إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

الدعاءُ لرفع نازلة الدِّين

 

الدعاءُ لرفع نازلة الدِّين

 

الحمد لله، وبعد؛ فإن رأسُ مال المؤمن دِينُه وإيمانُه وإسلامُه، لذا فإن كانت البليّة والرزيّة في الدِّين فلا ينبغي أن يكون تردد أو خلاف في أمر الدعاء برفع تلك البليّة، فما خُلقنا إلا لإقامة الدين، وما لِكَسر قناة الدين جبرانُ، وإن ساغ الرضا بمُرّ المقدور في رزايا الأمور الدنيوية مع ترك الدعاء برفعه فلا يسوغ ذلك بأي حال في الدين، لأنها ذنوب وخطيئات، والعبد مأمور بالاحتراز منها في الابتداء، وبالتخلص منها ومن أدرانها وآثارها إن الْتَطَخَ بها، أما ما يفعله بعض الجهلة في انغماسهم في الرضا بالذنوب والرذائل والخطايا زعمًا بأنهم جارين مع الرضا بالقضاء، والسير مع القدر، وخلطوا بين الإرادتين الشرعية والكونية؛ فهذا محض الجهل ودهليز الخرافة وسابلة الضلال، وقد سبق الجواب عليه وكشف شبهاته في غير هذا الموضع.

تَتِمَّة: ثمّت حديثان يرِدَان بخصوص هذا الموضوع، وهما حديثا المرأة التي كانت تُصرع والرجل الضرير، وقد يظن بعض الأفاضل أن فيهما فضيلة ترك الدعاء لرفع البلاء وليسا كذلك؛ لأن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهما في أمرهما هذا مستجابة، لإخباره لهما بذلك، (1)  فخرج بهذا الفارق عن مناط مسألتنا، لأن الدعاء عبادة مستقلة مطلوبة بذاتها، ولم يرد في الشرع مشروعية تركها بحال، وليس في الحديثين أمرهما بترك الدعاء، هذا أوّلًا. ثانيًا: قد ترد خصوصيةٌ لكل منهما، وبيان ذلك فيما يلي:

أولًا: حديث المرأة التي كانت تُصرَع:

عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أُريكَ امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أصرع، وإني أتكشّف، فادع الله تعالى لي . قال: "إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيَكِ" فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشّف فادع الله أن لا أتكشّف، فدعا لها". (2) وفي الحديث تخيير المرأة بين الصبر وضمان الجنة، وبين الدعاء لشفائها الناجز، (3) فاختارت ما عند الله رضي الله عنها، وهذا الحديث ليس مما نحن بسبيله من عدم التعارض بين الرضا والدعاء برفع البلاء، فظاهرهُ خصوصية تلك المرأة بذلك، ومن ذا الذي يرفض هذا العرض الهائل بضمان الجنة؟!

لذلك فقد يتوجّه القول بأن خبر هذه المرأة السوداء قضيةُ عين من جهة البشارة إنْ وَفَتِ الصبر، لا مطلق الثواب لمن فعل مثلها، وكذلك الحال للضرير، بدليل خطابهما المباشر بالوعد بالجنة مع وجود أصحاب عاهات وعلل وعمًى في المدينة، ولم يرد أنه وعدهم بخصوصهم بذلك، ولعل ذلك بسبب أنهم لم يطلبوا دعاءه صلى الله عليه وسلم لشفائهم، وفضل الله واسع بكل حال.

 وقد يكون لهذه المرأة خبيئة صالحة رضي الله عنها بها فكافأها بعاجل بشراها بالجنة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إن وفت ما تبقى من عهد الصلاح بالصبر على البلاء، فخصوصيتها إنما هي عاجل البشارة، أما ترتيب الثواب فالأظهر عمومه لكل من صبر على مثل بلائها لله، فإنّ الأصل أن خطابه صلى الله علي وسلم لآحاد أمته على جهة التشريع هو خطاب لكل أمته إلا بمُخصِّص يُخرج ما عداها، ولم يرد المخصص هنا بحمد الله وكرمه وفضله وامتنانه.

 وعليه؛ فترك التداوي لمن علم من نفسه تمام الصبر والرضا خير من التداوي إلا إن ترتب عليه فواتُ فضائل إيمانية أرجح من ذلك، وبخاصة ما تعدّى نفعه كالقيام على العيال أو الجهاد في سبيل الله بالعلم والقتال والدعوة والإغاثة ونحو ذلك. وعلى المتداوي وتارك الدواء الدعاء بكشف البلاء إن كان في كشفه خيرًا. قال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على حديث المرأة السوداء: "وفى ذلك دليلٌ على جواز ترك المعالجةِ والتداوي، وأنَّ علاجَ الأرواح بالدعواتِ والتوجُّهِ إلى الله يفعلُ ما لا ينالُه علاجُ الأطباء، وأنَّ تأثيرَه وفعلَه وتأثُّرَ الطبيعةِ عنه وانفعالها أعظمُ من تأثيرِ الأدويةِ البدنيةِ وانفعالِ الطبيعة عنها، وقد جرَّبنا هذا مرارًا نحن وغيرُنا". (4)

وعليه؛ فترك الدعاء غير داخل هنا بالمرّة، إنما قُصَاراه ترك التداوي للصابر. وعلى هذا فيستقيم لنا القول: إنّ الدعاء برفع البلاء هو الأصل في الدِّين، وهو جادّة المرسلين، ولا يُشرع تركه بحال.

 أما من قال: إني دائر مع قضاء ربي، ولن أسأله رفع بلاء اختاره لي، قلنا له: إنّ مَن ابتلاك هو من أمرك بدعائه والضراعة إليه والانكسار بين يديه في آيات كثيرة من كتابه، ولستَ بخيرٍ ولا أكمل تفويضًا وحسن عبادة وكمال تعلق من نبينا صلى الله عليه وسلم والمرسلين من قبله، وقد كانوا يدعون الله تعالى برفع البلاء وكشف الضراء وإسبال العافية في الدين والدنيا، واعلم أن من أعظم حِكم البلاء إدمانُ دعاءِ من يَفرح بعبده إذا دعاه، ويغضب عليه إن ترك سؤاله، قال تبارك وتعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم). وقال نبيه صلى الله عليه وسلم: "من لا يسأل الله يغضبْ عليه". (5)

 والدعاء برفع البلاء كالمرض أو الفقر أو الحبس أو المظلمة ونحو ذلك لا يخدش التوكل، ولا يمنع كمال التعلق، إنما الكلام في ترك بعض الأسباب الظاهرة كالدواء للمريض، وطلبِ المعونة لرفع مظلمة، ونحو ذلك، تعلّقًا بالمُسَبِّب سبحانه؛ فهذا هو الفاضل لمن غلب على ظنّه عظيم الصبر على ذلك البلاء وواسع الرضا به، عبادةً لله تعالى، وتلذُّذًا بالصبر في ذاته سبحانه، وبالرضا والحمد والشكر له. وقد كان الحنيف عليه السلام يدعو ربه، ويخبر بأنه الشافي وحده، مخلصًا دينه له: (وإذا مرضتُ فهو يشفين).

ففضيلة الترك للكُمّل هو تركهم أسبابًا ظاهرة تعلُّقًا بالمُسبِّب سبحانه، وليس بترك دعائه أن يكشف البلاء عنهم، لأنّ الدعاء – وهو أعظم الأسباب مع التوكل - مقصود لذاته، أما الأسباب الظاهرة فوسيلة دنيا لا غير. فافترقا من هنا، وعليه: فادع الله بكل أحوالك لرفع كل أدوائك وابتلاءاتك، وبالله التوفيق، والله أعلم.

قال ابن بطال رحمه الله بعد إيراد حديث المرأة السوداء: "وفيه: فيه فضل الصرْع، وفيه أن اختيار البلاء والصبر عليه يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه أنه يطيق التمادي على الشدة ولا يضعف عن التزامها". (6) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث أن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على ترك التداوي، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل". (7)

 وتأمّل حال أيوب عليه السلام، فإنه صبر ورضي طويلًا حتى إذا بلغ به الأمر دعا: (رب إني مسني الضر). فالعبد دائر في رحى العبودية، فإن غلب على ظنه صلاح حاله بالعافية، وقوّته على العبادات، وانشراح صدره بالذكر ونحو ذلك فليدع بخصوص أمره وكشف ضره وبتفويض الخيرة لله تعالى له، وإن غلب على ظنه تلذُّذه بالصبر والرضا والحمد والشكر فليلزمه طاقته، وليسأل ربه العافية بكل حال، فإن ضعف لعارض أو طول مدى فليدع ربه، فكلا الأمرين خير وبرّ وعبادة، والعافية مع الشكر باب للجنة، كما أن الصبر والرضا بابان لها، وكلها مجتمعة في الأمر الواحد للمؤمن الواحد إن وفقه الله تعالى لفقهها والعمل بمقتضاها. ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له». (8)

ثانيًا: حديث الضَّرِير:

وقد رواه أحمد وغيره (9) عن عثمان بن حنيف، أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئتَ دعوتُ لك، وإن شئتَ أخّرت ذاك، فهو خير". وفي رواية: "وإن شئتَ صبرت فهو خير لك". فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجّه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة، يا محمد، إني توجّهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم شفّعه في". (10) وقد عَلِمَ صلى الله عليه وسلم أن دعاءه للمرأة وللضرير مستجاب؛ لكنه أرشدهما إلى خيرٍ لهما من ذلك وهو الصبر على البلاء، على رجاء أن يعوِّض الله صاحبه ما هو خير وأبقى، جنّة عرضها السماوات والأرض، فأخذت بإرشاده المرأة، واستعجل الرجل بُشراه، فطلب الدعاء بكشف البلاء، فكان لهما ما طلبا. ولا يعني ذلك أن يترك العبد الدعاء لنفسه لكشف البلاء؛ فإن الدعاء بذاته مستوجب للأجر والثواب سواء رُفع البلاء أو بقي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة". (11)

ولا يظهر أنّ الأمر بالصبر مع بقاء البلاء في هذا الحديث مخصوص بذلك الرجل فيكون قضية عين، ولكن ربّما يكون مخصوصًا بجملة العُميان للفضيلة الخاصة بالصبر على فقد البصر، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه (12) فصبر عوّضته منهما الجنة". (13) وهذ الفضل الخاص هو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث الضرير: "وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك". فقد يكون العمى مخصوصًا بهذا الحديث، والأمر محتمل. وقد لا يكون مُخصّصًا أصلًا، وهو الأظهر لعدم الدليل القاطع الصارف للتخصيص، وبكل حال فليس في الحديث توجيه للأعمى بترك الدعاء، فاتسق بذلك مع ما سواه من الأحاديث الدالة على فضيلة الحسنيين الرضا والدعاء، وبالله التوفيق.

وبعد؛ فمن الحسن الآن تبيان التوسل المشروع من الممنوع، فإن الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة)، قال قتادة: "تقرّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه".

والتوسل المشروع هو الذي أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل به الصحابة، وله أنواع عديدة أهمها:

1. التوسل بالإيمان: قال تعالى يحكي توسل عباده بإيمانهم: (ربنا إننا سمعنا مُناديا يُنادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا و كفر عنها سيئاتنا و توفنا مع الأبرار).

2. التوسل بتوحيد الله تعالى: كدعاء يونس عليه السلام حين ابتلعه الحوت: (فنادى في الظلمات أنْ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له و نجَّيناه من الغمِّ و كذلك نُنجي المؤمنين".

3. التوسل بأسماء الله تعالى: قال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها). ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "أسألك بكل اسم هو لك ..". (14)

4. التوسل بصفات الله تعالى: كقوله صلى الله عليه وسلم: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث". (15)

5. التوسل بالأعمال الصالحة: كالصلاة وبر الوالدين وحفظ الحقوق والأمانة والصدقة والذكر وتلاوة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وحبّنا له ولأصحابه... وغيرها من الأعمال الصالحة، فقد ثبت في صحيح مسلم قصة أصحاب الغار الذين حُبسوا فيه، فتوسّلوا إلى الله بحفظ حقّ الأجير والإحسان للوالدين وعفاف الفرج؛ ففرّج الله عنهم.

6. التوسل إلى الله بترك المعاصي: و قد توسل أحد أصحاب الغار الذين حُبسوا فيه بتركه الزنا ففرّج الله عنه.

وبعض المسلمين – هداهم الله - تركوا العمل الصالح والتوسل به، ولجؤوا إلى التوسل بأعمالِ غيرهم من الأموات، مخالفين هدي الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما التوسل الممنوع فهو الذي لا أصل له في الدين، فيأتي على أنواع:

1-   التوسل بالأموات: وطلب الحاجات منهم، والاستعانة بهم، كما هو واقع اليوم من الجهلة، ويسمون شركهم تقرّبًا ووثنيّتهم توسّلًا، وليس كذلك، لأن التوسل المشروع هو الطلب من الله بواسطةٍ مشروعة كالإيمان والعمل الصالح وأسماء الله الحسنى، أما دعاء الأموات فهو إعراض عن الله تعالى، وهو من الشرك الأكبر لقوله تعالى: (و لا تدعُ من دون الله ما لا يَنفعك ولا يَضرك فإنْ فعلتَ فإنك إذا من الظالمين)، والظالمون هنا هم المشركون. ومن توسل بالأموات فدعاهم لكشف الكربات فقد أشرك وخرج من ربقة الإسلام، والله تعالى يقول: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).

2-   التوسل بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم: كقول بعضهم: "يا رب، بجاه محمد اشفني" فقوله هذا بدعة وضلالة وإحداث في الدين، وليس بمُخرج من الملّة؛ لأنه أخلص الدعاء لله، لكنه ابتدع في دين الله ما لم يأذن به الله من التوسل إلى الله تعالى بجاه مخلوق. والصحابة لم يفعلوه، وعمر رضي الله عنه توسل بالعباس حيًّا بدعائه ولم يتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته عندما طلب نزول المطر، أما حديث: "توسّلوا بجاهي" فهو باطل لا أصل له كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا التوسل البدعي قد يؤدي للشرك، وذلك إذا اعتقد أن الله محتاج لواسطة كالأمير والحاكم، لأنه شبّه الخالق بالمخلوق". (16) نسأل الله حسن المعتقد وصلاح العمل وإخلاص النية وحسن الختام.

 

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

.............................

1.    مسألة: هل دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كله مستجاب؟

الجواب: المسألة فيها تفصيل: فدعاء الثناء كله مُجاب – بمعنى الثواب – أما دعاء المسألة فهو على قسمين:

الأول: الإجابة العامة، بمعنى أن الله تعالى يستجيب دعاءهم كله بالمعنى العام، وهو أنه يعجل تحقيقها لهم، أو يؤخرها لحكمة، أو يدفع من البلاء بقدرها، أو يدّخرها أجرًا وذخرًا، فمن هذه الحيثية كل دعاءهم مجاب لأنّهم كُمَّلُ البشر، وأقومهم عبودية لله تعالى، وأحبُّ الخلائق إلى الله سبحانه، وهم أدعى الناس للإتيان بشروط إجابة الدعاء واستكمال آدابه، مع قيامهم بحق الله تعالى وإقامة دينه، وقد وعد الله من هذا شأنه بالإجابة، قال سبحانه: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).

الثاني: الإجابة الخاصة، بمعنى تحقيق المطلوب وتنجيزه، فالأصل إجابة دعوتهم بتنجيزها إلا لحكمة يريدها الله تبارك وتعالى اقتضت ذلك، فليس بمضطرد تحقيق ذلك، وإن كانوا هم أرجى الناس لتحقيق الله لهم ذلك، إلا ما خصه الله لهم من ذلك كما في شفاعته صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري (6304) ومسلم (199) واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجّل كلُّ نبيّ دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا"، وفي رواية: "لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له، وإني أريد إن شاء الله أن أؤخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". قال النووي رحمه الله في المنهاج - وهو شرحه على مسلم- (3 / 75): "هذه الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، ومعناها أن كل نبي له دعوة متيقنة الإجابة، وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم فهم على طمع من إجابتها، وبعضها يجاب وبعضها لا يجاب. وذكر القاضي عياض أنه يحتمل أن يكون المراد لكل نبي دعوة لأمته. وفى هذا الحديث بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ورأفته بهم، واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخّر النبي صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته إلى أهمّ أوقات حاجاتهم".

وفي عمدة القاري (33 / 44): "فإن قلت: وقع للكثير من الأنبياء عليهم السلام من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا، وظاهرُه أن لكل نبي دعوة مجابة فقط. قلت: أجيب بأن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة. وقيل معنى قوله: "لكل نبي دعوة" أي أفضل دعواته، وقيل: لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب. قلت: لا يحسن أن يقال في حق نبي من الأنبياء أن يقال: مِن دعواته ما لا يُستجاب، والمعنى الذي يليق بحالهم أن يقال: مِن دعواتهم ما يستجاب في الحال، ومنها ما يؤخّر إلى وقتٍ أرادهُ الله عز وجل أن اختبأ -أي أدخر- وجعلها خبيئة". أهـ.

قلت: ولو قال: أجابهم بالمعنى العام كان أصوب؛ لأن منها ما لم يستجب له منجزًا ولا مؤخرًا – أي بالإجابة الخاصة المنجّزة، وإن كان قد استجاب له إن شاء الله الإجابة العامة ومنها الإثابة – كدعائه صلى الله عليه وسلم على أناس بأعيانهم فهداهم الله للإسلام – وسيأتي -.

وقال في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7 / 683): "وقيل: معناه إن لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح: (رب لا تذر على الأرض)، وقول زكريا: (فهب لي من لدنك ولياً يرثني)، وقول سليمان: (رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي). حكاه ابن التين". أهـ.

وقد دلت السنة على هذا، فمن ذلك ما رواه البخاري (7/423) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام" فنزلت: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)، وفي رواية الترمذي ( 3004) وصححه الألباني، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية"، فنزلت: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) فتاب عليهم فأسلموا، فحسن إسلامهم.

2.    البخاري 7/150 و151 ( 5652 ) ومسلم 8/16 ( 2576 ) وعند البخاري في رواية عن عطاء: "أنه رأى أم زفر تلك المرأة الطويلة السوداء على ستر الكعبة" وفي معرفة الصحابة لأبي نعيم (6 / 3375) عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: "ألا أريك امرأة من أهل الجنة"؟ قال فأراني حبشيّة صفراء عظيمة، يقال: هذه شقيرة.

3.                                 مسائلُ في الصَّرْع

الصرْع- بتسكين الراء-: هو علة في الجهاز العصبي تصحبها غيبوبة وتَثَنّي في العضلات. وهو منقسم على الروح والجسد، فصرع الروح علّته قوى خفية كتلبّس الجان للمصروع، فيؤثر على الجسد فيصرعه. ودواء هذا النوع بالتوكل على الله تعالى وبالرقية والدعاء والاستغفار.

 أما صرع الجسد فهو علّة في الأعصاب لها أنواع سببها – بإذن الله - خلل في الجهاز العصبي، ودواء هذا النوع هو عين دواء النوع الأول مع زيادة أدوية الأطباء الحسية كوخزات الكهرباء أو بالأدوية والعقاقير المعتادة، ومع تقدم العلوم الطبية في مجال أمراض الدماغ والأعصاب عُرفت أنواع عديدة من الصرع تعود إلى خلل في كهرباء الدماغ يؤثر في أعضاء البدن، ولها أدوية تنظم كهرباء الدماغ فتمنع الصرع بإذن الله. وكذلك لبعض أنواعه علاج بالجلسات النفسية أحيانًا.

 والصرع بنوعية من جملة الابتلاء الإلهي كبقية الابتلاءات بالأمراض وغيرها التي تستوجب رجوعًا لله تعالى، وتعلقًا به سبحانه، وانطراحًا بين يديه، وانكسارًا لعظمته، وتذلّلًا لعزته تبارك وتعالى، مع بذل الوسع في رفع البلاء بالدعاء دومًا، وباستحباب الدواء أحيانًا.

وقد كثر خوض الناس في هذا الزمان في مسألة تلبّس الجانّ بالإنسان، وهذه المسألة مبنيّة على أُسّين:

أولاهما: وجود الجن، فهذا أمر معلوم متيقن منه، ومنكر الجن كافر لتكذيبه صريح القرآن والسنة المتواترة، فقد ذكرهم الله تعالى في آيات عديدة، كقوله عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، بل أنزل سورة سميت باسمهم، قال تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا). وعدم رؤيتنا لهم لا ينفي وجودهم، فقد جعل الله لهم خاصية الاختفاء عن أعيننا، قال سبحانه وتعالى:  ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ )، وذكر سبحانه وتعالى أصل خلق الجن فقال تعالى: ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانّ من نار، وخلق آدم مما وُصف لكم"، رواه مسلم (5314)

ولا يوجد في طوائف المسلمين من ينكر وجود الجن، بل حتى الكفار من اليهود والنصارى يؤمنون بوجودهم، قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (18/10): "لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا في أن الله أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم. وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن. أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين.. وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترا معلومًا بالاضطرار". وقال في الرد على المنطقيين (470): "عامّة أساطين الفلاسفة كانوا يقرون بهذه الأشياء، وكذلك أئمة الأطباء كأبقراط وغيره يقرّ بالجن، ويجعل الصرع نوعين: صرعًا من الخلْط، وصرعًا من الجن".

الثاني: دخول الجنّ لجسد الآدمي، ومنه التلبّس، فهذا ثابت، لكنه ليس كثبوت وجود الجن، وعليه من أنكر التلبّس فقد أخطأ وضل وكذّب ما ثبت في الأدلة الشرعية والواقع المتكرر وجوده. ولكن لخفاء هذه المسألة لا يُكَفَّرُ المخالف فيها، ولكن يُخَطَّأ ويُضلّل؛ لأنه لا يعتمد في إنكار ذلك على دليل، ولم يتعمّد تكذيب الوحي، وإنما يعتمد على عقله القاصر عن فهم كثير مما يحيط به في حياته، وهذا خذلان وضلال، مع أن العقل الصحيح لا يتعارض البتة مع النص الصحيح الصريح.

وقد ذُكر تلبس الجان للإنسي في سورة البقرة فقال تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)، أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا على هيئة المصروع الممسوس. وقد جاء في السنة ذكر المسّ كذلك – وهو التلبّس - فعند ابن ماجه (2 / 1174) (3548) وصححه الألباني عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: "لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أُصلّي! فلمّا رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ابن أبي العاص؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "ما جاء بك؟" قلت: يا رسول الله، عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي. قال: "ذاك الشيطان. ادنُه"، فدنوت منه، فجلستُ على صدور قدمَيّ. قال: فضرب صدري بيده وتفل في فمي وقال: "اخرج عدوَّ الله"! ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: "الحق بعملك". قال: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد". وفي رواية: فقلت: يا رسول الله، إن القرآن ينفلت مني، فوضع يده على صدري وقال: "يا شيطان، اخرج من صدر عثمان". فما نسيت شيئًا أريد حفظه". أخرجه البيهقي في دلائل النبوة ( 5 / 308 ) وقال الألباني في السلسلة (6/ 999): "إسناده صحيح.. وفي الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان ويدخل فيه ولو كان مؤمنًا صالحًا، وفي ذلك أحاديث كثيرة منها حديث يعلى بن مرّة، وذكر فيه خبر أمّ الصبي التي اعترضت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنها في سفره، وفيه: "وأتته امرأة فقالت: إن ابني هذا به لممٌ منذ سبع سنين يأخذه كل يوم مرتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَدنيه". فأدنته منه فتفل في فيه وقال: "اخرج عدوَّ الله، أنا رسول الله". ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رجعنا؛ فأعلمينا ما صنع". فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ استقبلته ومعها كبشان وأقط وسمن، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ هذا الكبش فاتخذ منه ما أردت". فقالت: والذي أكرمك؛ ما رأينا به شيئًا منذ فارقتنا.. الحديث.

وفي الختام أقول: ليس غرضي مما تقدم إلا إثبات ما أثبته الشرع من الأمور الغيبية، والرد على من ينكرها. ولكنني من جانب آخر أنكر أشد الإنكار على الذين يستغلون هذه العقيدة، و يتخذون استحضار الجن ومخاطبتهم مهنة لمعالجة المجانين والمصابين بالصرع، و يتخذون في ذلك من الوسائل التي تزيد على مجرد تلاوة القرآن مما لم ينزل الله به سلطانًا، كالضرب الشديد الذي قد يترتب عليه أحيانًا قتل المصاب، كما وقع هنا في عمّان وفي مصر، مما صار حديث الجرائد والمجالس. لقد كان الذين يتولون القراءة على المصروعين أفرادًا قليلين صالحين فيما مضى، فصاروا اليوم بالمئات، وفيهم بعض النسوة المتبرجات، فخرج الأمر عن كونه وسيلة شرعية لا يقوم بها إلا الأطباء عادة، إلى أمور ووسائل أخرى لا يعرفها الشرع ولا الطب معًا.. وقد ورد خبر آخر عن الطبراني في المعجم الكبير (5/275) (5314) في قصة الوازع، ولكن الخبر لا يثبت". أهـ مختصرًا.

وقد روى البخاري ( 2035 ) ومسلم ( 2175 ) عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيته أزوره ليلًا، فحدّثته، ثم قمت لأنقلب، فقام ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمرّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما، إنها صفية بنت حيي"، فقالا: "سبحان الله يا رسول الله"! فقال صلى الله عليه وسلم: "إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا، أو شيئًا". فدل هذا على وجود الجان في مسالك عروق الإنسان.

ومن الأدلة كذلك ما رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبَّر، ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك"، ثم يقول: "الله أكبر كبيرًا"، ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه ونفثه". رواه أبو داوود (775) وصححه الألباني. وقال في إرواء الغليل (2 / 56) بعد ذكر الروايات والشواهد: "وأما حديث أبي أمامة فلفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة من الليل كبّر ثلاثًا، وسبّح ثلاثًا، وهلّل ثلاثًا، ثم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه وشركه"، وفى رواية: "ونفثه" بدل "وشركه". أخرجه أحمد (5/253).. ثم استدركت حديثًا مرسلًا آخر، وفيه تفسير الألفاظ التي وردت في هذه الزيادة، وهو من رواية أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه"، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تعوّذوا بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه"، قالوا: يا رسول الله وما همزه ونفخه ونفثه؟ قال: "أما همزه فهذه الموتة التي تأخذ بني آدم، وأما نفخه فالكبر، وأما نفثه فالشِّعر". أخرجه أحمد (6/156) بإسناد صحيح إلى أبى سلمة، وفيه رد على من أنكر من المعاصرين ورود هذا التفسير مرفوعًا.

وبالجملة فهذه أحاديث خمسة مسندة، ومعها حديث الحسن البصري، وحديث أبي سلمة المرسَلَين إذا ضمّ بعضها إلى بعض قطع الواقف عليها بصحة هذه الزيادة، وثبوت نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى المصلي الإتيان بها اقتداء به عليه الصلاة والسلام. وأما الزيادة الأخرى وهي "السميع العليم" فصحيحة أيضًا، وقد ورد فيها أحاديث". أهـ.

 وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: "نفثه: الشعر، ونفخه: الكبِر، وهمزه: الموتة". قال ابن كثير (1/61): "فهمزه الموتة، وهو الخنق الذي هو الصرع". وقال ابن منظور (لسان العرب (2/93): "الموتة: جنس من الجنون والصرع، يعتري الإنسان فإذا فاق عاد إليه عقله". وقد ذكر القاضي أبو يعلى في طبقات الحنابلة (108- 109) أن الإمام أحمد بن حنبل كان يجلس في مسجده فأنفذ إليه الخليفة العباس المتوكل صاحبًا له يعلمه أن جارية بها صرع، وسأله أن يدعو الله لها بالعافية، فأخرج له أحمد نعلي خشب بشراك من خوص للوضوء، فدفعه إلى صاحب له، وقال له: "امض إلى دار أمير المؤمنين، وتجلس عند رأس الجارية وتقول له، - يعني الجان- قال لك أحمد: أيّما أحب إليك: تخرج من هذه الجارية، أو تصفع بهذه النعل سبعين"؟ فمضى إليه، وقال له مثل ما قال الإمام أحمد، فقال له المارد على لسان الجارية: السمع والطاعة، لو أمرنا أحمد أن لا نقيم بالعراق ما أقمنا به، إنه أطاع الله، ومن أطاع الله أطاعه كل شيء، وخرج من الجارية وهدأت ورزقت أولادًا، فلما مات أحمد عاودها المارد، فأنفذ المتوكل إلى صاحبه أبي بكر المَرُّوذي وعرّفه الحال، فأخذ المروذي النعل ومضى إلى الجارية، فكلمه العفريت على لسانها: لا أخرج من هذه الجارية، ولا أطيعك، ولا أقبل منك، أحمد بن حنبل أطاع الله، فأُمرنا بطاعته.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قومًا يقولون: إن الجنّ لا يدخل في بدن المصروع من الإنس، فقال: "يا بني يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه". وانظر: مجموع الفتاوى (19/12).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على المنطقيين" (407): "إن دخول الجني بدن الإنس، وتكلّمه على لسانه بأنواع الكلام وغير ذلك أمر قد علمه كثير من الناس بالضرورة..". وقد عالج ابن تيمية الإنسان المصروع بسبب الجني مرات كثيرة، وحدَّث عن نفسه في ذلك فقال: "كما قد فعلنا نحن هذا، وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين". (مجموع الفتاوى (19 / 60) وبنحوه قال الحافظ ابن حجر، وقبلهما ابن حزم في كثير من أهل العلم.

وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (4/66 ،70): "الصَّرْع صرعان: صَرْعٌ من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصَرْعٌ من الأخلاطِ الرديئة. والثاني: هو الذى يتكلم فيه الأطباء في سببه وعِلاجه.

وأما صَرْعُ الأرواح، فأئمتُهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأنَّ علاجه بمقابلةُ الأرواحِ الشريفةِ الخيِّرةِ العُلويَّة لتلك الأرواح الشِّريرة الخبيثة، فتُدافِعُ آثارها، وتعارضُ أفعالَها وتُبطلها، وقد نص على ذلك "أبقراط" في بعض كتبه، فذكر بعضَ عِلاج الصَّرْعِ، وقال: هذا إنما ينفع من الصَّرْع الذى سبَبُه الأخلاط والمادة. وأما الصَّرْع الذى يكون من الأرواح، فلا ينفع فيه هذا العلاج.

وأما جهلةُ الأطباء وَسقَطُهم وسفلَتُهم، ومَن يعتقِدُ بالزندقة فضيلة، فأُولئك يُنكِرون صَرْعَ الأرواح، ولا يُقرون بأنها تُؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهلُ، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يَدفع ذلك، والحِسُّ والوجودُ شاهدٌ به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط، هو صادق في بعض أقسامه لا في كلِّها.. وعِلاجُ هذا النوع يكون بأمرين: أمْرٍ من جهة المصروع، وأمْرٍ من جهة المعالِج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوةِ نفسه، وصِدْقِ توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوُّذِ الصحيح الذى قد تواطأ عليه القلبُ واللِّسان، فإنَّ هذا نوعُ محاربةِ، والمحَارِب لا يتمُّ له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعدُ قويًّا، فمتى تخلَّف أحدُهما لم يُغن السلاح كثيرَ طائلٍ، فكيف إذا عُدِمَ الأمران جميعًا: يكونُ القلب خرابًا من التوحيد، والتوكل، والتقوى، والتوجّه، ولا سلاحَ له. والثاني: من جهة المعالِج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضًا، حتى إنَّ من المعالجينَ مَن يكتفى بقوله: "اخرُجْ منه"، أو بقول: "بِسْمِ الله"، أو بقول: "لا حَوْل ولا قُوَّة إلا بالله"، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقولُ: "اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ، أنا رَسُولُ اللهِ".

وشاهدتُ شيخنَا يُرسِلُ إلى المصروع مَن يخاطبُ الروحَ التي فيه، ويقول: قال لكِ الشيخُ: اخرُجي، فإنَّ هذا لا يَحِلُّ لكِ، فيُفِيقُ المصروعُ، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروحُ مارِدةً فيُخرجُها بالضرب، فيُفيق المصروعُ ولا يُحِس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرُنا منه ذلك مرارًا. وكان كثيرًا ما يَقرأ في أُذن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115].

وحدَّثني أنه قرأها مرة في أُذن المصروع، فقالت الروح: نعم، ومدّ بها صوته. قال: فأخذتُ له عصا، وضربتُه بها في عروق عنقه حتى كَلَّتْ يدَاي من الضرب، ولم يَشُكَّ الحاضرون أنه يموتُ لذلك الضرب. ففي أثناء الضرب قالت: أَنا أُحِبُّه، فقلتُ لها: هو لا يحبك. قالتْ: أنَا أُريد أنْ أحُجَّ به. فقلتُ لها: هو لا يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مَعَكِ، فقالتْ: أنا أدَعُه كَرامةً لكَ، قال: قلتُ: لا ولكنْ طاعةً للهِ ولرسولِه، قالتْ: فأنا أخرُجُ منه، قال: فقَعَد المصروعُ يَلتفتُ يمينًا وشمالًا، وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟! قالوا له: وهذا الضربُ كُلُّه؟ فقال: وعلى أي شيء يَضرِبُني الشيخ ولم أُذْنِبْ، ولم يَشعُرْ بأنه وقع به الضربُ البتة. وكان يعالِجُ بآية الكرسي، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع، ومَن يعالجه بها، وبقراءة المعوِّذتين.

وبالجملة؛ فهذا النوعُ من الصَّرْع، وعلاجه لا يُنكره إلا قليلُ الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثرُ تسلّطِ الأرواح الخبيثةِ على أهلهِ تكون من جهة قِلَّةِ دينِهم، وخرابِ قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذِّكرِ، والتعاويذِ، والتحصُّناتِ النبوية والإِيمانيَّة، فَتَلْقَى الروحُ الخبيثةُ الرجلَ أعزلَ لا سلاح معه، وربما كان عُريانًا فيُؤثر فيه هذا.

ولو كُشِفَ الغِطاء، لرأيتَ أكثرَ النفوسِ البَشَريةِ صَرْعَى هذه الأرواحِ الخبيثةِ، وهي في أسرِها وقبضتِها تسوقُها حيثُ شاءتْ، ولا يُمكنُها الامتناعُ عنها ولا مخالفتها، وبها الصَّرْعُ الأعظمُ الذى لا يُفيقُ صاحبُه إلا عند المفارقةِ والمعاينةِ، فهناك يتَحقَّقُ أنه كان هو المصروعَ حقيقةً، وبالله المستعان.

وعلاجُ هذا الصَّرْع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءتْ به الرُّسُل، وأن تكون الجنَّةُ والنارُ نُصبَ عينيه وقِبلَة قَلْبِه، ويستحضر أهلَ الدنيا، وحلول المَثُولاتِ والآفات بهم، ووقوعَها خلال ديارهم كمواقع القَطر، وهُم صَرعَى لا يُفيقون، وما أشدَّ داءَ هذا الصَّرْعِ، ولكن لما عَمَّتِ البليَّةُ به بحيثُ لا يَرى إلا مصروعًا، لم يَصر مستغرَبًا ولا مستنكرًا، بل صار لكثرة المصروعين عَيْنَ المستنكَرِ المستغرَبِ خلافه.

 فإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا أفاقَ من هذه الصَّرْعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حولَه يمينًا وشمالًا على اختلافِ طبقاتهم، فمنهم مَن أطبَقَ به الجنونُ، ومنهم مَن يُفيق أحيانًا قليلةً، ويعودُ إلى جنونه، ومنهم مَن يُفيق مرةً، ويُجَنُّ أُخرى، فإذا أفاق عَمِل عَمَل أهلِ الإفاقةِ والعقل، ثم يُعَاوِدُه الصَّرْعُ فيقعُ في التخبط".

وقال العثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (1 / 40- 41): "والصرع نعوذ بالله منه نوعان: صرع بسبب تشنج الأعصاب وهذا مرض عضوي يمكن أن يعالج من قبل الأطباء بإعطاء العقاقير التي تسكّنه أو تزيله بالمرة. وقسم آخر بسبب الشياطين والجن، يتسلط الجني على الإنسي فيصرعه، ويدخل فيه، ويضرب به على الأرض، ويغمى عليه من شدة الصرع، وهذا النوع من الصرع له علاج يدفعه، وله علاج يرفعه. فهو نوعان:

 أما دفعه فبأن يحرص الإنسان على الأوراد الشرعية الصباحية والمسائية، وهي معروفة في كتب أهل العلم، منها آية الكرسي فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح. ومنها سورة الإخلاص والفلق والناس، ومنها أحاديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فليحرص الإنسان عليها صباحًا ومساء، فإن ذلك من أسباب دفع أذيّة الجن.

وأما الرفع فهو إذا وقع بالإنسان فإنه يقرأ عليه آيات من القرآن فيها تخويف وتذكير واستعاذة بالله عز وجل حتى يخرج". أهـ باختصار. وقد كتب د. صالح الرقب رسالة نافعة في هذا الباب بعنوان: الأدلة الشرعية في إثبات صرع الشيطان للإنسان، والرد على المنكرين.

4.    زاد المعاد (4 / 71)

5.    أحمد (9701)، ومسند أبي يعلى (6655) وحسنه حسين سليم أسد، والترمذي (5 / 456) وحسنه الألباني.

6.    شرح صحيح البخاري (9 / 376) كذلك ذكره العيني في عمدة القاري (31 / 254)

7.    فتح الباري (10/143)

8.    مسلم (2999)

9.    المسند (17240) وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات. وصححه الألباني في التوسل (1 / 69) وقال: "ورواه الترمذي ( 4 / 281 - 282 بشرح التحفة ) وابن ماجه ( 1 / 418 ) والطبراني في الكبير ( 3 / 2 / 2 ) والحاكم ( 1 / 313 ) كلهم من طريق عثمان بن عمر: أن شعبة عن أبي جعفر المدني قال: سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان به. وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب" وفي ابن ماجه عقبه: "قال أبو إسحاق: حديث صحيح". ثم رواه أحمد: ثنا شعبة به. وفيه الرواية الأخرى، وتابعه محمد بن جعفر ثنا شعبة به. رواه الحاكم ( 1 / 519 ) وقال : ( صحيح الإسناد ) ووافقه الذهبي. وقد أعلّه بعضهم كصاحب ( صيانة الإنسان ) وصاحب ( تطهير الجنان ص: 37 ) وغيرهما بأن في إسناده أبا جعفر، قال الترمذي: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وليس الخطمي". فقالوا: هو إذن الرازي، وهو صدوق، ولكنه سيء الحفظ.

 قلت: ولكن هذا مدفوع بأن الصواب أنه الخطمي نفسه. وهكذا نسبه أحمد في رواية له ( 4 / 138 ) وسماه في أخرى: ( أبا جعفر المدني ) وكذلك سماه الحاكم والخطمي هذا -لا الرازي- هو المدني، وقد ورد هكذا في ( المعجم الصغير ) للطبراني، وفي طبعة بولاق من سنن الترمذي أيضًا. ويؤكد ذلك بشكل قاطع أن الخطمي هذا هو الذي يروي عن عمارة بن خزيمة، ويروي عنه شعبة كما في إسناده هنا وهو صدوق، وعلى هذا فالإسناد جيد لا شبهة فيه". أهـ

  قلت: وقد رجح شيخ الإسلام الإمام الناقد أبو العباس ابن تيمية أن أبا جعفر هو الخطمي لا الرازي في مجموع الفتاوى (1/266)

10.                  تنبيه مهم: يتشبث الخرافيون والقبوريون بهذا الحديث زعمًا أن فيه دليلًا على مشروعية التوسل الشركي الذي يقوم عليه بنيان طرائقهم. وقد تكلم العلماء في كشف شبهتهم وبطلان تعلقهم بما وهموه. وممن تكلموا في ذلك ابن تيمية في الرد على البكري، وفي قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، وابن عبد الهادي في الصارم المُنكي – وهو نفيس جدًّا في هدم شبه القبوريين بعامة -  وحمد بن ناصر آل معمر في الرد على القبوريين، وسليمان بن سحمان في الصواعق المرسلة الشهابية، وعبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين في تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس، ومحمد نسيب الرفاعي في التوصل إلى حقيقة التوسل، والألباني في التوسل أنواعه وأحكامه، وغيرهم كثير، وسنلخص بعض ما كتبوه لعظيم البليّة على من تعلّق به في شركه مما لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى قد أمر بالتوسل المشروع لا الممنوع.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد روى الترمذي حديثًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علّم رجلًا يدعو فيقول: "اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي، اللهم شفّعه فيَّ".. فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء.

فمن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقًا حيًّا أو ميتًا... وقول هؤلاء باطل شرعًا وقدرًا، فلا هم موافقون لشرع الله، ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله.

ومن الناس من يقولون: هذه قضية عين يثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم، لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها، والفرق ثابت شرعًا وقدَرًا بين من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وبين من لم يدع له، ولا يجوز أن يُجعل أحدهما كالآخر.

وهذا الأعمى شفع له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلهذا قال في دعائه: "اللهم فشفعه في"، فعُلم أنه شفيع فيه، ولفظه: "إن شئت صبرتَ، وإن شئتَ دعوتُ لك" فقال: ادع لي. فهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي ويدعو هو أيضًا لنفسه ويقول في دعائه: "اللهم شفّعه فيّ"، فدل ذلك على أن معنى قوله: "أسألك وأتوجّه إليك بنبيك محمد" أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبيك فتسقينا".

فالحديثان معناهما واحد: فهو صلى الله عليه وسلم علّم رجلًا أن يتوسل به في حياته كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلًا عنه.

فلو كان التوسل به حيًّا وميتًا سواء، والمتوسِّلُ به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول؛ لم يعدلوا عن التوسل به، وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليهم وسيلة، إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله.

وكذلك لو كان الأعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا - مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع، وما لم يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت الضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن - دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه.

ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه، وذلك أن التوسل به حيًّا هو الطلب لدعائه وشفاعته، وهو من جنس مسألته أن يدعو لهم وهذا مشروع، فما زال المسلمون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم، وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء لا عند قبره ولا عند غير قبره، كما يفعل كثير من الناس عند قبور الصالحين، يسأل أحدهم الميت حاجته، أو يقسم على الله به ونحو ذلك". أهـ. مجموع فتاوى شيخ الإسلام (1 / 325) مختصرًا. وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة (1 / 528).

وقال رحمه الله في الاقتضاء: "وقوله: "يا محمد، يا نبي الله" هذا وأمثاله نداء يُطلب به استحضار المنادَى في القلب فيُخاطَبُ لشهوده بالقلب، كما يقول المُصلّي: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". والإنسان يفعل مثل هذا كثيرًا يخاطب من يتصوره في نفسه إن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب.

 فلفظ التوسل بالشخص والتوجّه به والسؤال به فيه إجمال واشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، فيُراد به التسبب به لكونه داعيًا وشافعًا مثلًا، أو لكون الداعي مجيبًا له – أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم - مطيعًا لأمره مقتديًا به. فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته". أهـ. اقتضاء الصراط (1 / 415 -416) وانظر أيضًا: الاستغاثة، وتسمى كذلك: الرد على البكري (1 / 114) قلت: ومن شواهد استحضار الغائب في القلب بلا عبادة قول الشاعر:

خيالُكَ في عيني وذِكرُك في فمي  ...  ومثواك في قلبي فأينَ تغيبُ

وقال الألباني رحمه الله في التوسل: "يرى المخالفون أن هذا الحديث يدل على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم الأعمى أن يتوسل به في دعائه، وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيرًا.

 وأما نحن فنرى أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل المختلف فيه وهو التوسل بالذات، بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع الذي أسلفناه، لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه. والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة وأهمها:

 أولًا: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له وذلك قوله: "ادع الله أن يعافيني"، فهو قد توسل إلى الله تعالى بدعائه صلى الله عليه وسلم، لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره. ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقّه لما كان ثمّة حاجه به إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته ويدعو ربه بأن يقول مثلًا: "اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن تشفيني وتجعلني بصيرًا". ولكنه لم يفعل. لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حقّ الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة يذكر فيها اسم المتوسل به، بل لا بد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له.

 ثانيًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك". وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه - أي عينيه – فصبر؛ عوّضته منهما الجنة". رواه البخاري ( 5653 )

 ثالثًا: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: "فادع"، فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، لأنّه صلى الله عليه وسلم خيرُ من وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصرّ عليه، فإذن لا بدّ أنه صلى الله عليه وسلم دعا له، فثبت المراد.

 وقد وجّه النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى - بدافع من رحمته وبحرص منه على أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه - إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه. فأمره أن يتوضأ، ويصلي ركعتين، ثم يدعو لنفسه، وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدّمها بين يدي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وهي تدخل في قوله تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة ). وهكذا فلم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه ليكون الأمر مكتملًا من جميع نواحيه، وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى. وعلى هذا فالحادثة كلها تدور حول الدعاء - كما هو ظاهر - وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون.

رابعًا: أنّ في الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم إياه أن يقول: "اللهم فشفّعه فيّ"، وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقّه، إذ أن المعنى: اللهم أقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم فيّ، أي اقبل دعاءه فيّ أن تردّ عليّ بصري. والشفاعة لغة: الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخصّ من الدعاء، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمرًا فيكون أحدهما شفيعًا للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره.

خامسًا: إنّ مما علّم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يقوله: "وشفّعني فيه" أي اقبل شفاعتي - أي دعائي - في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم - أي دعاءه - في أن تردّ علي بصري. هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه، وهذه الجملة صحت في الحديث أخرجها أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وهي وحدها حجة قاطعة على أن حمل الحديث على التوسل بالذات باطل.

سادسًا: إنّ هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنّفون في دلائل النبوة كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على أنّ السرّ في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

 إذا تبين للقارئ الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذات؛ فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه: "اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم" إنما المراد به: أتوسل إليك بدعاء نبيك أي: على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة، كقوله تعالى: { واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها } أي أهل القرية وأصحاب العير. ونحن ومخالفونا متفقون على ذلك، أي على تقدير مضاف محذوف، وهو مثل ما رأينا في دعاء عمر وتوسله بالعباس، "إني أتوجه إليك بـ(دعاء) نبيك"، و"يا محمد إني توجهت بـ(دعاء)ك إلى ربي". فأما تقديرهم ( بجاهه ) فليس لهم عليه دليل لا من هذا الحديث ولا من غيره، إذ ليس في سباق الكلام ولا سياقه تصريح أو إشارة إلى لذكر الجاه أو ما يدل عليه إطلاقًا، كما أنه ليس عندهم شيء من القرآن أو من السنة أو من فعل الصحابة يدل على التوسل بالجاه، فبقي تقديرهم من غير مرجح فسقط من الاعتبار، والحمد لله.

وثمة أمر آخر جدير بالذكر وهو أنه لو حُمل حديث الضرير على التوسل بالذات لكان معطّلًا لقوله فيما بعده: "اللهم فشفّعه في، وشفّعني فيه" وهذا لا يجوز كما لا يخفى، فوجب التوفيق بين هذه الجملة والتي قبلها. وليس ذلك إلا على ما حملناه من أن التوسل كان بالدعاء، فثبت المراد وبطل الاستدلال به على التوسل بالذات، والحمد لله". أهـ. التوسل للألباني (1 / 70- 76) مختصرًا.

وقال عبد الرحمن دمشقية: ".. وقبول الشفاعة أي قبول الدعاء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ميّت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه". رواه مسلم ( 947 ) فمعنى "شفّعهم الله فيه" أي قبل دعاءهم له. فيكون معنى "شفّعني فيه" أي اقبل دعائي بأن تستجيب دعاءه.

ومن الصحابة من أصيبوا بالعمى بعد مماته كابن عباس وابن عمر، ولم يُعهد أنهم استعملوا هذا الدعاء، بل تركوا التوسل به، فهذي جادّتهم. وهكذا فهم الصحابة التوسل، فقد تركوا التوسل به إجماعًا، كما في قصة عمر يوم أجدبوا وسألوا الله بدعاء عمّه العباس. وانظر: جلاء العينين (455).

فقوله: "يا محمد إني توجّهت بك إلى ربي" أي أتوجّه بدعائك الذي وعدتني به حين قلت: "إن شئت دعوت لك". وهذا ما فعله الرجل، فإنه توجه إلى النبي وطلب منه أن يدعو له. فهو يُشهِد الله أنه توجه إلى نبيه، وذهب إليه ليسأل الله له، وكأنه يقدم هذه الشهادةَ بين يدي سؤاله ربه، ومثل هذا كثير في الدعاء كقوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا)، وتقديم أصحاب الغار عملهم الصالح بين يدي دعائهم لله. وهذا التوجه هو حكاية حال، يحكي فيه أنه توجه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يدعو ربه. ولم يسأله في غيابه كما يفعل أهل البدع.

وهؤلاء يفهمون من قوله صلى الله عليه وسلم: "إئت الميضأة" وكأنّ معناه عندهم: اذهب إلى بيتك! ولم لا تكون الميضأة قريبة منه صلى الله عليه وسلم كما يفهم من سياق الرواية، وليس هناك دليل على أن الأعمى ذهب إلى مكان آخر وصلى ثم دعا بهذا الدعاء؟! وبتقدير أن يكون كلامه من بعيد. فيكون التوجّه خطابًا لحاضر في قلبه وليس استغاثة، كما نقول في صلواتنا: "السلام عليك أيها النبي"، وكما يقول أحدنا اليوم: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله"، وكما قالت فاطمة حين مات صلى الله عليه وسلم: "وا أبتاه: أجاب ربًّا دعاه". ودليل ذلك قوله في نهاية الدعاء: "اللهم فشفّعه فِيّ" أي اقبل دعاءه في.

وقوله: "يا محمد": ليس دعاء، وإنما هو تكلم مع حي حاضر. بدليل أن الأعمى لم يستغث بالنبي من بعد. وبدليل أن الصحابة لم يفعلوا، ولم يكونوا يخاطبون النبي بقولهم: يا محمد. بل الثابت عدول عمر عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتوسله بالعباس رضي اله عنهما.

فأما التوجه الذي يفهمه الأحباش أي التوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهة قبره بعد موته كما علمهم محمد بن حسن الصيادي الرفاعي: أن من أصابته ضراء فليتوجه نحو قبر الرفاعي ويخطو ثلاث خطوات ويسأله حاجته (قلادة الجواهر 434 و239). فهذا من سنن النصارى.

أما سنة نبينا فقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه، ويسأل الله وحده، وكان يقول في دعاء الاستفتاح في الصلاة: "وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين". رواه مسلم (771) فالتوجه إلى الله بالدعاء هو الملة الحنيفية، ودعوتكم الناس إلى التوجه إلى مقابر الأنبياء والأولياء هو ملة الشرك.

فإنّه توجّه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا ما حدث حقًّا - فقد توجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له فوعده بذلك. ولذلك قال في آخر دعائه: "اللهم فشفعه في"، أي اللهم اقبل دعاءه فِيّ. والرجل يحكي ما فعله، وليس في صيغة كلامه ما يستدل به على جواز قول المشركين: "شيء لله يا رسول الله"! والدليل على ذلك أن ننظر: ماذا قال الأعمى بعد قوله "يا محمد"، هل قال: أغثني أعد إلي بصري؟ لقد قال: "يا محمد" لكنه لم يسأله، وأنتم إذا قلتم: "يا محمد" تقولون: أغثنا أمدنا بإمدادك، تعطّف تكرّم تحنّن علينا بنظرة! فإن كان سأله بعد قوله: "يا محمد" فقد قامت حجتكم، وإن كان لم يسأله فقد قامت الحجة عليكم. فالحديث حجة عليكم لا لكم.

وليس كل خطاب لغير الحاضر استغاثة به، وإلا فقد خاطب عمر بن الخطاب الحجر الأسود قائلًا: "والله إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". رواه البخاري (1597) ومسلم (1270)". أهـ. أحاديث يحتج بها الشيعة (1 / 106 - 110) باختصار. وانظر: غاية الأماني للألوسي، والتوصل إلى حقيقة التوسل (1 / 137) وما بعدها. وشرح العقيدة الطحاوية للحوالي (1 / 1209 -1211)

11.                  أبو داود (1479) والترمذي (2969) وصححه الألباني.

12.                  أي عينيه.

13.                  البخاري 7/151 ( 5653 ) من حديث أنس.

14.                  أحمد (4318) وصححه الألباني في السلسلة (199)

15.                  الترمذي (2796) وحسنه الألباني.

16.                  منهاج الفرقة الناجية (1 / 44 - 48) باختصار وتصرف. وانظر كلام شيخ الإسلام في ذلك في الرد على البكري (1 / 266) وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (2 / 280) ومجموع الفتاوى (1 / 323)

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق