كما قد فعلنا نحن هذا، وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين". (مجموع الفتاوى (19 / 60) وبنحوه قال الحافظ ابن حجر، وقبلهما ابن حزم في كثير من أهل العلم.

وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (4/66 ،70): "الصَّرْع صرعان: صَرْعٌ من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصَرْعٌ من الأخلاطِ الرديئة. والثاني: هو الذى يتكلم فيه الأطباء في سببه وعِلاجه.

وأما صَرْعُ الأرواح، فأئمتُهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأنَّ علاجه بمقابلةُ الأرواحِ الشريفةِ الخيِّرةِ العُلويَّة لتلك الأرواح الشِّريرة الخبيثة، فتُدافِعُ آثارها، وتعارضُ أفعالَها وتُبطلها، وقد نص على ذلك "أبقراط" في بعض كتبه، فذكر بعضَ عِلاج الصَّرْعِ، وقال: هذا إنما ينفع من الصَّرْع الذى سبَبُه الأخلاط والمادة. وأما الصَّرْع الذى يكون من الأرواح، فلا ينفع فيه هذا العلاج.

وأما جهلةُ الأطباء وَسقَطُهم وسفلَتُهم، ومَن يعتقِدُ بالزندقة فضيلة، فأُولئك يُنكِرون صَرْعَ الأرواح، ولا يُقرون بأنها تُؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهلُ، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يَدفع ذلك، والحِسُّ والوجودُ شاهدٌ به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط، هو صادق في بعض أقسامه لا في كلِّها.. وعِلاجُ هذا النوع يكون بأمرين: أمْرٍ من جهة المصروع، وأمْرٍ من جهة المعالِج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوةِ نفسه، وصِدْقِ توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوُّذِ الصحيح الذى قد تواطأ عليه القلبُ واللِّسان، فإنَّ هذا نوعُ محاربةِ، والمحَارِب لا يتمُّ له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعدُ قويًّا، فمتى تخلَّف أحدُهما لم يُغن السلاح كثيرَ طائلٍ، فكيف إذا عُدِمَ الأمران جميعًا: يكونُ القلب خرابًا من التوحيد، والتوكل، والتقوى، والتوجّه، ولا سلاحَ له. والثاني: من جهة المعالِج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضًا، حتى إنَّ من المعالجينَ مَن يكتفى بقوله: "اخرُجْ منه"، أو بقول: "بِسْمِ الله"، أو بقول: "لا حَوْل ولا قُوَّة إلا بالله"، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقولُ: "اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ، أنا رَسُولُ اللهِ".

وشاهدتُ شيخنَا يُرسِلُ إلى المصروع مَن يخاطبُ الروحَ التي فيه، ويقول: قال لكِ الشيخُ: اخرُجي، فإنَّ هذا لا يَحِلُّ لكِ، فيُفِيقُ المصروعُ، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروحُ مارِدةً فيُخرجُها بالضرب، فيُفيق المصروعُ ولا يُحِس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرُنا منه ذلك مرارًا. وكان كثيرًا ما يَقرأ في أُذن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115].

وحدَّثني أنه قرأها مرة في أُذن المصروع، فقالت الروح: نعم، ومدّ بها صوته. قال: فأخذتُ له عصا، وضربتُه بها في عروق عنقه حتى كَلَّتْ يدَاي من الضرب، ولم يَشُكَّ الحاضرون أنه يموتُ لذلك الضرب. ففي أثناء الضرب قالت: أَنا أُحِبُّه، فقلتُ لها: هو لا يحبك. قالتْ: أنَا أُريد أنْ أحُجَّ به. فقلتُ لها: هو لا يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مَعَكِ، فقالتْ: أنا أدَعُه كَرامةً لكَ، قال: قلتُ: لا ولكنْ طاعةً للهِ ولرسولِه، قالتْ: فأنا أخرُجُ منه، قال: فقَعَد المصروعُ يَلتفتُ يمينًا وشمالًا، وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟! قالوا له: وهذا الضربُ كُلُّه؟ فقال: وعلى أي شيء يَضرِبُني الشيخ ولم أُذْنِبْ، ولم يَشعُرْ بأنه وقع به الضربُ البتة. وكان يعالِجُ بآية الكرسي، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع، ومَن يعالجه بها، وبقراءة المعوِّذتين.

وبالجملة؛ فهذا النوعُ من الصَّرْع، وعلاجه لا يُنكره إلا قليلُ الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثرُ تسلّطِ الأرواح الخبيثةِ على أهلهِ تكون من جهة قِلَّةِ دينِهم، وخرابِ قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذِّكرِ، والتعاويذِ، والتحصُّناتِ النبوية والإِيمانيَّة، فَتَلْقَى الروحُ الخبيثةُ الرجلَ أعزلَ لا سلاح معه، وربما كان عُريانًا فيُؤثر فيه هذا.

ولو كُشِفَ الغِطاء، لرأيتَ أكثرَ النفوسِ البَشَريةِ صَرْعَى هذه الأرواحِ الخبيثةِ، وهي في أسرِها وقبضتِها تسوقُها حيثُ شاءتْ، ولا يُمكنُها الامتناعُ عنها ولا مخالفتها، وبها الصَّرْعُ الأعظمُ الذى لا يُفيقُ صاحبُه إلا عند المفارقةِ والمعاينةِ، فهناك يتَحقَّقُ أنه كان هو المصروعَ حقيقةً، وبالله المستعان.

وعلاجُ هذا الصَّرْع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءتْ به الرُّسُل، وأن تكون الجنَّةُ والنارُ نُصبَ عينيه وقِبلَة قَلْبِه، ويستحضر أهلَ الدنيا، وحلول المَثُولاتِ والآفات بهم، ووقوعَها خلال ديارهم كمواقع القَطر، وهُم صَرعَى لا يُفيقون، وما أشدَّ داءَ هذا الصَّرْعِ، ولكن لما عَمَّتِ البليَّةُ به بحيثُ لا يَرى إلا مصروعًا، لم يَصر مستغرَبًا ولا مستنكرًا، بل صار لكثرة المصروعين عَيْنَ المستنكَرِ المستغرَبِ خلافه.

 فإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا أفاقَ من هذه الصَّرْعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حولَه يمينًا وشمالًا على اختلافِ طبقاتهم، فمنهم مَن أطبَقَ به الجنونُ، ومنهم مَن يُفيق أحيانًا قليلةً، ويعودُ إلى جنونه، ومنهم مَن يُفيق مرةً، ويُجَنُّ أُخرى، فإذا أفاق عَمِل عَمَل أهلِ الإفاقةِ والعقل، ثم يُعَاوِدُه الصَّرْعُ فيقعُ في التخبط".

وقال العثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (1 / 40- 41): "والصرع نعوذ بالله منه نوعان: صرع بسبب تشنج الأعصاب وهذا مرض عضوي يمكن أن يعالج من قبل الأطباء بإعطاء العقاقير التي تسكّنه أو تزيله بالمرة. وقسم آخر بسبب الشياطين والجن، يتسلط الجني على الإنسي فيصرعه، ويدخل فيه، ويضرب به على الأرض، ويغمى عليه من شدة الصرع، وهذا النوع من الصرع له علاج يدفعه، وله علاج يرفعه. فهو نوعان:

 أما دفعه فبأن يحرص الإنسان على الأوراد الشرعية الصباحية والمسائية، وهي معروفة في كتب أهل العلم، منها آية الكرسي فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح. ومنها سورة الإخلاص والفلق والناس، ومنها أحاديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فليحرص الإنسان عليها صباحًا ومساء، فإن ذلك من أسباب دفع أذيّة الجن.وأما الرفع فهو إذا وقع بالإنسان فإنه يقرأ عليه آيات من القرآن فيها تخويف وتذكير واستعاذة بالله عز وجل حتى يخرج". أهـ باختصار. وقد كتب د. صالح الرقب رسالة نافعة في هذا الباب بعنوان: الأدلة الشرعية في إثبات صرع الشيطان للإنسان، والرد على المنكرين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق