إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

فضلُ الرِّضا بالله تعالى ومنزلتُه

 

فضلُ الرِّضا بالله تعالى ومنزلتُه

 

فقلتُ للفكر لمّا صار مضطربًا   ...   وخانني الصبرُ والتفكيرُ والجَلَدُ

دَعْهَا سماويةً تجري على قَدَرٍ  ...  لا تعترضْها بأمرٍ منك تنفسِدُ

فحَفّني بخفيّ اللطفِ خالقُنا  ...  نعم الوكيلُ ونعم العونُ والمَدَدُ

الرضا هو البحر الهائل الذي ينغمر فيه كل ألم، وتضمحل فيه كل مشقة، وتذوب فيه كل كريهة. ذلك أن الرضا التام بالله تعالى يثمر سربال الصبر وثلج اليقين وبرد الحمد، فمهما هبَّت على القلب رياح الألم وادلهمّت على النفس كبار الخطوب وتصاكّت على الصدر ألوية الهموم والغموم؛ فإن الرضا بالله تعالى ربًّا مدبرًا حافظًا ناصرًا رازقًا، والرضا به إلهًا معبودًا؛ يصيّر تلك الأمور الصاخبة المزعجة لأحوال أخرى طيبة ساكنة وادعة مريحة، (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد).

  فالراضي بربه يعلم علم يقين أنه بيد من هو أرحم به من والديه ومن نفسه التي بين جنبيه، فحينها لا يأتيه شغل القلب وكدره وهمه وبلاؤه إلا حين يغفل الفؤاد لحظات عن هذه المعاني الهائلة الجميلة، فهو حال لطيف تستلذه نفوس العلماء بربهم وإن قلّ علمهم بأحكام شرعه ودلائله، ومعنًى جميلٌ تميل النفوس بأعماقها إليه، وتلقي القلوب بأزمّتها عليه، سلكنا الله جميعًا في سلك من رضي عنهم ورضوا عنه.

والرضا بالله تعالى سهل يسير بحمد الله جلّ وعز، فهو يقين وثبات وسكينة وطمأنينة. وقد يظنّ بعض العُبّاد مشقّته في ابتداء الأمر، فما هو إلا أن يسيروا في أفيائه قليلًا حتى تتكشّف لهم سهولة الجادّة وجمال الطريق، ثمّ لا تلبث حقيقته الناصحة الرضيّة السهلة أن تلوح في بصائرهم مشرقة ناصعة بيّنة. ولقد أحسن أيّما إحسان من سمّى الرضا: حسن الخلق مع الله.

خليليّ روحا راشدَين فقد أتتْ  ...   ضريّةُ من دون الحبيبِ ونِيْرُها

وقد تذهبُ الحاجات يطلبُها الفتى ...  شَعَاعًا وتخشى النفس ما لا يضيرُها

إنّ الرضا بالله تعالى يشدُّ ما وَهى من أعمدة بنيان الإيمان، ويبنى ما انهدّ من جدران الثقة، ويحرس أرجاء بيضة اليقين، ويا رب هل إلا عليك المعوّلُ.

فالقلب يبحر في بحر الرضا حاملًا معه علمَه التام ويقينه الراسخ بأن اختيار الله له خير له من اختياره لنفسه، وحينها يباشر الإيمان شغاف قلبه ويملؤها سعادة وسكينة وطمأنينة وراحة، مصداقًا لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "ذَاقَ طَعمَ الْإِيمَانِ مَن رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا". (1)

وتدبّر كيف وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالرضا لا بغيره لأنه غاية وصول المؤمنين فقال جل وعلا: (ولسوف يعطيك ربك فترضى). ومن أرضى الله أرضاه الله، قال الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد (207)، وتدبر شرط الآية الكريمة إخلاص العمل لمرضاة الله لا غيره، فالعبد يبتغي وجه الله ورضوانه معرضًا عن كل ما يشوّش نيته ويكدّر إخلاصه، حريصًا كل الحرص على عبادة الرضا بالله تعالى ابتغاء رضوانه، قال تعالى: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير (265) فمرضاة الله غاية السابقين، قال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114) قال التابعي الصالح أبي قلابة رحمه الله تعالى: "إذا أحدث الله لك علمًا؛ فأحدث لله عبادة، ولا يكن همّك أن تُحدِّثَ  به الناس". (2) ونعمة العلم بالله تعالى والرضا به مُستحِقّتان على العبد أعلى مراتب الشكر لربه تعالى.

ألا وإن الله تعالى قد امتن علينا بأتم نعمة وأعظم منّة وأكبر كرامة وهي الإسلام العظيم، قال الله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، وقال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55)، فيا لَسعادة وفوز وكرامة أهل الإسلام الذين اعتنقوا ورضوا ما رضيه ربهم لهم سلمًا لمرضاته تبارك وتعالى.

ومن تطلّب مرضاة ربه فهو المهديّ حقًا والفائز صدقًا، قال الله تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).

وكيف لا يكون الرضوان هو غاية الغايات ومنتهى المطالب بعد رؤية وجهه تبارك وتعالى في الجنة، فمن رضي الله عنه فلا تسل عن سعادته وحبوره وسروره ونعيمه، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا". (3) قد ابيضت وجوههم لما رأوا محبوبهم، ونَظِرت لمّا نَظَرت.

لا تَسأَلِ المَرءَ عَن خَلائِقِهِ   ...  في وَجهِهِ شاهِدٌ عَنِ الخَبَرِ

ويا خيبة من لم يك عن ربه راضيًا ولا له مُرضيًا، فتعجّل الحطام الخسيس وباع الباقي النفيس: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) فأين تعزب عقولهم عن إدراك وتيقّن واعتقاد أن الله تعالى هو الأحق أن يرضوه، ومرضاة رسوله تبع لمرضاته، قال ابن الجوزي رحمه الله: "إذا كان معنى فعل الاثنين واحد جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما، كقوله تعالى: ( والله ورسوله أحق أن يرضوه)، وقوله: (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى)". (4) وقال البغوي رحمه الله: "قال الله تعالى: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) ولم يقل: (يرضوهما) لأن رضا الرسول داخل في رضا الله تعالى". (5) وهذا من دقائق التوحيد؛ لأن مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما شرعت لمرضاة الله تعالى استقلالًا، فمرضاة الله تعالى هي المقصودة، أما مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم فتبع لها، وهي مقصودة كذلك، فما لا يرضاه الرسول لا يكون مرضيًّا لله تعالى. ورسول الله صلى الله عليه وسلم عبدٌ لا يُعبد، ورسول لا يُكذّب، بل يطاع ويتبع، ولا يوصَلُ إلى مرضاة الله تعالى – بعد بعثته - إلا عن طريقه، فما جاء به فهو الهُدى الموصل إلى الرضوان، وما لم يأتِ به فهو الضلال المبين والخسران المقيم، وتأمل قول الله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم)، وقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). والمقصود أن مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دين وشرع وعبادة لله تعالى ومطلوبة من كل مؤمن، وهي عينها مرضاة لله تعالى، لأنّ الله تعالى – وهو المقصود بالإرضاء – قد عصم رسوله أن يرضيه ما لا يرضي الله تعالى، فعاد الأمر كله إلى إرضاء الله تعالى، وكل مرضاة لرسوله صلى الله عليه وسلم فهي عائدة إلى مرضاة الله جل جلاله.

والدين المرضيُّ أُسُّهُ ثابت وقواعده راسخه، أما غيره من الأديان فسبيلُ الشقوة والخسران وطريق الضيعةِ والهوان، قال ربنا تعالى: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين). وقال سبحانه: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير).

والصادق حقًّا هو من أسلم وجهه لله ابتغاء مرضاته وفضله: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون).

ومن رضي الله عنه فلا عليه ما فاته من حطام الدنيا وما عليها من ظل زائل، واستمع بقلبك لهذا النبأ العظيم من لدن العزيز العليم: (قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد) فليس وراء رضوان الله لأولي الألباب غاية!

فإن سألتَ من هو المتّبع رضوان الله؛ فهو المُقدِّم مرضاة ربه على رغائب  ورهائب الخلق؛ نفسِه ومَن ومَا بعدها، (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172) الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) فتلمّحْ وتَسمَّعْ وتبَصّرْ شأنهم عند ربهم، نسأل الله الكريم من واسع فضله وكريم نواله، قال الله تعالى: (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم)، وقال تعالى: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم (21)خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم)، وقال تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)، وقال تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم). فلا أكبرَ من رضوان الله تبارك وتعالى وتقدّس.

وقال سبحانه: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى)، ولعلّ وعسى من الله موجبتان تفيدان التحقيق بفضل الله تعالى، "قال سيبويه: لعل وعسى حرفا ترجٍّ، وهما من الله واجب". (6) فحرفُ القرآن مفيد بهما للإيجاب والتحقيق.

والمهاجر الصالح موعود بالرضا سواء استشهد أو مات على فراشه، قال تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين (58) ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم).

والسكينة لمن رضي الله عنه فوز مُعجّل وغنيمة باردة وأُعطيةٌ طيّبة، قال سبحانه: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).

وذو الرأي الراجح والحكمة الواسعة والتدبير الحسن والمتلمّح للعاقبة هو من بسط الدارين في عقله، وقارن بين الخزف الفاني الحُطام والذهب الباقي مع الرضوان، وقد رسم الله تعالى ذينك السبيلين أمامنا وأمرنا بإطلاق عقولنا في تأملهما حالًا ومآلًا فقال جل اسمه: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور).

إن تغفر اللهم تغفرْ جمًّا   ...    وأيُّ عبدٍ لك لا ألمَّا

وأهل الولاء والبراء قد نص ربهم تبارك وتعالى على رضوانه عنهم وإرضائه لهم، فلَنِعم العقبى عقباهم، ولَنعم الدار دارُهم، ولَنعم الاختيار اختيارهم، فقال سبحانه: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون).

وأهل الرضا عيشتهم غدًا مرضية: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه (19) إني ظننت أني ملاق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية) قال ابن كثير رحمه الله: "أي: مرضية". (7) وقال جلال الدين: "في الجنة، أي ذات رضى بأن يرضاها، أي مرضية له". (8) ووجوه المؤمنين المرضيين يومئذ ناعمة: (وجوه يومئذ ناعمة (8) لسعيها راضية (9) في جنة عالية) ولما اطمأنّت نفوسهم بالإيمان ورضيت بالرحمن أرضاها البر الرحيم الشكور المجيب: (يا أيتها النفس المطمئنة (27) ارجعي إلى ربك راضية مرضية (28) فادخلي في عبادي (29) وادخلي جنتي).

لك الحمدُ والنّعماءُ والخيرُ كلّه   ...  لك الحمدُ يا ربًّا عظيمًا نوالُهُ

ومن أخلص الدين لله فقد أرضى الله، وهو موعود بإرضاء الله له في دار الرضوان المقيم: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية (7) جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه)، فهي ثواب رضوان الله عن وليّه الصالح، فالجنة دار الرضوان، وخازنها اسمه رضوان كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: بينا نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «أتاني جبريل في يده كالمرآة البيضاء، في وسطها كالنكتة السوداء، قلت يا جبريل: ما هذا؟ قال: هذا يوم الجمعة يعرضه عليك ربك ليكون عيدًا لك ولأمتك من بعدك، قلت يا جبريل: فما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذه الساعة تقوم يوم الجمعة، وهو سيد أيام الدنيا، ونحن ندعوه يوم المزيد، قلت يا جبريل: ولم تدعونه يوم المزيد؟ قال: لأن الله تبارك وتعالى اتخذ في الجنة واديًا أفيح من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة نزل ربنا تبارك وتعالى على كرسيه إلى ذلك الوادي، وقد حُفَّ الكرسي بمنابر من ذهب مكللة بالجوهر، وقد حفت تلك المنابر بكراسي من نور.

 ثم يؤذن لأهل الغرفات فيقبلون يخوضون كثبان المسك إلى الركب، عليهم أسورة الذهب والفضة وثياب الحرير حتى يتناهوا إلى ذلك الوادي، فإذا اطمأنوا فيه جلوسًا؛ بعث الله إليهم ريحًا يقال لها: المُثيرة، فثارت (9) ينابيع المسك الأبيض في وجوههم وجباههم وثيابهم، وهم يومئذ جُرْدٌ (10) مُكَحَّلُون (11) أبناء ثلاث وثلاثين، على صورة آدم عليه السلام يوم خلقه الله عز وجل، فينادي ربُّ العزة رضوان - وهو خازن الجنة - فيقول: يا رضوان، ارفع الحجب بيني وبين عبادي. فإذا رفع الحجب بينه وبينهم فرأوا بهاءه ونوره هبّوا سجودًا، فيناديهم بصوته: ارفعوا رءوسكم، فإنما كانت العبادة لي في الدنيا وأنتم اليوم في دار الجزاء والخلود، سلوني ما شئتم، فأنا ربُّكم الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي، فهذا محل كرامتي فسلوني ما شئتم!

 فيقولون: ربنا، وأيّ خير لم تفعله بنا؟ ألستَ الذي أعنتنا على سكرات الموت، وأنست بنا الوحشة في ظلمة القبر، وبعثتنا بعد البلاء بحسن وجمال، وأمّنت روعتنا عند النفخة في الصور؟ ألست أقلت عثرتنا، وسترت علينا القبيح في أمورنا، وثبَّتَّ على جسر جهنم أقدامنا؟ ألست الذي أدنيتنا من جوارك، وأسمعتنا من لذاذة منطقك، وتجلّيت لنا بنورك، فأيُّ خير لم تفعله بنا؟

 فيعود فيناديهم بصوته فيقول: أنا ربكم الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، فهذا محلُّ كرامتي فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي أنفسهم، ثم يسألونه حتى تنتهي مسألتهم، ثم يقول: سلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، ثم يسألونه، ثم يقول: سلوني. فيقولون: رضينا ربنا، وسلَّمنا.

 فيزيدهم من مزيد فضله وكرامته، ومزيد زهرة الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيكونون على ذلك مقدار منصرفهم، قال: كقدر الجمعة إلى الجمعة. ثم يحمل عرش ربنا تبارك وتعالى، معهم الملائكة والنبيون، ثم يؤذن لأهل الغرفات فيعودون ويرجعون إلى غُرَفِهِم وهما: غُرْفَتان من زمرّدتين خضراوين، وليسوا إلى شيء أشوق منهم إلى يوم الجمعة لينظروا إلى ربهم وليزيدهم من فضله وكرامته». قال أنس: فهذا الحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد. (12)

هذا، وإن رضا الله عز وجل هو أعلى مطلب للنبيين وأتباعهم، فهذا زكريا عليه السلام يدعو الله لولده قبل خلقه بأن يجعله راضيًا عنه: (واجعله رب رضيا). وإسماعيل عليه السلام قد شرّفه ربه برضوانه عنه فقال سبحانه: ( وكان عند ربه مرضيا). وموسى عليه السلام يسارع لمرضاة ربه تبارك وتعالى قائلًا بكل إيمان وتقوى وشوق: (وعجلت إليك رب لترضى) فقد عجل ليُرضيَ ربه. وسليمان عليه السلام يلهج بدعاء الله تعالى بأن يوفّقه للصالحات المقربة لمرضاته جل وعلا: (قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين).

ونوّه سبحانه بشأن كل مؤمن صالح يدعو ربه بعد إبلاغه أربعين ربيعًا أن يلهمه العمل الذي يرضاه سبحانه وأن يعينه عليه: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين).

 وصحابة محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم جلّلهم ربُّهم تبارك وتعالى مديحته العظيمة بوصفهم بالعمل الصالح ابتغاء الرضوان، فجمعوا النية الصالحة والعمل القويم: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما).

ورضا الله تعالى عن المشفوع له أحد شرطي قبول الشفاعة فيه، قال سبحانه وبحمده: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) وقال سبحانه: (بل عباد مكرمون (26) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، وقال: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى).

هذا وإن آخر أهل الجنة دخولًا ينتظره نعيم هائل وسرور مقيم، فيرضيه الله تعالى حتى يرى أنه أنعم الناس طُرًّا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرّة ويكبو (13) مرة. وتسفعه (14) النار مرة. فإذا ما جاوزها التفت إليها. فقال: تبارك الذي نجّاني منك. لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين!

 فتُرفع له شجرة. فيقول: أي ربي، أدنني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها وأشرب من مائها. فيقول الله عز وجل: يا بن آدم، لعلي إن أعطيتُكَها سألتني غيرها؟ فيقول: لا يا رب، ويعاهده ألا يسأله غيرها. وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه (15) فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها.

 ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى. فيقول: أي رب، أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها لا أسألك غيرها. فيقول: يا بن آدم، ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ فيقول (16): لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟، فيعاهده ألا يسأله غيرها. وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه. فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها.

 ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب، أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا بن آدم، ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب، هذه لا أسألك غيرها. وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها.

 فإذا أدناه منها، فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب، أدخلنيها، فيقول: يا بن آدم ما يَصْرِيني منك؟ (17) أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب، أتستهزأ مني وأنت رب العالمين". فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: "من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزأ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزأ منك، ولكني على ما أشاء قادر". (18)

وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه يرفعه؛ قال: سأل موسى ربه: «ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أُدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ. فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: أي رب، كيف؟ وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ (19) فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب. فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله. فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله. ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك. فيقول: رضيت رب.

 قال: رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردتُ (20) غَرَسْتُ كرامتهم بيدي، وختمتُ عليها، فلم ترَ عينٌ ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر. (21) قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) (السجدة/ 17) الآية". (22)

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟». قال: فكبرنا، ثم قال: «أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟». قال: فكبرنا، ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وسأخبركم عن ذلك؛ ما المسلمون في الكفار إلا كشعرة بيضاء في ثور أسود، أو كشعرة سوداء في ثور أبيض». (23)

وقد أرضى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصلي عشرًا على من صلى عليه واحدة من أمته المحظوظة باتباعه، والسلام كذلك، فعن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى في وجهه فقلنا: إنا لنرى البشرى في وجهك. فقال: «إنه أتاني الملك فقال: يا محمد؛ إن ربك يقول: أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرًا، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرًا». (24)

والمؤمن يتقلّب في نعيم الرضا مهما تقلبت أحواله، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبت من قضاء الله عز وجل للمؤمن، إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر. المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيّ امرأته». (25)

وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له». (26) وتأمل خصوصية المؤمن بذلك. وكل هذا من بركات الرضا بالله تعالى.

قال ابن القيم رحمه الله بعد كلامه عن تفويض الأمر إلى الله تعالى: " فإذا وضع قدمه في هذه الدرجة؛ انتقل منها إلى درجة الرضا، وهي ثمرة التوكل، ومن فسر التوكل بها فإنما فسّره بأجلى ثمراته وأعظم فوائده، فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله.

 وكان شيخنا رضي الله عنه (27) يقول: المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله، والرضا بعده. فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية، أو معنى هذا.

 قلت: وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم". فهذا توكل وتفويض، ثم قال: "فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علّام الغيوب". فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة، وتوسل إليه سبحانه بصفاته التي هي أحب ما توسل إليه بها المتوسلون، ثم سأل ربه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلًا أو آجلًا، وأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرته عاجلًا أو آجلًا، فهذه هي حاجته التي سألها. فلم يبق عليه إلا الرضا بما يقضيه له فقال: "واقدُرْ لي الخير حيث كان، ثم رَضِّنِي به". (28)

فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية التي من جملتها التوكل والتفويض قبل وقوع المقدور، والرضا بعده، وهو ثمرة التوكل والتفويض وعلامة صحته، فإن لم يرض بما قضى له؛ فتفويضه معلول فاسد!

وهذا معنى قول بشر الحافي: "يقول أحدهم: توكلت على الله. يكذب على الله، لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به".  وقول يحيى بن معاذ وقد سئل: متى يكون الرجل متوكلًا؟ فقال: "إذا رضي بالله وكيلًا". (29)

وقد اشتمل دعاء الاستخارة هذا على خزائن رضًا عميم، وتأمل كيف أبدل الله حال الناس بالإسلام خيرًا، فخيرٌ لهم لو أسلموا دينهم كله لله رب العالمين، "فعوّض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الدعاء عمّا كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين يطلبون بها علم ما قُسم لهم في الغيب، ولهذا سُمّي ذلك استقسامًا، وهو استفعال من القَسْم، والسين فيه للطلب، وعوّضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار وعبودية وتوكّل وسؤال لمن بيده الخير كله، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحد حبسها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه. فهذا الدعاء هو الطالع الميمون السعيد، (30) طالعُ أهل السعادة والتوفيق الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر فسوف يعلمون.

 فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه، والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة، والإقرار بربوبيته، وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، والخروج من عهدة نفسه والتبري من الحول والقوة إلا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحق". (31) "وقال الله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "إذا توفى العبد المؤمن؛ أرسل الله إليه ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رَوح وريحان، ورب عنك راض". وفي وقت هذه المقالة ثلاثة أقوال للسلف:

أحدها: أنه عند الموت. وهو الأشهر، قال الحسن: "إذا أراد قبضها اطمأنت إلى ربها ورضيت عن الله فيرضى الله عنها". وقال آخرون: إنما يقال لها ذلك عند البعث. هذا قول عكرمة وعطاء والضحاك وجماعة. وقال آخرون: الكلمة الأولى وهي: (ارجعي إلى ربك راضية مرضية) تقال لها عند الموت، والكلمة الثانية وهي: (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) تقال لها يوم القيامة. قاله أبو صالح.

 والصواب: أن هذا القول يقال لها عند الخروج من الدنيا ويوم القيامة. فإن أول بعثها عند مفارقتها الدنيا وحينئذ فهي في الرفيق الأعلى إن كانت مطمئنة إلى الله وفي جنته، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإذا كان يوم القيامة قيل لها ذلك، وحينئذ يكون تمام الرجوع إلى الله ودخول الجنة، فأوّل ذلك عند الموت، وتمامه ونهايته يوم القيامة". (32)

"إنّ بلوغ مقام الرضا لا يكون بالتحلّي ولا بالتمنّي، وليس بالادعاء والكبرياء، كما في قصة قارون لمّا وعظه قومُه بشأن ماله، فقال لهم: { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْئلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ }. فليس المال وكثرته هو الذي يبلغ به العبد درجة الرضا، فكم ملك قارون؟ وما أغنى عنه شيئًا، وما رضي عن الله، ولا بقضائه. لقد تمنّى من تمنّى ممن رأى قارون في زينته، وماله، وجبروته، أن يحصلوا على ما حصل عليه فقالوا: { يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }. وظنّوا أنّه بلغ مقام الرضا، ولكن الله أخبر أن المال ليس بدليل على رضا الله عن صاحبه، فإنّ الله يعطي ويمنع، ويُضيّق ويُوسّع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة سبحانه، والحجة البالغة. (33) ولهذا لما أدرك المتمنّون ما حصل لقارون، وأنه بعيد كل البعد عن رضا الله أولًا، والرضا بما أعطاه قالوا: { لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }، فلولا لطفُ الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا كما خسف به!

والرضا حال من أحوال أهل الجَنَّة، لا يفارق صاحبه المتحلّي به في الدنيا ما دام مع أمر الله، راضيًا بقضائه في الدنيا وفي الآخرة. فالرضا بالقضاء من تمام الإيمان بالقضاء والقد.

والرضا غاية يسعى لها المؤمن الصادق، والرضا من مقامات الإحسان التي هي من أعلى المندوبات، ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الدين، كما في حديث جبريل عليه السلام المشهور. وروي أنّ أبا الدرداء رضي الله عنه قال: "ذروة الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب".

ومقام الرضا أعلى من مقام الصبر. قال ابن القيم رحمه الله: "فمقامات الإيمان لا تعدم بالتنقّل فيها، بل تندرج وينطوي الأدنى في الأعلى، كما يندرج الإيمان في الإحسان، وكما يندرج الصبر في مقامات الرضا، لا أن الصبر يزول، ويندرج الرضا في التفويض، ويندرج الخوف والرجاء في الحب، لا أنّهما يزولان". (34)

ثُمَّ إن الرّضا من المقامات التي توصل للطمأنينة؛ لأنها مقام جامع للإنابة والتوكل والرضا والتسليم، فهي معنى ملتئم من هذه الأمور، إذا اجتمعت صار صاحبها صاحب طمأنينة، وما نقص من هذه الأمور نقص من الطمأنينة. وكم يتمنى العبد الحصول على الطمأنينة، فالرضا من الأمور التي تسبّب في وصول العبد إليها، فهو باب الله الأعظم.

قال ابن القيم رحمه الله: "ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنّة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبّين، ونعيم العابدين، وقرّة عيون المشتاقين". (35) وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الرّضا عن الله درجة المقرّبين، ليس بينهم وبين الله تعالى إلّا رَوح وريحان". وقال ذو النون: "ثلاثة من أعلام الرضا: ترك الاختيار قبل القضاء، وفقدان المرارة بعد القضاء، وهيجان الحب في حشو البلاء". وقيل للحسين بن علي رضي الله عنهما: إن أبا ذر رضي الله عنه يقول: الفقر أحبُّ إليّ من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة. فقال: "رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتّكل على حسن اختيار الله له؛ لم يتمنّ غير ما اختار الله له". وقال الفضيل بن عياض لبشر الحافي: "الرضا أفضل من الزهد في الدنيا، لأن الراضي لا يتمنّى فوق منزلته".

هذا، وإنّ مرتبة الرضا فوق الصبر ودون الشكر، - كما مر - علمًا بأن كل مرتبة لا تقوم إلا على ما قبلها، فلا رضا بدون صبر، ولا شكر بدون رضا. قال العثيمين رحمه الله تعالى وقد سئل: عمّن يتسخط إذا نزلت به مصيبة؟ فأجاب: "الناس حال المصيبة على مراتب أربع:

المرتبة الأولى: التسخّط وهو على أنواع:

النوع الأول: أن يكون بالقلب كأن يتسخط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام، وقد يؤدي إلى الكفر قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ﴾.

النوع الثاني: أن يكون التسخط باللسان كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام.

النوع الثالث: أن يكون التسخط بالجوارح كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور وما أشبه ذلك وكل هذا حرام منافٍ للصبر الواجب.

المرتبة الثانية: الصبر، وهو كما قال الشاعر:

والصبرُ مثل اسمه مرٌّ مذاقتُه   ...  لكنْ عواقبُه أحلى من العسلِ

فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه لكنه يتحمله، وهو يكره وقوعه ولكن يحميه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده، وهذا واجب لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

المرتبة الثالثة: الرضا، بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء، فلا يشق عليه وجودها، ولا يتحمل لها حملًا ثقيلًا، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر، لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه لكن صبر عليها.

المرتبة الرابعة: الشكر: وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها حتى الشوكة يشاكها". (36)

ومن الكلام الحسن في فضل الرضا وبيان منزلته، ما روي عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أمَّا بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلّا فاصبر". وما روي عن الفضيل بن عياض رحمه الله: "الرضا أفضل من الزهد في الدنيا؛ لأنّ الراضي لا يتمنّى فوق منزلته". وسئل أبو سهل محمد بن سليمان عن الشكر والصبر أيهما أفضل؟ فقال: "هما في محل الاستواء، فالشكر مطيّة السرّاء، والصبر فريضة الضرّاء". قال: "وقيل: الصبر أسنى الأمرين؛ لأن الشكر استجلاب واستدعاء، والصبر استكفاء وارتضاء، وموضع الرضا يفضل موضع الدعاء". ومِمَّا قيل في فضل الرضا بالقضاء:

وما ليَ من عبدٍ ولا من وليدةٍ  ...   وإنّي لَفي فضلٍ من الله واسعُ

ومن يجعل الرحمنُ في قلبه الرضا .. يعشْ في غنًى من طيّب العيش واسعُ".(37)

ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا، قال سبحانه: ( كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة }، وقال: { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا }، قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا يحصل لكلّ أحد، فإنّ الإنسان مدنيّ بالطبع، لا بدّ له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصوّرات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذوه وعذّبوه، وإن حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دِين وتقى حلّ بين قوم فُجّار ظلمة، ولا يتمكّنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرّهم في الابتداء، ثم يتسلّطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلا بدّ أن يُهان ويعاقب على يد غيرهم.

 فالحزم كلّ الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية: "من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا" (38) ومن تأمل أحوال العالم رأى هذا كثيرًا فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هربًا من عقوبتهم، فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شرّ نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرّم، وصبر على عدوانهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العلماء والعباد وصالحي الولاة والتجار وغيرهم". (39)

وقال ابن تيمية رحمه الله: "السعادة في معاملة الخلق: أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكفّ عن ظلمهم خوفًا من الله لا منهم. كما جاء في الأثر: "ارجُ الله في الناس، ولا ترج الناس في الله، وخفِ الله في الناس، ولا تخف الناس في الله". أي: لا تفعل شيئًا من أنواع العبادات والقُرَب لأجلهم لا رجاء مدحهم ولا خوفًا من ذمّهم، بل ارجُ الله ولا تخفهم في الله فيما تأتي وما تذر، بل افعل ما أُمرتَ به وإن كرهوه.

وفي الحديث: "إنّ من ضعف اليقين أن تُرضي الناس بسخط الله، أو تذمّهم على ما لم يؤتك الله". (40) فإنّ اليقين يتضمّن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمّن اليقين بقدر الله وخلْقِه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنًا لا بوعده ولا برزقه، فإنّه إنما يحمل الإنسان على ذلك إمّا ميل إلى ما في أيديهم من الدنيا، فيترك القيام فيهم بأمر الله لِما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرَك ورزقك وكفاك مؤنتهم، فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفًا منهم ورجاء لهم، وذلك من ضعف اليقين.

 وإذا لم يُقدّر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنّه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدّر؛ كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تَخفهم ولا ترجهم ولا تذمّهم من جهة نفسك وهواك، لكن من حمده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو المذموم. ولما قال بعض وفد بني تميم: يا محمد، أعطني، فإنّ حمدي زَيْنٌ وإنّ ذمّي شَيْنٌ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله عز وجل". (41) وكتبت عائشة إلى معاوية وروي أنها رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا". (42) هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف: "من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذامًّا"، هذا لفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه في الدين. والمرفوع أحقّ وأصدق، فإنّ من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ). فالله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه؛ فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبيّنت لهم العاقبة.

 ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا، كالظالم الذي يعضّ على يده يقول: (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا }، وأما كون حامده ينقلب ذامًّا: فهذا يقع كثيرًا ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم، وهو سبحانه أعلم". (43)

وأعجز الناس وأجهلهم هو من أعطى الدنيا أكثر من حقّها وأكبر من حجمها رغبةً واهتمامًا ورضًا وسخطًا، فضع الدنيا – رحمك الله – حيث وضعها الله، وارفعِ الآخرةَ إذْ رفعها الله تعالى. قال ابن القيم رحمه الله في الزاد في تعزية الله عباده المؤمنين بأن الحياة الدنيا قصيرة: "ولما كان الألم لا محيص منه البتّة؛ عزّى الله سبحانه من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ) فضرب لمدة هذا الألم أجلًا لا بدّ أن يأتي، وهو يوم لقائه، فيلتذُّ العبد أعظم اللذة بما تحمّل من أجله وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمّل من الألم في الله ولله.

 وأكّدَ هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه، ليحمل العبدَ اشتياقُه إلى لقاء ربه ووليّه على تحمل مشقة الألم العاجل، بل ربما غيّبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به! ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه الشوقَ إلى لقائه فقال في الدعاء الذي رواه أحمد وابن حبان: "اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحقّ في الغضب والرّضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مضلة (44) اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين". (45) فالشوق يحمل المشتاق على الجدّ في السير إلى محبوبه، ويقرّب عليه الطريق، ويطوي له البعيد، ويهوّن عليه الآلام والمشاق، وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده، ولكن لهذه النعمة أقوالٌ وأعمال هما السبب الذي تنال به، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال عليم بتلك الأفعال، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة ويشكرها ويعرف قدرها ويحب المنعم عليه، قال تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه فليقرأ على نفسه: { أليس الله بأعلم بالشاكرين }.

ثمّ عزّاهم تعالى بعزاء آخر؛ وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم وثمرته عائدة عليهم، وأنه غنيّ عن العالمين، ومصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سبحانه، ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين.

ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له كعذاب الله، وهي أذاهم له ونيلهم إياه بالمكروه والألم الذي لا بد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في فراره منهم، وتركه السبب الذي ناله، كعذاب الله الذي فرّ منه المؤمنون بالإيمان!

 فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فرّوا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحمّلوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب، وهذا لضعف بصيرته فرّ من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففرّ من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله! فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله، وغُبن كلّ الغبن؛ إذ استجار من الرمضاء بالنار، وفرّ من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم، والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق.

 والمقصود؛ أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يَمتحن النفوس ويبتليها، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحّص النفوس التي تصلح له ويخلّصها بكَير الامتحان، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو مِنْ غشّه إلا بالامتحان، إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية، فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كَيْر جهنم، فإذا هُذّب العبد ونُقّي أذن له في دخول الجنة". (46)

ألا ما أجمل الرضا، وأحلى مذاقه، وأرق أوقاته، وأينع ثماره، اللهم رفقةَ الراضين بك والراضيات، إله الحق.

فَلا تَجزَع وَإِن أَعسَرتَ يَومًا  ...  فَقَد أَيسَرتَ في الزَمَنِ الطَويلِ

وَلا تَيأَس فَإِنَّ اليَأسَ كُفرٌ   ...  لَعَلَّ اللَهَ يُغني عَن قَليلِ

وَلا تَظنُن بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوءٍ  ...  فَإِنَّ اللَهَ أَولى بِالجَميلِ

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

.................................

1-    مسلم (34)، والترمذي (2623)

2-    فتح المغيث (3/ 294)

3-    البخاري 8/142 (6549)، ومسلم 8/144 (2829)

4-    زاد المسير (1 / 70)

5-    تفسير البغوي (1 / 89)

6-    تفسير البغوي (1 / 72) وقال بدر الدين الزركشي في البرهان في علوم القرآن (٤/‏٢٨٨): "ورَوى البيهقي في سُننه عن ابن عباس قال: "كَلُّ عَسى فِي القُرْآنِ فهي واجبة"، وقال الشافعي: "يُقالُ: عَسى مِنَ اللَّهِ واجِبَةٌ".

وقد فرق السُّهَيْلِيُّ بين الترجي في كلام الله تعالى بـ «بلعل» و«عسى»، فقال في الروض الأُنُف (٦/‏٢٢٩): "إن الترجي بعسى واجب الوقوع وبلعلّ ليس كذلك، ونصه عند الكلام على آية ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة ١٠٢] في توبة أبي لُبابة في غزوة بني قُرَيْظة. فإن قيل: إن القرآن نزل بلسان العرب، وليست عسى في كلام العرب بخبر، ولا تقتضي وجوبًا، فكيف تكون واجبةً في القرآن، وليس بخارج عن كلام العرب؟ وأيضًا فإن لعل تعطي معنى الترجي، وليست من الله واجبة، فقد قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم ٣٧]، فلم يشكروا وقال: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشى﴾ [طه ٤٤]، فلم يتذكر ولم يخش، فما الفرق بين لعل وعسى حتى صارت عسى واجبة؟! قلنا: لعل تعطي الترجي، وذلك الترجي مصروف إلى الخلق، وعسى مثلها في الترجي، وتزيد عليها بالمقاربة، ولذلك قال: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء ٧٩]، ومعنى الترجّي مع الخبر القرب، كأنه قال: قَرُبَ أن يبعثك ربك، فالترجي مصروف إلى العبد كما في لعلّ، والخبر عن القرب والمقاربة مصروف إلى الله تعالى، وخبره حق، ووعده حَتْمٌ، فما تضمنته من الخبر فهو الواجب، دون الترجي الذي هو محال على الله تعالى، ومصروف إلى العبد، وليس في لعل من تضمن الخبر مثل ما في عسى، فمِن ثَمَّ كانت عسى واجبةَ الوقوع إذا تكلم بها، ولم تكن لعل كذلك". وقد علّق محمد الخضر الشنقيطي رحمه الله في كوثر المعاني (١/‏١٩) على كلام السهيلي بقوله: "وهو كلام تُشَدُّ له الرحال، مبين عدم الإطلاق الوارد عن العلماء في كون الترجي في كلام الله تعالى للوقوع، فإنه بين اختصاص ذلك بعسى دون لعل، وأظهر الفرق الواضح".

قلت: والمسألة فيها سعة إن شاء الله، والراجح: أن "عسى" و"لعلّ" تفيدان التحقيق في القرآن الكريم إما على الفور لفظًا وإما على الغاية سياقًا، والأقوال في المسألة آيلة إلى معانٍ متقاربة، فمن قال بعدم اضطراد الوجوب والتحقيق؛ فقد علل ذلك بآيات لم يقع موجِبُهُنّ، وقد أجيب عن ذلك الإيراد بأنهن معلّقات بشروط لم تقع. كما في قوله تعالى عن يهود: (عسى ربكم أن يرحمكم) ولم يرحمهم، قيل: لأنه علق الرحمة على شرط لم يوفوه، فهو قد قال: (وإن عدتم عدنا)، وكذلك آية التحريم: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرا منكن)، ولم يبدله، فالجواب: أنه معلق على شرطِ فراقهن، والشرط لم يقع، فلم يفارقهن صلى الله عليه وسلم.

ولعل مقصودهم بأنها واجبة أنّ فيها معنى الوعد، والله لا يخلف الميعاد. والله أعلم. 

7-    تفسير ابن كثير (8 / 214)

8-    تفسير الجلالين (1 / 819)

9-    ثار: هاج وظهر، أو انتشر. وثارت الريح: إذا هبّت.

10-                    الأجرد: الذي لا شعر على جسده.

11-                    الكَحَل: سَواد في أجفان العَيْن خِلْقة.

12-                    ابن أبي شيبة (5560) والحارث في المسند (196) وأبو يعلى (4228) قال ابن كثير في النهاية في الفتن والملاحم (1 / 261): "قال البزار: لا نعلم أحدًا رواه عن أنس عن عثمان بن عمير - أبو اليقظان - وعثمان بن صالح، هكذا قال. وقد رويناه: من طريق زياد بن خيثمة، عن عثمان بن سلم، عن أنس: فذكر الحديث بطوله مثل هذا السياق أو نحوه. وتقدم في رواية الشافعي عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عنه فقد اختلف الرواة فيه، وكان بعضهم يدلسه لئلا يعلم أمره، وذلك لما يتوهم من ضعفه، والله أعلم. وقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: عن شيبان بن فروخ، عن الصعق بن حزن، عن علي بن الحكم البناني، عن أنس، وذكر الحديث وهذه طرق جيدة عن أنس، شاهدة لرواية عثمان بن عمير. وقد اعتنى بهذا الحديث الحافظ أبو حسن، والدارقطني فأورداه من طرق. قال الحافظ الضياء: وقد روي من طريق جيد: عن أنس بن مالك، ورواه الطبراني، عن أحمد بن زهير، عن محمد بن عثمان بن كرامة، عن خالد بن مخلد القطواني، عن عبد السلام بن حفص، عن أبي عمران الجوني، عن أنس، فذكره. وقد رواه غير أنس من الصحابة". وقال شعيب الأرناؤوط في تخريج العواصم من القواصم: "روي بإسناد ضعيف، وروي من طريق آخر فيه محمد بن خالد بن خلي، صدوق، ومن فوقه من رجال الصحيح". أهـ.

وقد أخرجه الطبراني في الأوسط (٤٨٧٩)، ٨/ ١٥٤، (٩٤٤) مختصرًا، (٢/ ١٩٧) وقال المنذري في الترغيب والترهيب: «رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد»، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (١/ ٤٣٥): «حسن صحيح»، وقال في موضع آخر في صحيح الترغيب والترهيب (٣/ ٥٢٥): «حسن لغيره».

13-                    يكبو: أي يسقط على وجهه.

14-                    تسفعه: تضرب وجهه وتسوّده وتؤثر فيه أثرًا، وفي التنزيل: (كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية).

15-                    أي: لا صبر له على ترك تناولها لضعفه البشريّ.

16-                    القائل هنا هو المولى عز وجل، وفي الكلام إيجاز بحذف قول ابن آدم: «بلى: يا رب». عن: نضرة النعيم (6 / 2115)

17-                    أي ما الذي يرضيك ويقطع مسألتك؟ وأصل التصرية: القطع والجمع، ومنه: الشاة المصرَّاة، وهي التي جُمع لبنُها فيضرعها بسبب تأخر حلبها عن المعتاد.

18-                    مسلم (187)

19-                    وأخذوا أخذاتهم: هو ما أخذوه من كرامة مولاهم.

20-                    أردت: اخترت واصطفيت.

21-                    أي: لم يخطر على قلب بشر ما أكرمتهم به وأعددته لهم، فهو نعيم جديد تمامًا، وليس من جنس نعيم الدنيا المُذكِّر بنعيم الآخرة حتى لو من جهة اسمه، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء".

22-                    مسلم (189)

23-                    مسلم (221)

24-                    النسائي (3/ 44)، والحاكم في المستدرك (2/ 420) وصححه ووافقه الذهبي. وقال محقق جامع الأصول (4/ 405): وللحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن أو الصحيح.

25-                    أحمد (1/ 173، 177، 178) وشرح السنة (1540) وقال مخرجه: إسناده حسن والبيهقي في السنن (3/ 375، 376) والهيثمي في المجمع (7/ 209) وقال: رواه أحمد بأسانيد ورجالها كلها رجال الصحيح.

26-                    مسلم (2999)

27-                    إذا أطلق ابن القيم شيخه فهو ابن تيمية رحمهما الله تعالى.

28-                    البخاري 2/70 ( 1162 )

29-                    مدارج السالكين (2 / 124) باختصار.

30-                    لو اجتنب الشيخ كلمة "طالع" بالكليّة لكان خيرًا، ففيها مشابهة لأهل الجهل ولو بالمسمّى واللقب، فهو يقصدون به طالع النجم الذي يتلمّسون عنه خبَرًا أو تدبيرًا! ولا زال بعض الناس عن غفلة يذكرون كلمة الطالع بمعناها الجاهليّ فيقولون: من يُمْنِ الطالع اليوم أن حصل كذا وكذا، وهذا ضلال.

31-                    زاد المعاد (2/  404)

32-                    مدارج السالكين (2 / 179)

33-                    أخرج أحمد في مسنده (3672) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإنّ الله عزّ وجل يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدِّين إلا من أحبّ، فمن أعطاه الدين فقد أحبَّه، والذي نفسي بيده لا يُسلم عبدٌ حتى يُسلمَ قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه". قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: "غَشْمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالًا من حرام فينفق منه فيبارَك له فيه، ولا يتصدّق به فيُقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إنّ الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو بالخبيث". رواه الإمام أحمد في مسنده (1/387)، والحاكم في المستدرك (2/447)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وضعّفه محققو المسند والألباني، ورجّح الدارقطني في العلل (5/271) وقفه.

34-                    عدة الصابرين (1 / 124)

35-                    مدارج السالكين (2 / 174)

36-                    مجموع فتاوى ابن عثيمين ( 2/109) والحديث رواه أحمد (3085) وأصله في الصحيحين كما عند البخاري 7/148 ( 5641 ) ومسلم 8/16 (2573)

37-                    الرضا بالقضاء د. سالم القرني، عن مجلة جامعة أم القرى (5 /347 - 350) مختصرًا. وانظر أيضًا: أعمال القلوب للشيخ محمد المنجد (29-33)

38-                    الترمذي (2/ 67) وصححه الألباني في الصحيحة (2311) بنحوه.

39-                    الزاد (3/ 16-17)

40-                    شعب الإيمان (1/176) والحلية (3/122) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2009)

41-                    الترمذي (3267) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وضعفه أيمن صالح. ورواه أحمد (15991) وقال محققوه: إسناده ضعيف لانقطاعه، أبو سلمة بن عبد الرحمن- وهو ابن عوف القرشي- لم يثبت سماعه من الأقرع بن حابس.

42-                    الترمذي (2/ 67) وصححه الألباني في الصحيحة (2311) بنحوه.

43-                    مجموع الفتاوى (1 / 52)

44-                    أي أنه سأل الله أن يجعل سبب شوقه إلى لقائه هو محض الشوق إليه والإيمان به وحسن الظن به وعظيم الرجاء وصادق المحبة، وهذا هو الشوق الصادق الجميل، لا هربًا من مشقّة الدنيا أو فتنة الدِّين.

45-                    أحمد (18351) والنسائي (1305) وصححه الألباني في الكلم الطيب (106) ولفظ النسائي: "اللهم بعلمك الغيب.. الحديث".

46-                    الزاد (3/ 16-17) باختصار.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق