إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

(كذلك كدنا ليوسف)

 

(كذلك كدنا ليوسف)

 

الحمد لله، وبعد؛ ففي البلايا من النعم خفايا، وفي الأقدار عجائبُ الأسرارِ، ومستودعاتُ الألطافِ والرحمات، وفي الرضا بالحكيم العلّام معارج لا يرقى لها فهم الأنام، فقدَرُه أوسع من حديدِ عقولهم، وقضاؤه أرفعُ من جميع علومهم، فإليهم الرحمة والتكريم، وعليهم الإيمان والتسليم، (إنا كل شيء خلقناه بقدر . وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر). إن المتأمل لتلك القصة العجيبة التي استهل الله تعالى لها أجمل استهلال بقوله الأعز الأكرم: (نحن نقص عليك أحسن القصص). إنها قصة كاملة جميلة لذيذة، لها صوت حزين، ووصايا جليلة، وقلوب بالله واثقة، ونتائج بفضل الله سعيدة، لها خاتمةٌ للآي شهيّة للقلوب، رائقة للأرواح. ابتدأت بحُلم وانتهت بتعبيره عبر سنين طويلة، إنها سورة الفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر. فيها تبيانُ عظمة التوحيد، وشرف الصبر، وقيمة الرضا، وعزّ الحمد، وثمرة الشكر. فيها إعلاءُ معالي الأمور، واطّراح سَفْسَافِها. فيها نبلُ الأخلاق، ومعالي الشيم. فيها إظهارُ رفقِ الله تعالى بأوليائه، ورعايته وعنايته ورحمته ولطفه لهم. فيها حواراتُ أنبياء، ودمعاتُ أصفياء، وابتهالاتٌ لسادة الأولياء، ومصابرة لأواء. فيها مجاهدةُ نفوسٍ بالسوء أمّارة، ومرابطة على حدِّ العفاف والفضيلة، ورفعةٌ للصابرين الراضين الحامدين الشاكرين. فيها مَشَاهِدُ جمال، وألطافٌ من رب السماء تنهال، فيها عُقَدُ قصةٍ للعين مبكية، لكنها لا تلبث أن تُتبِعَ دمع السخونة ابترادًا بالفرح، فتنقلب البُرَحَاءُ راحة، والحزنُ سرورًا، والكربُ فرجًا، والخاتمةُ ضراعةُ نبيٍّ كريم إلى ملك الملوك ورب الأرباب أن يُلحقه في الذين مضوا على الخير من سادة الصالحين، فلا إله إلا الله كم في هذه السورة من صورة، وكم بين ثناياها من خفقاتٍ للقلب ترقُّبًا وتأثُّرًا وشوقًا وفرحًا وسرورًا. (نحن نقص عليك أحسن القصص).

لَو تَدرِ فيمَ عَذَلتَني لَعَذَرتَني  ...  خَفِّض عَلَيكَ وخَلِّني وطريقي

إنّ لأخبار المرسلين شوق ولهفة، إذ في جنبات طريقها تنبت عروقُ البِرّ، وتُزهرُ أغصانُ الإيمان، وتُغسَلُ أدرانُ الخطايا ونجاساتِ الذنوب، ويُرَقَّعُ بتأملِّها واستشعارِها واتّباعها ما اخلولقَ من ثوبِ الإيمان، وتُبنى بها في الفؤاد مدينةُ الإحسان.

وأذكرُ أيام الحِمى ثم أنثني   ...   على كَبِدِي من خشيةٍ أنْ تَصَدَّعا

قال الله تعالى: (كذلك كدنا ليوسف)، (1) فمهما فكّر البشر وقدّروا ثم فكّروا وقدّروا فغايتهم الفشل والخيبة مالم بأخذ الله تعالى بأيديهم تبارك وتعالى. والسعيد من كان الله معه. وتدبر قوله تعالى في شأن يوسف عليه السلام كيف كفاه أمره، (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه)، وقال سبحانه: (كذلك كدنا ليوسف).

قال الرازي الجصاص: "وفيما حكى الله تعالى من أمر يوسف وما عامل به إخوته في قوله ﴿فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ﴾ [يوسف ٧٠] إلى قوله ﴿كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف ٧٦] دلالة على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح واستخراج الحقوق؛ لأن الله تعالى رضي ذلك من فعله ولم ينكره، وقال في آخر القصة ﴿كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف ٧٦]. ومن نحو ذلك قوله تعالى ﴿وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ﴾ وكان حلف أن يضربها عدَدًا، فأمره تعالى بأخذ الضِّغْث، (2) وضربها به ليبرّ في يمينه من غير إيصال ألم كبير إليها. ومن نحوه: النهي عن التصريح بالخِطبة وإباحة التوصل إلى إعلامها رغبته بالتعويض". (3) وقال القاسمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (فَبَدَأ بِأوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِن وِعاءِ أخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاَّ أنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ): "فَبَدَأ أي فتى يوسف بِأوعِيَتِهِم، أي ففتشها قَبْلَ وِعاءِ أخِيهِ، أي بنيامين، نفيًا للتهمة، ثُمَّ اسْتَخْرَجَها، أي السقاية، مِن وِعاءِ أخِيهِ. (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي دبّرنا لتحصيل غرضه، (ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ) أي: شرعه وقانونه. والجملة استئناف وتعليل لذلك الكيد وصنعه. أي: ما صح له أن يأخذ أخاه في قضاء الملك، فدبر تعالى ما حكم به إخوة يوسف على السارق، لإيصال يوسف إلى إربه، رحمة منه وفضلًا. وفيه إعلام بأن يوسف ما كان يتجاوز قانون الملك، وإلا لاستبدّ بما شاء، وهذا من وفور فطنته وكمال حكمته، ويستدل به على جواز تسمية قوانين ملل الكفر (دينا) لها، والآيات في ذلك كثيرة.

وقوله تعالى: (إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ) يعني: أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره، لأن ذلك كله كان إلهامًا من الله ليوسف وإخوته، حتى جرى الأمر وفق المراد". (4) وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ﴿"قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين (73) قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين (74) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين (75) فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76): "عن ابن عباس: { صواع الملك } قال: كان من فضة يشربون فيه، وكان مثل المكوك، وكان للعباس مثله في الجاهلية، فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد، ثم نادى مناد بينهم: { أيتها العير إنكم لسارقون } فالتفتوا إلى المنادي وقالوا: { ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك } أي: صاعه الذي يكيل به، { ولمن جاء به حمل بعير } وهذا من باب الجعالة، { وأنا به زعيم } وهذا من باب الضمان والكفالة. ولما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة، قال لهم إخوة يوسف: { تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين } أي: لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا، لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة، أنّا ما جئنا للفساد في الأرض، وما كنا سارقين، أي: ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة، فقال لهم الفتيان: { فما جزاؤه } أي: السارق، إن كان فيكم { إن كنتم كاذبين } أي: أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه؟ { قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين }. وهكذا كانت شريعة إبراهيم: أن السارق يُدفعُ إلى المسروق منه. وهذا هو الذي أراد يوسف عليه السلام؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، أي فتّشها قبله تورية، { ثم استخرجها من وعاء أخيه } فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزامًا لهم بما يعتقدونه؛ ولهذا قال تعالى: { كذلك كدنا ليوسف }(5) وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة.

وقوله: { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } أي: لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر، قاله الضحاك وغيره. وإنما قيّض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم؛ ولهذا مدحه تعالى فقال: { نرفع درجات من نشاء } كما قال تعالى: { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير }. { وفوق كل ذي علم عليم } قال الحسن البصري: ليس عالِمٌ إلا فوقه عالم، حتى ينتهي إلى الله عز وجل. وكذا روي عن سعيد بن جبير. { قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون (77) }، وقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أُخرج من متاع بنيامين: { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل }، يتنصلّون إلى العزيز من التشبّه به، ويذكرون أن هذا فَعَل كما فعل أخ له من قبل، يعنون به يوسف عليه السلام.

وقوله: { فأسرها يوسف في نفسه }، يعني: الكلمة التي بعدها، وهي قوله: { أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون } أي: تذكرون. قال هذا في نفسه، ولم يبده لهم، وهذا من باب الإضمار قبل الذكر، وهو كثير، وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة في منثورها وأخبارها وأشعارها. قال العوفي، عن ابن عباس: { فأسرها يوسف في نفسه } قال: أسرّ في نفسه: { أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون }". (6)

ولابن تيمية استنباطات لطيفة من هذه القصة الجميلة الجليلة، ومن كيد الله تعالى لوليه ونبيه يوسف عليه السلام فقال: "فكاد الله ليوسف بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره. وكيد الله سبحانه وتعالى لا يخرج عن نوعين:

 أحدهما: هو الأغلب؛ أن يفعل سبحانه فعلًا خارجًا عن قدرة العبد الذي كاد له، فيكون الفعل قدَرًا محضًا ليس هو من باب الشرع، (7) كما كاد الذين كفروا بأن انتقم منهم بأنواع العقوبات. وكذلك كانت قصة يوسف؛ فإن يوسف أكثر ما قَدر أن يفعل أن ألقى الصواع في رحل أخيه وأذّن المؤذن بسرقتهم، فلما أنكروا { قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين } أي جزاء السارق { قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } أي جزاؤه نفسُ نفْسِ السارق يستعبده المسروق إما مطلقًا أو إلى مدة، وهذه كانت شريعة آل يعقوب، وقوله: (من وجد في رحله) فيه وجهان: أحدهما: أنه هو خبر المبتدأ، وقوله بعد ذلك: (فهو جزاؤه) جملة ثانية مؤكدة للأولى. والتقدير في جزاء هذا الفعل نفس من وجد في رحله، فإن ذلك هو الجزاء في ديننا كذلك يجزي الظالمين. والثاني: أن قوله { من وجد في رحله فهو جزاؤه } جملة شرطية هي خبر المبتدأ، والتقدير جزاء السارق هو أنه من وجد الصاع في رحله كان هو الجزاء، كما تقول جزاء السرقة ممن سرق قطع يده، وإنما احتمل الوجهين لأن الجزاء قد يراد به نفس الحكم باستحقاق العقوبة، وقد يراد به نفس العقوبة، وقد يراد به نفس الألم الواصل إلى المعاقب. فلمّا تكلموا بهذا الكلام كان إلهام الله لهم هذا كيدًا ليوسف خارجًا عن قدرته، إذ قد كان يمكنهم أن يقولوا: ألّا جزاء عليه حتى يثبت أنه هو الذي سرق، فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب حكم السارق. وقد كان يوسف عليه السلام عادلًا لا يمكنه أن يأخذهم بغير حجة، أو يقولون: جزاؤه أن يفعل به ما تفعلون بالسراق في دينكم، وقد كان من دين ملك مصر فيما ذكره المفسرون أن السارق يُضرب ويغرم قيمة المسروق مرتين، ولو قالوا ذلك لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزمه غيرهم. ولهذا قال سبحانه: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } أي ما كان يمكنه أخذه في دين ملك مصر لأن دينه لم يكن فيه طريق إلى أخذه - إلا أن يشاء الله - استثناء منقطع، أي: لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخر، أو يكون متصلًا بأن يهيئ الله سبحانه سببًا آخر بطريق يؤخذ به في دين الملك من الأسباب التي كان الرجل في دين الملك يُعتقل بها.

 فإذا كان المراد بالكيد فعلًا من الله سبحانه بأن ييسر لعبده المؤمن المظلوم المتوكل عليه أمورًا يحصل بها مقصوده بالانتقام من الظالم وغير ذلك فإن هذا خارج عن الحيل الفقهية، فإنّا إنّما تكلمنا في حيلٍ يفعلها العبد لا فيما يفعله الله سبحانه، بل في قصة يوسف تنبيه على أن من كاد كيدًا محرمًا فإن الله يكيده. وهذه سنة الله في مرتكب الحيل المحرمة، فإنه لا يبارك له في هذه الحيل كما هو الواقع.

 وفيها تنبيه على أن المؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة، وعلى هذا فقوله بعد ذلك: { نرفع درجات من نشاء } قالوا: بالعلم.

وفيه تنبيه على أن الخَفِيَّ الذي يتوصل به المقاصد الحسنة مما يرفع الله به الدرجات، وفيه دليل على أن يوسف كان منه فعل، فيكون بهذا العلم هو ما اهتدى به يوسف إلى أمرٍ توكّلَ في إتمامه على الله، فإن اهتداءه لإلقاء الصاع واسترجاعهم نوعُ فعلٍ منه، لكن ليس هذا وحده هو الحيلة. والحيل الفقهية (8) بها وحدها يتم غرض المحتال لو كانت حلالًا.

النوع الثاني من كيده لعبده: هو أن يلهمه سبحانه أمرًا مباحًا، أو مستحبًّا، أو واجبًا يوصله به إلى المقصود الحسن، فيكون هذا على إلهامه ليوسف أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضًا. وقد دل على ذلك قوله: { نرفع درجات من نشاء } فإن فيه تنبيهًا على أن العلم الدقيق الموصل إلى المقصود الشرعي صفة مدح، كما أن العلم الذي يُخصَمُ به المُبطِل صفة مدح. حيث قال في قصة إبراهيم: { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء }. وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع لكن لا يجوز أن يراد به الكيد الذي تُستحلّ به المحرمات، أو تسقط به الواجبات فإن هذا كيد لله، والله هو المكيد في مثل هذا، فمحال أن يشرع الله أن يُكاد دينه.

 وأيضًا؛ فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يُقصد به غير مقصوده الشرعي، ومحال أن يشرع الله لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له. وأيضًا فإن الأمر المشروع هو عام لا يخص به شخص دون شخص، فإن الشيء إذا كان مباحًا لشخص؛ كان مباحًا لكلّ من كان على مثل حاله، فإذن؛ من احتال بحيلة فقهية محرمة أو مباحة لم يكن له اختصاص بتلك الحيلة لا بفهمها ولا بعلمها، لأن الفقهاء كلهم يَشْرَكُونه في فهمها، والناس كلهم يساوونه في عملها، وإنما فضيلة الفقيه إذا حدثت حادثة أن يتفطن لاندراج هذه الحادثة تحت الحكم العام الذي يعلمه هو وغيره، أو يمكنهم معرفته بأدلته العامة نصًّا أيضًا واستنباطًا، فأما الحكم فمتقرر قبل تلك الحادثة.

فإذن؛ احتياج الناس إلى الحيل لا يجدد أحكامًا شرعية لم تكن مشروعة قبل ذلك، بل الأحكام مستقرّة وجدت تلك الحاجة، أو لم توجد، فإن كان الشارع قد جعل الحكم يتغير بتغير تلك الحاجة؛ كان حكمًا عامًّا وجدت حاجة ذلك الشخص المعين، أو لم توجد، وإن لم يكن جعل لتلك الحاجة تأثيرًا في الحكم، فالحكم واحد سواء وجدت تلك الحاجة مطلقًا، أو لم توجد.

 والله سبحانه إنما كاد ليوسف كيدًا جزاءً منه على صبره وإحسانه وذكره في معرض المنّة عليه، فلو لم يكن ليوسف عليه السلام اختصاص بذلك الكيد لم يكن في مجرد عمل الإنسان أمر مباح له ولغيره مِنّة عليه في مثل هذا المقام، فعُلم أن المنّة كانت عليه في أن أُلهم العمل بما كان مباحًا قبل ذلك، فإنه قد يلهم العبد ما لا يلهمه غيره، ولهذا قال بعض المفسرين في قوله تعالى { كدنا } صنعنا، وبعضهم قال ألهمنا يوسف. ومن احتال بعمل هو مباح في نفسه على الوجه الذي أباحه الشارع فهذا جائز بالاتفاق، وإنما الكلام في أنه هل يباح له ما كان محرمًا على الإطلاق مثل الخيانة والغلول، أو يباح له فعل المباح على غير الوجه المشروع مثل الحيل الربوية؟ يوضح ذلك: أن نفس الأحكام مثل إباحة الفعل لا يجوز أن تسمى كيدًا، وإنما الكيد فعل من الله ابتداء، أو فعل من العبد يكون العبد به فاعلًا، وعلى التقديرين فليس هذا من الحيل الشرعية.

وهذا الذي ذكرناه في معنى الكيد إنما انضم إليه معرفة الأفعال التي فعلها يوسف عليه السلام، والأفعال التي فعلها الله له؛ تيقّن اللبيب أن الكيد لم يكن خارجًا عن إلهامِ فعلٍ كان مباحًا، أو فعلٍ من الله تمّ به ذلك الفعل، وأن حاجة يوسف لم تُبِح له فعل شيء كان حرامًا على الإطلاق في الجملة قبل ذلك، وهذا هو المقصود، والله أعلم". (9)

إِذا ما سُهَيلٌ أَبرَزتهُ غَمَامَةٌ  ...  عَلَى مَنكِبٍ مِن جانِبِ الطُّورِ يَلمَحُ

دَعا بَعضُنا بَعضًا فَبِتنا كأَنَّنا  ... رَأَينا حَبِيبًا كانَ يَنأَى وَينزَحُ

وَذلكَ أَنّا واثِقُونَ بِقُربِكُم  ...  وأَنَّ النَّوَى عَمّا قَليلٍ تَزَحزَحُ

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

..............................................

1.    قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى في وجه مناداة إخوة يوسف عليه السلام بالسارقين (6 / 127): "قد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين:

 أحدهما: أنه من باب المعاريض، وأن يوسف نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه حيث غيّبوه عنه بالحيلة التي احتالوها عليه وخانوه فيه، والخائن يسمى سارقًا، وهو من الكلام المشهور حتى إن الخونة من ذوي الديوان يسمّون لصوصًا.

الثاني: أن المنادي هو الذي قال ذلك من غير أمر يوسف عليه السلام. قال القاضي أبو يعلى وغيره: أمر يوسفُ بعضَ أصحابه أن يجعل الصاع في رحل أخيه، ثم قال بعض الموكلين بالصيعان - وقد فقدوه ولم يدروا من أخذه منهم -: (أيتها العير إنكم لسارقون) على ظنٍّ منهم أنهم كذلك، ولم يأمرهم يوسف بذلك. فلم يكن قول هذا القائل كذبًا كان في حقّه وغالب ظنه ما هو عنده، ولعل يوسف قد قال للمنادي: هؤلاء قد سرقوا، وعنى بسرقته من أبيه، والمنادي فهم سرقة الصواع وهو صادق في قوله: (نفقد صواع الملك)، فإن يوسف لعله لم يطلع على أن الصواع في رحالهم ليتمّ الأمر؛ فنادى: (إنكم لسارقون) بناء على ما أخبر به يوسف، وكذلك لم يقل: سرقتم صاع الملك، إنما قال: نفقده، لأنه لم يكن يعلم أنهم سرقوه، أو أنه اطّلع على ما صنعه يوسف فاحترز في قوله فقال: (إنكم لسارقون)، ولم يذكر المفعول ليصح أن يضمر سرقتهم يوسف، ثم قال: (نفقد صواع الملك)، وهو صادق في ذلك، وكذلك احترز يوسف في قوله: { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } ولم يقل إلا من سرق. وعلى التقدير فالكلام من أحسن المعاريض".

2.    الضِّغْث: مجموعة من شماريخ قنو النخل.

3.    أحكام القرآن للجصاص (٣/ ١٧٦)

4.    تفسير القاسمي "محاسن التأويل" (6/ 204)

5.    معتقد أهل السنة والجماعة إثباتٌ صفة الكيد والمَكر على حقيقتهما بلا تمثيل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تحريف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (٧/‏١١١) في ردّه على من زعم أنّ في القرآن مجازًا: "وكذلك ما ادّعوا أنه مجاز في القرآن؛ كلفظ: المَكر والاستهزاء والسخرية المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمّى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فُعلت بمن لا يستحق العقوبة؛ كانت ظلمًا له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله؛ كانت عدلًا؛ كما قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ﴾، فكاد له كما كادت إخوته لمّا قال له أبوه: ﴿لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾، وقال تعالى: ﴿إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وأكِيدُ كَيْدًا)". وقال في التدمرية (٢٦): "وهكذا وصف نفسه بالمَكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال: ﴿ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللهُ﴾، وقال: ﴿إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا . وأكِيدُ كَيْدًا﴾، وليس المَكْر كالمَكْر ولا الكيد كالكيد". وقد فصل الكلام عليها ابن القيم في المدارج (٣/‏٤١٥)، وانظر أيضًا: مختصر الصواعق المرسلة (٢/‏٣٢-٣٤)

6.    تفسير ابن كثير (٤/‏٤٠١- 403) باختصار.

7.    أي من باب الخلْق والتقدير والإرادة الكونية، لا من باب الأمر والتشريع والإرادة الشرعية.

8.    عرّف الشاطبي رحمه الحيل الفقهية في الموافقات (٤ /٢٠١) بقوله: «حقيقتها المشهورة: تقديم عمل ظاهره الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر». أهـ. ولم تُعرف الحيل في عهد النبوة ولا في عهد الصحابة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقفل بابها بمثل قوله: "لا يُجمع بين متفرّق، ولا يُفرّق بين مجتمع خشية الصدقة"، رواه البخاري (١٤٥٠)  قال ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقّعين (٣ / ١٥٩): «وهذا نصّ في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة، أو التنقيص منها بسبب الجمع والتفريق، فإذا باع بعض النصاب قبل تمام الحول تحيّلًا على إسقاط الزكاة أو التنقيص منها بسبب الجمع أو التفريق، فقد فرق بين المجتمع فلا تسقط الزكاة عنه بالفرار منها. ومثل: لعنه صلى الله عليه وسلم للمُحلِّلِ والمُحّلَّل له". أهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى الكبرى (٦/‏٧٩): "أمّا الإفتاء بها وتعليمها للناس، وإنفاذها في الحكم، واعتقاد جوازها؛ فأوّل ما حدث في الإسلام في أواخر عصر صغار التابعين بعد المئة الأولى بسنين كثيرة، وليس فيها ولله الحمد حيلة واحدة تُؤثَرُ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل المستفيض عن الصحابة أنهم كانوا إذا سُئلوا عن فعل شيء من ذلك أعظموه وزجروا عنه".

9.   الفتاوى الكبرى (6 / 133- 134)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق