إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

حكمُ الرِّضا

 

حكمُ الرِّضا

 

الحمد لله، وبعد؛ فإن للرضا أنواع: منها الرضا بالله ربًّا ومعبودًا. وهذا أساس الإيمان، ولا يصح دين المرء بدونه، ومن توابع ذلك: الرضا بالإسلام، وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن، ونحو ذلك مما جاء عن الله تعالى. ومن ذلك: الرضا بقضاء الله وقدره. وهو منقسم لنوعين:

أحدهما: الرضا بالقضاء، وهذا تابع للنوع الأول؛ فهو واجب وفريضة وهو أحد أركان الإيمان التي لا يصح إلا بها.

أما النوع الثاني: فهو الرضا بالمَقضِيّ، أي مفعولات الله تعالى بعبده، فليس المراد هنا فعل الله أنما مفعوله، أي ليس هو صفة الله التي هي الخلق والتقدير، إنما هو مخلوقُ الله تعالى الذي هو نفسُ المصيبة، مثاله: المرض، فالمرض يكتنفه جانبان: الأول: من جهة أن الله هو الذي قدّره؛ فهذا هو النوع الأول، وهو القضاء. والثاني: من جهة ذات المرض والإحساس به والتألّم منه، فهذا هو المراد هنا، فهو المقضيّ.

وهذا النوع – أي الرضا بالمقضيّ – قد اختلف العلماء في حكمه بين الوجوب إلحاقًا بالنوع الأول، لأنها في النهاية راجعة إلى قضاء الله تعالى، والاستحباب – وهو الراجح - لانفكاك جهته تصوُّرًا في الذهن، لأنه مخلوق من جملة المخلوقات، وليس هو ذات القضاء والقدر، وأيضًا لمشقة احتمال هذا النوع على أكثر الناس، وربما يكون فيه نوع حرج على كثير منهم، والشريعة لا تأتي بالحرج، قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، وقال سبحانه: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها).

ومما تلزم معرفته في الدين؛ أن الله تعالى قد اقتضى كماله وحكمته ألّا يخلق شرًّا محضًا لا خير فيه بوجه من الوجوه، فهو منزه عن ذلك جل وعلا، أما الشيء الذي فيه جانبان أحدهما شرّ من جهة المخلوق وخير من جهة حكمة الخالق فهو ليس بشرٍّ محض، فما فيه من إمضاء حكمة الله وحُسن تدبيره وتقديره فهو خير، وما فيه من قطع مدد الخير عنه فهو شر.

واعلم أنه لا يوجد في المخلوقات البتّة شرٌّ محض، بل لا شرّ إلا وفي ثناياه خير علمه وعلم بعض حكمته من علمه وجهله من جهله، ولتوضيح ذلك: فأصل الشرور والذنوب والمعاصي والخبائث في هذا الكون هو إبليس أعاذنا الله منه، ولا شر في الوجود أشرّ منه، ومع هذا ففي خلقِ الله له حكم سامية وخير كثير، ومن أعظم ذلك إقامة الدين على سنّة التكليف والابتلاء، فبثّ الله الإنس والجن وأمدّ من شاء منهم بفضله وهداه وتوفيقه فعملوا بطاعته فنالوا مرضاته، وخذل من شاء منهم فتحركت نفوسهم الخالية المحرومة من توفيق الله للشر.

 والمقصود؛ أن كل شرّ فإنه يقصُر دون شرّ إبليس الرجيم، ومع هذا ففي خلق الله له جهةُ خيرٍ ومنافع ما كانت لتكون بأمر الله لو لم يوجد هذا الشرّ الإبليسي، وبهذا فلا يوجد في الوجود شرٌّ محض.

 وبهذا يتبين لنا معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والشرُّ ليس إليك"، (1) فالشر داخل في جملة مخلوقات الله تعالى، فينسب إليه في جملة عموم خلقه، ولا يُضاف إليه إفرادًا وقصدًا، فلا يقال: الله خالق الشر، ومقدّر الشر، وإن كان هو الخالق والمقدر لهما جميعًا، كما في قوله تعالى: (الله خالق كل شيء)، بل يُؤتى بصيغة المبنيّ لما لم يُسمَّ فاعله، كقوله تعالى: ﴿مِن شَرِّ ما خَلَقَ﴾، فأضاف الشرّ إلى الخلق، ولم يضفه إلى الله تنزيهًا له، مع أنّ كلها من جملة مخلوقاته سبحانه وتعالى، ومن ذلك قوله ﷺ: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق"، (2) ولم يقل: من الشر الذي خلقه الله. وعليه؛ فالشر داخل في عموم مخلوقات الله تعالى، لكنه لا يُنسب إلى الله تعالى لأمرين:

الأول: الأدب مع جناب الله تبارك وتعالى، كما جاء في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى على لسان الجن: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا)، فأسند الخير إلى الله، وأبهم إرادة الشر. ومنه وقوله تبارك وتعالى في فاتحة الكتاب: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم). وانظر لأدب الخليل عليه السلام حينما قال: ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾، فنسب المرض إلى نفسه، وأضاف الشفاء إلى ربه، وإن كان الجميع منه سبحانه وبحمده. وتدبر أيضًا حسن الوصف في خبر الخضر عليه السلام بإضافة إرادة التعييب إلى نفسه والرحمة إلى ربه، فقال فيما أخبر الله تعالى عنه: ﴿أمّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾، ولما ذكر إرادة الخير والرحمة باليتيمين أضاف ذلك إلى الله تعالى فقال: ﴿فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما ويَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾.

الثاني: عدم وجود الشرِّ المحض أصلًا في المخلوقات، والشر المحض هو الذي لا حكمة في تقديره، فكيف تنسب شيئًا لله تعالى وهو غير موجود على الإطلاق؟ فما من شر في الخلق إلا وفيه جانب خير اقتضته حكمة الخلاق العليم الخبير الحكيم سبحانه.

 وبهذا يتبين أنّ الشرّ أمرٌ نسبيّ، أما حقيقة فعل الله تعالى وقضائه وقدره فإنه ليس بشرّ، لأن فيه خير باعتبار آثاره الحميدة. والشرور الموجودة في دار التكليف هي شرور بالنسبة للعبد، فالكفر والنفاق والشرك والمعاصي هي شرّ نسبيّ بالنسبة إلى العبد الذي فعلها، لكنّ هذا الشرّ بالنسبة إلى الله تعالى فإنه يضاف إليه إضافة خلق، بمعنى أنها من جملة مخلوقات الله تعالى، فالله خالق كل شيء، وما من شيء ألا والله وحده خالقه تبارك وتعالى، فالله تعالى قد قدّر الكفر والشرك لحكمة، فهي بالنسبة إلى الله خير؛ لما ترتب عليها من حكم عظيمة؛ كانقسام الخلائق إلى سعداء وأشقياء، وقيام سوق الجنة والنار، وقيام ساق الابتلاء والمجاهدة، وظهور آثار صفات الكمال لله تعالى كالعزة والغضب والانتقام من أعدائه، ونفاذ كمال القدرة وجمال الخليقة بخلق المتضادات والمختلفات والمتقابلات، وغير ذلك كثير.

 ومن هذا الباب جاء الأمر بالإيمان بالقدر خيره وشرِّه، والمراد بالشر في القدر هنا هو شر المقدور، أي المخلوق والمقضيّ، فالشرّ فيه إنما هو باعتبار المفعول لا باعتبار الفعل، وكذلك القضاء فمن حيث هو فعل الله فكله خير محض، ومن حيث هو المَقضِيّ ففيه جهتان منفكتان: الأولى: جهةُ خيرٍ للحكم الحميدة المترتبة عليه أيًّا كان، فكل فعل الله خير، والثانية: قد يكون فيه خير لإمداد الله له بالخير، وقد يكون فيه شرّ بسبب قطع أسباب الخير من الله عنه. ومن ذلك دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقنا شر ما قضيت"، (3) فالقضاء هنا هو القدري الكوني،(4) وهو المقضيّ، فمِن حيث هو قضاء الله فهو خير، ومن حيث هو المقضي ففيه شرٌّ غير متمحّض، فالعبد يسأل ربه أن يقيه ذلك الشر.

هذا؛ وإن من المهمات جدًّا في هذا الباب الشائك معرفة أن قدَر الله تعالى ليس هو فقط المستقبل، بل هو أيضًا هذا الحاضر الذي عليه تُبنى أمور المستقبل بتدبير الله الحكيم سبحانه، ويَلحق بذلك معرفة العقل الذي توزن به الأمور في الشرع، فهل هو عقلُ فلان أو عقل فلان، أم هو العقل المنتظم لدى العقلاء الذي لا يختلفون على تقريراته؟

هو الثاني بلا شك، لأن عقل الإنسان الواحد يعتريه الضعف والنقص والعجز والوهم والهوى والنسيان، بل يعتريه تبدّل الآراء في ثاني الحال، فتجد أن ما قرّره عقلك اليوم هو عين ما نفاه غدًا، وما ظننته يومًا واجب التصديق بوزن المناطقة -البعيد عن عصمة الوحي المنزل- إذ بك ترى خللًا فيه ينزله عن رتبة الواجب للجائز، وقد ينزل بأَخَرَةٍ للمستحيل!

وعليه؛ فالعقل الذي هو مناط التكليف هو عقلك الخاص بك، أما العقل الذي يرجع إليه العقلاء، ويشيرون إليه بالأمور التي يقبلها العقل الصحيح أو يحيلها ونحو ذلك؛ فهو العقل المنتظم لمجمل آراء العقلاء، والذي انتظم عقولهم إجماعًا، فإن خالفه يومًا أحد قالوا: قد خالف العقل.

 واعلم أنّ المعيار الضابط لهذا العقل العام هو الشرع المطهر المصون، فما قرّره الشرع صريحًا صحيحًا علمنا أن العقل العام للعقلاء يقبله، وما نفاه الشرع أو منع منعه ونحو ذلك فحينها نعلم يقينًا أنه مخالف للعقل الصحيح، ومحصّلة هذا أمران:

الأول: أنه لا تعارض البتة بين النص الصحيح الصريح وبين العقل الصحيح، فإن ظهر تعارض فالأمر عائد إما لعدم صحة النص (الكتاب والسنة) وإما لعدم صراحته، وبالتالي الخطأ في فهمه، وإما لخطأ التقرير العقلي أصلًا، فإن كان النص صحيحًا صريحًا كنصوص الإيمان والصفات واليوم الآخر والقدر والنبوات ونحو ذلك؛ فحينها يكون الخلل في التصور العقلي للشخص الذي ظن وجود تعارض، إذ لا تعارض البتة بين ما قاله الله تعالى وبين ما خَلَقَه، فالعقلُ خَلْقُه والشرعُ أمرُه، (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين).

الثاني: أنّ معيار العقل السليم هو الشرع الصحيح، ومن زعم التعارض بين دلائل الشرع وموارد العقل؛ فعليه أن يراجع ميزان دلائل وتصورات عقله مع العقل المنتظم للعقلاء، وهو ما تبيّنه الشريعة الغراء، فإن هذا العقل الصحيح يستحيل أن يخالف الشرع، (صنع الله اذي أتقن كل شيء)، (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت).

وإنّ من أنواع الرضا عند التقسيم: الرضا بالمعاصي والفساد. وهو النوع يحرم الرضا به، فلا يُشرع الرضا ولا يحلّ إلا بما رضيه الله تعالى، حتى وإن كان داخلًا في عموم خلقه له. ولا يرد علينا أن الله تعالى أراده، ذلك أن إرادة الله تعالى منقسمة لقسمين:

أحدهما: إرادة دينية شرعية. وهي مرتبطة بالأمر لا بالقدر، كالصلاة والصيام والذكر والدعاء، فهي محبوبة شرعًا وقدَرًا، وحكم الرضا بها واجب.

والثاني: إرادة كونية قدرية. وهي مرتبطة بالقدر لا بالأمر، فقد يُقدِّرُ الله تعالى شيئًا وهو لا يحبّه شرعًا، ككفر أبي جهل مثلًا، وقد يقدّر الله شيئًا وهو يحبه شرعًا، كإسلام أبي بكر رضي الله عنه، والحكم: أن نرضى بما يحبه الله تعالى، ونسخطَ ما يكرهه سبحانه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الرضا نوعان: أحدهما: الرضا بفعل ما أمر الله به وترك ما نهي عنه. ويتناول ما أباحه الله من غير تعدّ محظور. وهذا الرضا واجب، كما قال: { والله ورسوله أحق أن يرضوه } ولهذا ذم من تركه بقوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون* ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (التوبة/ 59).

والنوع الثاني: الرضا بالمصائب: كالفقر والمرض والذل. فهذا رضا مستحب في أحد قولي العلماء، وليس بواجب، وقد قيل: إنه واجب. والصحيح أن الواجب هو الصبر. كما قال الحسن: "الرضا عزيز، ولكن الصبر معوّل المؤمن". (5) وقد روي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإنّ في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا».(6)

وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان: فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك، فإن الله لا يرضاه كما قال: (ولا يرضى لعباده الكفر) (الزمر/ 7)، وقال: (والله لا يحب الفساد) (البقرة/ 205)، وقال تعالى: (فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين)". (7) وقال أيضًا: "أكثر العلماء على أن الرضا بالمصائب مستحب وليس بواجب؛ لأن الله أثنى على أهل الرضا بقوله: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) وإنما أوجب الله الصبر، فإنه أمر به في غير آية، ولم يأمر بالرضا بالمقدور، ولكن أمر بالرضا بالمشروع، فالمأمور به يجب الرضا به". (8) "وأما الرضا بما أمر الله به فأصله واجب، وهو من الإيمان، وهو من توابع المحبة". (9)

وههنا ملحظ دقيق جدًّا بخصوص مشروعية الرضا بالمعاصي من جهة كونها خلقًا وقدرًا لله تعالى، دون كونها في ذاتها معصية له مسخوطة منه ومن أوليائه سبحانه وتعالى، ولكن لا يُحسن فهمَ هذا كلُّ أحد، وعليه؛ فقد لا يحسن إيراد هذا على ما يخشى عليهم عدم فقهه أو حمله على غير محمله،(10)

فيَضلّون بالرضا بالمعاصي لذاتها، فيركبونها مع زُمَر الضَّلّالِ، زعمًا منهم بالجري معها رضًا بإرادة الله الكونية حتى وإن سخطها الله تعالى شرعًا ودينًا! قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "أما المعاصي فتُرضى من جهة كونها مضافة الى الله خلْقًا وتُسخط من جهة كونها الى العبد فعلًا وكسبًا. وهو سبحانه إنما قدّر الأشياء لحكمة، فهي باعتبار تلك الحكمة محبوبة مرضية، وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة، إذ الشيء الواحد يجتمع فيه وصفان يُحبُّ من أحدهما ويُكره من الآخر". (11) "وفرقٌ بين ما يُحَب لنفسه، وما يُراد لإفضائه إلى المحبوب مع كونه مبغضًا من جهة أخرى، فإن الأمر الواحد يُراد من وجه ويكره من وجه آخر؛ كالمريض الذي يتناول الدواء الكريه، فإنه يبغض الدواء ويكرهه، وهو مع هذا يريد استعماله لإفضائه إلى المحبوب، لا لأنه في نفسه محبوب. وفى الحديث الصحيح يقول الله تعالى: "وما ترددت عن شيء انا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بدّ له منه". (12) فهو سبحانه لما كره مساءة عبده المؤمن الذي يكره الموت؛ كان هذا مقتضيًا أن يكره إماتته، مع أنه يريد إماتته لما له في ذلك من الحكمة سبحانه وتعالى.

 فالأمور التي يبغضها الله تعالى وينهى عنها لا تُحب ولا تُرضى، لكن نرضى بما يرضى الله به حيث خلقها لما له في ذلك من الحكمة، فكذلك الأفعال التي لا يحبها ولا يبغضها؛ لا ينبغي أن تُحب ولا تُرضى، كما لا ينبغي أن تُبغض.

 والرضا الثابت بالنص هو أن يرضى بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا. وأما بالنسبة إلى القدر فيرضى عن الله، إذ له الحمد على كل حال، ويرضى بما يرضاه من الحكمة التي خَلَق لأجلها ما خلق، وإن كنا نُبغض ما يبغضه من المخلوقات. فحيث انتفى الأمر الشرعي، أو خفي الأمر الشرعي؛ لا يكون الامتثال والرضا والمحبة كما يكون في الأمر الشرعي، وإن كان ذلك مقدورًا.

 وهذا موضع يغلط فيه كثير من خاصة السالكين وشيوخهم فضلًا عن عامتهم. ويتفاوتون في ذلك بحسب معرفتهم بالأمر الشرعي وطاعتهم له، فمنهم من هو أعرف من غيره بالأمر الشرعي وأطوع له؛ فهذا تكون حاله أحسن ممن يقصر عنه في المعرفة بالأمر الشرعي والطاعة له.  ومنهم من يبعد عن الأمر الشرعي ويسترسل حتى ينسلخ من الإسلام بالكلية، ويبقى واقفًا مع هواه والقدر. ومن هؤلاء من يموت كافرًا، ومنهم من يتوب الله عليه، ومنهم من يموت فاسقًا، ومنهم من يتوب الله عليه.

 وهؤلاء ينظرون إلى الحقيقة القدرية، معرضين عن الأمر الشرعي، ولا بد مع ذلك من اتباع أمرٍ ونهيٍ غير الأمر الشرعي، إما من أنفسهم، وأما من غير الله ورسوله، إذ الاسترسال مع القدر مطلقًا ممتنع لذاته، لِمَا تقدم من أن العبد مفطور على محبة أشياء وبغض أشياء.

 وقول من قال: أن العبد يكون مع الله كالميت مع الغاسل لا يصح ولا يسوغ على الإطلاق عن أحد من المسلمين، وإنما يقال ذلك في بعض المواضع، ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر الله عليه، وإلا فإذا علم ما أمر الله به وأحبه فلا بد أن يحب ما أحبه الله ويبغض ما أبغضه". (13)

وقال: "فإن قيل: فكيف يكون الله ساخطًا مبغِضًا لِمَا قدّره وقضاه؟!

قيل: نعم، فالله سبحانه وتعالى يفعل ما يفعله لما له في ذلك من الحكمة، وأن ما يضر الناس من المعاصي والعقوبات يخلقها لما له في ذلك من الحكمة. والإنسان قد يفعل ما يكرهه كشربه الدواء الكريه لما له فيه من الحكمة التي يحبها كالصحة والعافية، فشرب الدواء مكروه من وجهٍ محبوب من وجه.

 فالعبد يوافق ربه فيكره الذنوب ويمقتها ويبغضها لأن الله يبغضها ويمقتها، ويرضى بالحكمة التي خلقها الله لأجلها، فهي من جهة فعل العبد لها مكروهة مسخوطة، ومن جهة خلق الرب لها محبوبة مرضية؛ لأن الله خلقها لما له في ذلك من الحكمة. والعبد فعلها وهي ضارّة له موجبة له العذاب، فنحن ننكرها ونكرهها وننهى عنها كما أمرنا الله بذلك، إذْ كان هو أيضًا سبحانه يسخطها ويبغضها، ونعلم أن الله أحدثها لما له في ذلك من الحكمة، فنرضى بقضائه وقدره، فمتى لحظنا أن الله قضاها وقدّرها رضينا عن الله وسلّمنا لحُكمه، وأما من جهة كون العبد يفعلها فلا بد أن نكره ذلك وننهى عنه ونجتهد في دفعه بحسب إمكاننا، فإنّ هذا هو الذي يحبه الله منّا. (14)

 والله تعالى إذا أرسل الكافرين على المسلمين فعلينا أن نرضى بقضاء الله في إرسالهم، وعلينا أن نجتهد في دفعهم وقتالهم. وأحدُ الأمرين لا ينافي الآخر. (15) وهو سبحانه خلق الفأرة والحيّة والكلب العقور وأمرنا بقتل ذلك، فنحن نرضى عن الله إذ خلق ذلك، ونعلم أن له في ذلك حكمة، ونقتلهم كما أمرنا، فإنّ الله يحب ذلك ويرضاه". (16)

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة الرضا. وقد أجمع العلماء على أنه مستحب مؤكّد استحبابه، واختلفوا في وجوبه على قولين، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يحكيهما قولين لأصحاب أحمد، وكان يذهب إلى القول باستحبابه، قال: ولم يجيء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم. قال: وأما ما يروي من الأثر: "من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربًّا سواي". (17) فهذا أثر إسرائيلي ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: ولا سيما عند من يرى أنه من جملة الأحوال التي ليست بمكتسبة، بل هو موهبة محضة، فكيف يؤمر به وليس مقدورًا عليه.

 وهذه مسألة اختلف فيها أرباب السلوك على ثلاث طرق فالخراسانيون قالوا: الرضا من جملة المقامات، وهو نهاية التوكل، فعلى هذا يمكن أن يتوصل إليه العبد باكتسابه. والعراقيون قالوا: هو من جملة الأحوال وليس كسبيًّا للعبد، بل هو نازلةٌ تحل بالقلب كسائر الأحوال. والفرق بين المقامات والأحوال: أن المقامات عندهم من المكاسب، والأحوال مجرد المواهب. (18) وحكمت فرقة ثالثة بين الطائفتين فقالوا: يمكن الجمع بينهما بأن يقال: بداية الرضا مكتسبة للعبد وهي من جملة المقامات، ونهايته من جملة الأحوال وليست مكتسبة، فأوّله مَقامٌ ونهايته حال.

 واحتج من جعله من جملة المقامات بأن الله مدح أهله وأثنى عليهم وندبهم إليه، فدل ذلك على أنه مقدور لهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذَاقَ طَعمَ الْإِيمَانِ مَن رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا". (19) وقال: "من قال حين يسمع النداء: رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا؛ غُفرت له ذنوبه". (20) وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، وإليهما ينتهي، وقد تضمّنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته، والرضا برسوله والانقياد له، والرضا بدينه والتسليم له. ومن اجتمعت له هذه الأربعة؛ فهو الصدّيق حقًّا. وهي سهلة بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها.

والتحقيق في المسألة: أن الرضا كسبيّ باعتبار سببه، موهبيّ باعتبار حقيقته. فيمكن أن يقال بالكسب لأسبابه، فإذا تمكن في أسبابه وغرس شجرته؛ اجتنى منها ثمرة الرضا، فإنّ الرضا آخِرُ التوكل، فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض؛ حصل له الرضا ولا بد.

ولكن لعزّته وعدم إجابة أكثر النفوس له وصعوبته عليها لم يوجبه الله على خلقه رحمة بهم وتخفيفًا عنهم، لكن ندبهم إليه، وأثنى على أهله، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم الذي هو أعظم وأكبر وأجلّ من الجنان وما فيها، فمن رضي عن ربه رضي الله عنه، بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده: رضًا قبله أوجب له أن يرضى عنه، ورضًا بعده هو ثمرة رضاه عنه، ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنّة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين". (21)

ولا بدّ أن يُعلم أن الفعل غير المفعول والقضاء غير المقضي، وأنه لا تلازم بين الإرادتين الشرعية والقدرية، فالشرعية تابعة للمحبة، والقدرية تابعة للمشيئة، وكلاهما لحِكمٍ حميدة. قال ابن القيم رحمه الله: "والذي يكشف هذه الغمّة ويبصّر من هذه العماية وينجي من هذه الورطة؛ إنما هو التفريق بين ما فرّق الله بينه وهو المشيئة والمحبة، فإنهما ليسا واحدًا ولا هما متلازمين، بل قد يشاء ما لا يحبه، ويحب ما لا يشاء كونه.

 فالأول: كمشيئته لوجود إبليس وجنوده، ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه. والثاني: كمحبته إيمان الكفار وطاعات الفجار وعدل الظالمين وتوبة الفاسقين، ولو شاء ذلك لوُجد كلّه وكان جميعه، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

 فإذا تقرر هذا الأصل وأن الفعل غير المفعول، والقضاء غير المقضي، وأن الله سبحانه لم يأمر عباده بالرضا بكل ما خلقه وشاءه؛ زالت الشبهات وانحلّت الإشكالات ولله الحمد، ولم يبق بين شرع الرب وقَدَرِه تناقض بحيث يظن إبطال أحدهما للآخر، بل القدر ينصر الشرع والشرع يصدّق القدر، وكل منهما يحقق الآخر.

 إذا عرف هذا؛ فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب، وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضيًا به بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض، قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)، فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكّموا رسوله  صلى الله عليه وسلم، وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حُكْمِه، وحتى يسلّموا لحُكمه تسليمًا. وهذا حقيقة الرضا بحكمه، فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان.

 ومتى خالط القلب بشاشة الإيمان(22) واكتحلت بصيرته بحقيقة اليقين، وحَيِيَ بروح الوحي، وتمهّدت طبيعته، وانقلبت النفس الأمارة مطمئنة راضية وادعة، وتلقّى أحكام الرب تعالى بصدر واسع منشرح مسلم؛ فقد رضي كل الرضا بهذا القضاء الديني المحبوب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

 والرضا بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من الصحة والغنى والعافية واللذة أمر لازم بمقتضى الطبيعة، لأنه ملائم للعبد محبوب له، فليس في الرضا به عبودية، بل العبودية في مقابلته بالشكر والاعتراف بالمنّة ووضع النعمة مواضعها التي يحب الله أن توضع فيها، وألا يُعصى المنعمُ بها، وأن يرى التقصير في جميع ذلك.

 والرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب، وهو من مقامات أهل الإيمان. وفي وجوبه قولان، وهذا كالمرض والفقر وأذى الخلق له والحر والبرد والآلام ونحو ذلك.

 والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان حرام يعاقب عليه، وهو مخالفة لربه تعالى، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه. فكيف تتفق المحبة ورضا ما يسخطه الحبيب ويبغضه، فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضا بالقضاء". (23)

وقال الشيخ سفر الحوالي حفظه الله تعالى: "مِن المقضي ما يُرضى به، ومنه ما يُسخط ويُمقت، ولتوضيح ذلك: لقد لعن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الكافرين (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة:159] وذمهم في مواضع كثيرة، والمؤمن في ذاته ليس ملعونًا، وليس مغضوبًا عليه في ذاته، فقد يفعل من الأفعال ما هو ملعون أو مغضوب عليه، أو غير مرضي لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سواءً في الأفعال أو في الذوات أو في الأعيان، منها ما يبغضه الله ولا يرضاه، ونحن إذًا لا يجوز لنا أن نرضى بكل شيء.

وكذلك فهناك فرق بين القضاء والمقضي، وهذا الموضوع فيه دِقة، وقد اختلف أهْل السنةِ والجَماعَةِ مع الأشعرية، فالأشعريّة جبريّة جهميّة، لكنهم لم يقولوا: إن الإِنسَان كريشة في مهب الريح، ولم يستطيعوا أن يصرحوا بالجبر. (24) وقد اختلف أهل السُّنّةِ والجَمَاعَةِ مع الأشعرية في مسألة أفعال الله سبحانه، فَقَال أهل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ كما قال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ: ''وهو قول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضيّ''، وهذا معروف بالبديهة، فلو فكّرت لوجدت أن القضاء غير المقضي، فقضاء الله فعلُه، والمقضيُّ أثر القضاء، وآثار قضائه يدركها العقل والفطرة فَيَقُولُ: "قول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي، فالقضاء فعله ومشيئته، وما قام به بذاته واتصف به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما المقضي فمفعوله المباين له المنفصل عنه، وهو المشتمل عَلَى الخير والشر، فقضاؤه كله حق، والمقضي منه حق، ومنه باطل". (25) فمن حيث إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق إبليس، وخلق الكفر، وخلق الشر، وأن الله قضى ذلك فهذا حق، لكن من حيث إن هذه الأعيان أو هذه الأفعال مذمومةٌ أو ملعونة شرعًا فهذه من جهة الشرع فيها الحق وفيها الباطل، ومنها ما يحمد ومنها ما يُذم، ومنها ما نرضى به ومنها ما نكرهه، لكن من حيث اتصاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه هو الذي يقضي، وله القضاء، وله الأمر فهذا حق، فالقضاء كله حق، لكن المقضي هو أثر القضاء أعيانًا أو أعمالًا، فمنها ما يُرضى ومنها ما يُسخط، ومنها ما هو حق ومنها ما هو باطل، بميزان الأمر والشرع. فهُنا قال السلف هذا القول، فجاء الأشعرية وَقَالُوا: القضاء هو عين المقضي، والفعل هو عين المفعول، ولهذا وقعوا في الجبر، أو لم يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم هذا السؤال، ومنهم أبا بكر الباقلاني، شيخهم وإمامهم الأكبر.

وقول القائل: إذا كَانَ الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرههُ؟ فهذا عجز، لأن القائل لا يفرق بين القضاء وبين المقضي، لكن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يفرّقون، ولهذا يقولون: نَحْنُ نؤمن بالقضاء، ونحب قضاء الله، لكن نكره المقضي الذي هو الكفر، فهُنا أمران:

 قضاء الله، وهو: فعل قائم بذات الله. ومقضيٌّ وهو: المفعول المنفصل عنه. فالقضاء كله خير وعدل وحِكَمة نرضى به كله. والمقضي قسمان: منه ما يرضى. والقضاء الذي قضاه الله له وجهان:

أحدهما: تعلقه بالرب تَعَالَى ونسبته إليه فمن هذا الوجه يُرضى به.

والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إِلَى ما يُرضى به، وإلى ما لا يُرضى به. ولهذا قال الله تَعَالَى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]. ومن هنا أُمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يصبر من جهة أن الله يدخل من يشاء ويهدي من يشاء، ولا يعني ذلك أن يرضى بكفرهم، فلم يأمره ربه بذلك وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هو الذي جاهدهم واستمر في جهادهم، لكن مع المجاهدة لم يؤمنوا؟ لأن الهداية والضلالة بيد الله تعالى، فقد كتب عليهم الشقاوة فليكونوا كذلك، فعليك أن تسلّم بما كتب الله، ولهذا جَاءَ في سورة الأنعام ما هو أشد من ذلك، قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له: (وَإِنْ كَانَ َ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُم فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ [الأنعام:35] فلا يستطيع ذلك ولن يفعل.

وإنما هذا زيادة في تثبيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عدم اليأس والتحسر، وإنما عليه البلاغ وهذا له مقام آخر، وذكر المُصنِّف رحِمَهُ اللَّهُ مثالًا على ذلك فقَال: لو قتل إنسانٌ نفسًا. القتل له اعتباران: من حيث قدَّره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلًا للمقتول ونهاية لعمره يرضى به، وهذا أمر كتبه الله وقدَّره قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فلا مبدل لقدر الله ولا معقب لحكمه، فنرضى به من هذه الجهة، لكن لا نرضى عن القاتل، ولا نرضى عن فعله، فيُقَال: من حيث إن القاتل صدر منه القتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله؛ نسخطه ولا نرضى به". (26)

هذا؛ واعلم أنّ لله تعالى حِكمًا يستحق الحمد التام عليها في كل أمر قدّره مهما تقاصرت أفهامنا عن إدراك بعضها، وقد ندرك طرفًا منها عند التفكّر فضلًا من الله، قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "رأيت جمهور العلماء يشغلهم طلبهم للعلم في زمن الصبا عن المعاش، فيحتاجون إلى ما لا بد منه، فلا يصلهم من بيت المال شيء، ولا من صلات الإخوان ما يكفي، فيحتاجون إلى التعرض للإذلال، فلم أر في ذلك من الحكمة إلا سببين: أحدهما: قمع إعجابهم بهذا الإذلال، والثاني: نفع أولئك بثوابهم.

ثم أمعنت الفكر فتلمّحت نكتة لطيفة، وهو أن النفس الأبية إذا رأت حال الدنيا كذلك؛ لم تساكنها بالقلب، ونبَتْ عنها بالعزم، ورأت أقرب الأشياء شبهًا بها مزبلة عليها الكلاب، أو غائطًا يؤتى لضرورة. فإذا نزل الموت بالرحلة عن مثل هذه الدار لم يكن للقلب بها متعلّق متمكّن؛ فتهون حينئذ". (27)

وقال الشيخ الغنيمان حفظه الله عن الرضا بالمصائب: "الإلزام بهذه المنزلة صعب، أي: كون الإنسان يرضى بالشيء الذي وقع له من المصائب؛ لأن الرضا معناه أن يغتبط بهذا الشيء ويفرح به، فهذا لا يستطيعه إلا الأفذاذ، ولكن الواجب هو الصبر وعدم الاعتراض، أما الرضا فإذا وصل إليه الإنسان فهو فضل عظيم، وإن لم يصل إليه فلا يكلّفُ به. قال شيخ الإسلام: "ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء ثناؤه على أصحابه". وقال: "وأعلى من ذلك -أي: من الرضا- أن يشكر الله على المصيبة؛ لما يرى من إنعام الله عليه بها".". (28) قال د. سالم القرني: "والصحيح أن المصائب هي قضاء الله ومنسوبة إليه على وجهين:

الأول: كونها فعل الله القائم بذاته تعالى، فهذا يجب الرضا به، والتصديق والتسليم له، ومن ذلك عدل الله، وحكمته، وقدرته، وعلمه سبحانه وخلقه، فالرضا بالمصائب من هذا الوجه واجب لا شك في ذلك.

الثاني: المقضي المنفصل عن الله، المفعول له، فهذا قسمان: مصائب ومعائب (29) فالمعايب لا شك أنه يحرم الرضا بها.

 وأمَّا ما يصيب الإنسان فقسمان - أيضًا -: فما كان من صحة وغنى ولذة وغيرها من النعم، وهذا القسم يجب الرضا به، وأنه فضل وإحسان من الله يحمد عليه ويشكر. وأمَّا ما يصيب العبد المؤمن من فقر، ومرض، وجوع، وأذى، وحر وبرد، وغير ذلك مِمَّا يكرهه ويبغضه العبد، فيستحب الرضا به، ولو عمل الأسباب لتغييره إلى ما هو أحسن (30) ... أما الرضا بالمعاصي فمحرم. والمعاصي والمنكرات أمور مضرة للعاصي ولغيره، ومع ذلك يبقى بعض الناس معها ومع طبعه وذوقه، وينسلخ عن دين الله، ورُبَّما دخل في الشرك الأكبر.

وبعض الناس يبرّر ما هو عليه من معاصٍ بادعاء أن الإيمان في القلب. ومنهم من يتعبد الله بما حرمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعة وقربة، (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَآءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) وحاله في ذلك شرٌّ من حال مَنْ يعتقد ذلك معصية وإثْمًا. وقد تتمكن المعصية من القلب فيرضى بها صاحبها، بل ويغلو في ذلك، وذلك على حساب دينه، وصحته، وعقله.

وإيواء أهل المعاصي هو رضًا بالمعصية، وتعاونًا عليها، والله سبحانه وتعالى يقول: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } فمن نصر جانيًا وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتصّ منه؛ فقد رضي بفعله. فالإيواء فيه الرضا به والصبر عليه.

وإذا رضي أحد بالبدعة، وأقرّ فاعلها، ولم ينكرها، فقد آواه، وخالف بذلك أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. فعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه يُستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع". قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة". (31) معناه: من كره بقلبه ولم يستطع إنكارًا بيد ولا لسان فقد برئ من الإثم، وأدى وظيفته، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، (32) ومن رضي بفعلهم وتابعهم فهو العاصي. فقوله: "ولكن من رضي وتابع" دليل على وجوب ترك الإيواء أو الرضا بالمعصية.

وقريب من هذا معاشرة أهل البدع، وأهل الفسق والعصيان، ومنادمتهم، وتقريبهم، وإقصاء أهل الإيمان، وأهل الطاعة، وهذه تسمى مداهنة. وعلى المسلم ألا يداهن أهل العصيان، ويرضى بما هم عليه من الفسوق، ويسكت سكوت راض بما هم فيه من غير إنكار.

صحيح أن مداراة الناس، وخفض الجناح لهم، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، من أقوى أسباب الألفة، وقبول الحق، وهي مندوبة، كما في النصوص الشرعية الموضحة لذلك، كقوله سبحانه: { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } وقوله: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }. فالرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يُظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولاسيما إذا احتيج إلى تألّفه ونحو ذلك؛ أمر مطلوب مستحب.

أمَّا الرضا بوقوع المعصية من العبد، والسكوت على ذلك، وتأييده ولو بغير تصريح، فإن هذا من الرضا بمعصية الله، وهذا مخالف لأمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا عُملت الخطيئة في الأرض؛ كان من شهدها فكرهها، - وقال مرة: فأنكرها-؛ كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها؛ كان كمن شهدها". (33)

وهذه مسألة عظمى؛ لأن الرضا بالمعصية معصية، فقد جاء رجل إلى الشعبي فحسّن عنده مقتل عثمان رضي الله عنه، فقال الشعبي: "شركت في دمه". فجعل الرضا بالقتل قتلًا. وقال الله تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا }. فهذا دليل على وجوب اجتناب أهل المعاصي إذا ظهر منهم منكر، وهذا عدم الرضا بالمعصية؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، كما دل عليه قوله: { إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ } فكل من جلس في معصية ولم ينكرها يكون مع أهلها في وزرهم، فينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية، أو عملوها، فإن لم يستطع الإنكار، فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.

فدَع عنك سوءات الأمور فإنّها  ...  حرامٌ على نفس التقيِّ ارتكابُها

يروى أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله أخذ قومًا يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الأدب،(34) وقرأ هذه الآية { إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ } (35) أي: إن الرضا بالمعصية معصية. ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم.(36) ولا شك أن هذه المماثلة ليست في جميع الصفات، لكن إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة. فتجنب أهل الأهواء والبدع واجب لغير الناصح والمعلم لهم، وليس مثلهم في الأهواء والبدع، لقوله تعالى: { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ }.

فعلى المسلم أن لا يرضى بالكفر والفسوق والعصيان؛ لأن الله لا يرضاه، كما قال سبحانه: { وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ }. ومن المعلوم أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وقد أمرنا الله أن نأمر بالمعروف ونحبه ونرضاه ونحب أهله، ونهى عن المنكر، وأمرنا أن ننهى عنه ونبغضه ونسخطه ونبغض أهله، ونجاهدهم بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، فكيف نتوهم أنه ليس في المخلوقات ما نبغضه ونكرهه، وقد قال الله تعالى لما ذكر من المنهيات: { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا }، فإذا كان الله يكرهها وهو المُقدِّر لها فكيف لا يكرهها ويبغضها العبد المأمور بذلك؟ وقال الله تعالى: { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } وقال سبحانه: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } فبين أنه يرضى الدين الذي أمر به، فلو كان يرضى كل شيء لما كان له خصيصة.

وبهذا التفصيل يتبين الصواب ويزول اللبس في هذه المسألة العظيمة التي هي مفرق طرق بين الناس". (37)

هذا؛ ولا بد من التفريق بين إرادة الله الشرعية المستلزمة للرضا على الدوام وبين مشيئته الكونية التي في الرضا بها تفصيل، حتى ننزّل الرضا منزلته. وقال الحوالي: "أما الرضا بالقدر عَلَى المصائب فله تفصيل. لأن الرضا بالدين معروف، لكن هناك أقدار قضاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فإذا وقع القدر وكان مما لا يرضينا أو مما نكره، فالذي أُمِرَنا به هو الصبر، ولو أُمِرَنا بالرضا لكان في ذلك مشقة علينا.

لكن الذي أمرنا به فضلًا من الله تَعَالَى هو الصبر، فالكره: أمرٌ جبلي خلقي طبعي لا نستطيع أن نتخلص منه. لكن أن نسخط أو أن نقنط، فهذا مما لا يجوز: والعبد يستطيع أن يصبر، كما فعل ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما رفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنّة(38) ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". (39) فليس هناك أحد أكثر رضًا بالقدر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أعلى منه منزلةً، وهل هذا الصبر منعه من أن تدمع عينه لمّا مات ابنه إبراهيم وقال: "إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا". (40) فهذا هو حال المؤمن، وليس معنى ذلك أن يغيّر طبيعته كما فعل ذلك بعض المتصوفة عندما مات ابن له فحلق لحيته، وأخذ يضحك أمام النَّاس، ويقول: "أُرِاغَمَ نفسي وأرضى بقدر الله وقضاءه" فهذا عصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وجعل من نفسه أمثولة؛ لأنه إِلَى ما قبل القرن العشرين كَانَ حلق اللحية مُثلة، عقوبة يُعاقب بها، فإذا أُريد أن يعاقب أحد حتى في الدول الكافرة تحلق لحيته.

وكانت بعض الأمم الممسوخة -كما كَانَ بعض المجوس – يفعلونه، ومنهم الذين قدموا عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مسخ للفطرة، ولهذا أنكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والشاهد أن هذا الصوفي لما فعل ذلك جعل نفسه مُثلة، وأضحك النَّاس عليه، وهو بزعمه يظن أنه يراغم النفس ويرضي الله؛ لأن ابنه قد مات، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل النَّاس يقول: "إني لأعلمكم بالله، وأتقاكم له". (41) فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم النَّاس بالله وأتقاهم له، ومع ذلك حزن قلبه، ودمعت عينه، فنحن مأمورون بالصبر". (42)

وقال تقي الدين رحمه الله تعالى: "ما يقع في الوجود من المنكرات هي مرادة لله إرادة كونية داخلة في كلماته التي لا يجاوزهن برٌّ ولا فاجر، وهو سبحانه مع ذلك لم يردها إرادة دينية، ولا هي موافقة لكلماته الدينية، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، فصارت له من وجه مكروهة (43) ولكن هذه ليست بمنزلة قبض المؤمن فإن ذلك يكرهه؛ (44) والكراهة مساءة المؤمن، وهو يريده لما سبق في قضائه له بالموت فلا بد منه، وإرادته لعبده المؤمن خير له ورحمة به؛ فإنه قد ثبت في الصحيح: "إن الله تعالى لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له". (45)

وأما المنكرات فإنه يبغضها ويكرهها؛ فليس لها عاقبة محمودة من هذه الجهة إلا أن يتوبوا منها فيرحموا بالتوبة، وإن كانت التوبة لا بد أن تكون مسبوقة بمعصية (46) ولهذا يجاب عن قضاء المعاصي على المؤمن بجوابين:

أحدهما: أن هذا الحديث لم يتناولها وإنما تناول المصائب.

 والثاني: أنه إذا تاب منها كان ما تُعقِبه التوبةُ خيرًا، فإن التوبة حسنة، وهي من أحبّ الحسنات إلى الله، والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أشد ما يمكن أن يكون من الفرح. وأما المعاصي التي لا يُتابُ منها فهي شرّ على صاحبها. والله سبحانه قدّر كل شيء وقضاه؛ لما له في ذلك من الحكمة، كما قال: { صنع الله الذي أتقن كل شيء } وقال تعالى: { الذي أحسن كل شيء خلقه } فما من مخلوق إلا ولله فيه حكمة. والمقصود: التنبيه على أن الشيء المعيّن يكون محبوبًا من وجه، مكروهًا من وجه، وأنّ هذا حقيقة التردّد، وكما أن هذا في الأفعال فهو في الأشخاص. والله أعلم". (47)

وبالجملة؛ فحكم الرضا بالقضاء والقدر واجب وفرض لأنه فعل الله تعالى، أما حكم الرضا بالمقضيّ والمقدور فهو فضيلة مستحبة على الراجح، ولكن لا يحلّ النزول فيها عن الصبر إلى ما دونه من التسخّط، أما الرضا بالمعاصي فمحرّم، بل تُبغض وتسخط من جهة فعل العباد لها لا من جهة تقدير الله تعالى، وبالله التوفيق.

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

....................................

1-      مسلم ٢/‏٨٥ (٧٧١) (٢٠١)

2-      مسلم 8/76 (2709)

3-      أحمد (1/199) وأبو داود (1425) والترمذي (2/328) وصححه الألباني.

4-      القضاء الشرعي خير كله، أما القضاء الكوني فإن القضاء الذي هو فعل الله فخير كله، أما القضاء بمعنى المقضيّ – أي ذات المقدور المخلوق- فقد يكون خيرًا محضًا، وقد يكون له جهتان: جهة شرّ بذاتها لقطع أسباب الخير وأمداد التوفيق عنها، وجهة خير لما تفضي إليه من خير وآثار حميدة.

5-      ورويت كذلك عن عمر بن العزيز رحمه الله، وهما قرينان رحمهما الله، فلعل أحدهما قد أفادها من صاحبه.

6-      أحمد (2803) وصححه محققوه. والزهد لهناد (1/ 304/ 536)، وشعب البيهقي (7/ 203/ 10000) والطبراني في الكبير (3/ 126/ 2) وصححه الألباني في السلسلة (1076)

7-      مجموع الفتاوى (10 / 682)

8-      منهاج السنة النبوية (3 / 120)

9-    مجموع الفتاوى (10/  40)

10-                    إن مما يميّز منهج السلف الصالح للأمة حسن تقديرهم لأمور التربية والتعليم وتأتّيهم للحكمة في عرض المسائل، فما كل ما يُعلم يقال، وما كل ما يقال حضَرَ أهلُه، فمن العلم ما يكون فتنة لمن لم يحمله على ما وضع له. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم؛ إلا كان لبعضهم فتنة". رواه مسلم في مقدمته (٥). قال ابن وهب رحمه الله على ذلك: "وذلك أن يتأولوه غير تأويله، ويحملوه على غير وجهه". ذكره الشاطبي في الاعتصام (١ / ٤٨٩).  وقد ترجم البخاري رحمه الله: باب من خصّ بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألّا يفهموا. وقال علي رضي الله عنه: "حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يُكذّبَ الله ورسولُه". وفي رواية: "ودعوا ما يُنكِرون". أي: من المشتبهات التي لا يفهمونها على وجهها أو لا تحتملها علومهم أو فهومهم. ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمُحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". رواه مسلم ( 1 / 9 ). قال الحافظ في الفتح (1 / 199): "وممن كره التحديث ببعضٍ دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، و أبو يوسف في الغرائب. ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجِرابين، وأن المراد: ما يقع من الفتن. ونحوه عن حذيفة. وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوّي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد. فالإمساك عنه عند من يُخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب.

والمقصود أن المعلم والمربّي والمفتي والواعظ يجب عليهم أن يراعوا أحوال الناس واختلاف أفهامهم، ، فلا يلقي عليهم غرائب المسائل التي لا يعرفها إلّا الراسخون في العلم، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل سأله عن تفسير آية: وما يؤمنك أنّي لو أخبرتُك بتفسيرها كفرتَ به؟ أي جَحَدته، وأنكرته، وكَفَرت به. ذكره ابن كثير في تفسيره (٤/ ٣٨٦) وابن القيم في إعلام الموقعين (6/ 43) وروى البخاري (6830 ) أن عمر رضي الله عنه قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد؛ فإني قائل لكم مقالة قد قُدّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عَقَلَها ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب عليّ.." الحديث. وذكر ابن عبد البر رحمه الله في جامع بيان العلم وفضله (١/‏٥٣٩) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "ما حدثتَ أحدًا بشيء من العلم قط لم يبلغه علمه؛ إلا كان ضلالًا عليه".

وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (6 / 59): " لمّا دعت الحاجة إلى تفريع الأعمال وكثرة فروعها، وذلك مستلزم لوقوع النزاع .. اطمأنت القلوب فيها إلى النزاع؛ بخلاف الأمور الخبرية؛ فإن الاتفاق قد وقع فيها على الجُمل؛ فإذا فُصلت بلا نزاع فحسن؛ وإن وقع التنازع في تفصيلها فهو مفسدة من غير حاجة داعية إلى ذلك.. ومما يتصل بذلك: أن المسائل الخبرية العلميّة قد تكون واجبة الاعتقاد، وقد تجب في حال دون حال، وعلى قوم دون قوم، وقد تكون مستحبة غير واجبة، وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء. وقد تكون معرفتها مُضِرَّة لبعض الناس؛ فلا يجوز تعريفهم بها". وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/500) عند قوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى): "ذكّر حيث تنفع التذكرة، ومن هنا الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله". وقد استنبط الإمام المجدد في كتاب التوحيد على حديث معاذ: "أفلا أبشر الناس.." جواز كتمان العلم للمصلحة. وبالله التوفيق.

11-                    مجموع الفتاوى (10/  43) بتصرف يسير.

12-                    البخاري ( 4 / 231 )

13-                    مجموع الفتاوى (10/ 484 - 485)

14-                    وهذا من دقيق العلم وعميق الفقه ونِعَمِ التوفيق.

15-                    وهذا واضح عند التأمل، وبفهمه ينكشف سر المسألة، فمن جهة خلق الله لها وإفضائها لغاية حكيمة لله تعالى فهي مرضية، ومن جهة سخطه سبحانه لها ونهيه عنها وعدم رضاه شرعًا بها فهي مسخوطة لنا.

16-                    منهاج السنة النبوية (3/  204 -209) مختصرًا.

17-                    أخرجه الطبراني في الكبير (٢٢/ ٣٢٠) (٨٠٧)، وانظر المجروحين (١/ ٣٢٧)، والمجمع (٧/ ٢٠٧)، ولسان الميزان (٤/ ١٦٧)، وقال زين الدين العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (١/‏١٧١٢): إسناده ضَعِيف. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (٤٠٥٤)، وقال في الضعيفة (٥٠٥): ضعيف جدًّا.

18-                    أي أن المقام يكتسب عن طريق الرياضة والدُّربة والاجتهاد في العبادة حتى يكون مَلَكَةً لصاحبة. أما الحال فهو موهبة ربّانية قد تولد مع صاحبها كالغريزة كسائر خِلَالِه وصفاته، وقد توهب لصاحبها أثناء عمره لطفًا من الله تعالى بلا قصد تحصيلها بالمجاهدة، فالمقام كسبي والحال موهبي.

19-                    مسلم (34)، والترمذي (2623)

20-                    البخاري 1/159 ( 614 )

21-                    مدارج السالكين (2 / 172-174) باختصار.

22-                    للإيمان بشاشة وللقلب بشاشة، والبشاشة هي الانشراح والطلاقة والفرح، فيصح أن تقول خالط الإيمان بشاشة القلب، ويصح أن تقول: خالط القلب بشاشة الإيمان. وقال أبو العباس القرطبي في المُفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (٣/‏٦٠٥) عند حديث أبي سفيان وهرقل في مسلم (١٢٨٩): "وقوله: "وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب"؛ هكذا وقعت هذه الرواية هنا، وفي البخاري: "حين تخالط بشاشته القلوب"، وهي أوضح. وأصل البشاشة: التلطف والتأنس عند اللقاء. يقال: بش به، وبشبش. ومعنى هذا: أن القلوب المنشرحة إذا سمعت الإيمان، وأصغت إليه بشّت له، ورحّبت بلقائه، كما يفعل بالغائب عن اللقاء، ثم إذا حلّ الإيمان في القلب انكشفت له محاسنه، وتوالت عليه أنواره، حتى يكره أن يعود في الكفر، كما يكره أن يقذف في النار.

23-                    المدارج (٢/‏١٨٩)

24-                    وهروبًا من ذلك قالوا بالكسب وهو آيل للجبر، غير منفكّ عنه. هذا إذا تنزّلنا لمقصوده، وإلا فليس تحت قوله حقيقة على التحقيق، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في النبوات (١٤٣): "رأسُ الجبرية يقول ليس للعبد فعل البتة، والأشعري يوافقه على أن العبد ليس بفاعل ولا له قدرة مؤثرة في الفعل، ولكن يقول: هو كاسب، وجهم لا يثبت له شيئًا. لكن هذا الكسب يقول أكثر الناس: إنه لا يُعقل فرق بين الفعل الذي نفاه والكسب الذي أثبته. وأنشدوا:

ممّا يقال ولا حقيقة عنده  ...  معقولةٌ تدنو إلى الأفهامِ

الكسبُ عند الأشعري والحالُ  ... عند البهشميِّ وطَفْرةُ النَّظَّامِ

25-                    مدارج السالكين (2 / 499)

26-                    شرح العقيدة الطحاوية (1 / 1554-1558) باختصار وتصرف. وانظر نص كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين (1/  257)

27-                    صيد الخاطر (1 / 30)

28-                    شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للغنيمان (94 / 6)

29-                    المصائب: أي البلاءات المقدرة على الإنسان المؤلمة له بغير اختياره، أما المعائب فهي المعاصي والذنوب. ومن ذلك الاحتجاج بالقدر، فيُشرع عند المصائب ويحرم عند الذنوب والمعائب.

30-                    أي يدافع قدرَ الله بقدر الله سبحانه.

31-                    مسلم 6/23 ( 1854 ) ( 63 )

32-                    والإنكار أرفع من مجرد الكراهية، لأن فيه مدافعة لها بحسب الإمكان، فجوزي بالسلامة التي هي أرفع، وكأنّ فيها إيماء لوعده بدار السلام، فالسلامة التامة إنما هي بدخول الجنة، نسأل الله الكريم من فضله، والله أعلم.

33-                    سنن أبي داود (4345) وحسنه الألباني في المشكاة ( 5141 )

34-                    أي عاقبه تعزيرًا له.

35-                    تفسير القرطبي (٥/ ٤١٨)

36-                    وقد ورد في الحديث أن رسول الله ﷺ قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر"، رواه أحمد ( 1 / 20 ) وغيره وجود سنده ابن حجر في الفتح (250/9)، وصححه الألباني في الإرواء (7 / 6). وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: "لا تدخل وليمةً فيها طبل ولا معزاف". رواه أبو الحسن الحربي في الفوائد المنتقاة (٤/‏٣/١) بسند صحيح عنه. وقال ابن قدامة رحمه الله في المغني (٧/ ٢٧٩): "إذا دعي إلى وليمة فيها معصية كالخمر والزمر والعود ونحوه وأمكنه الإنكار وإزالة المنكر؛ لزمه الحضور والإنكار، لأنه يؤدي فرضين؛ إجابة أخيه المسلم وإزالة المنكر. وإن لم يقدر على الإنكار لم يحضر. وإن لم يعلم بالمنكر حتى حضر أزاله فإن لم يقدر انصرف".

37-                    الرضا بالقضاء. د. سالم القرني عن: مجلة جامعة أم القرى (5 / 415- 419) مختصرًا.

38-                    أي قربة بالية، والمراد خشخشة الروح في صدر الصبي إيذانًا بخروجها.

39-                    البخاري 2/100 ( 1284 ) ومسلم 3/39 ( 923 )

40-                    صححه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز (1 / 15) عن أنس، وقد روي بلفظ آخر عند أحمد وأبي داوود وصححه الألباني في صحيح الجامع (2931) قال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، والله إنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". أما لفظ الصحيحين فهو: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون". رواه البخاري 2/105 ( 1303 ) ومسلم 7/76 ( 2315 ) ( 62 )

41-                    البخاري (20) بنحوه وأحمد (24956) بلفظ: "والله إني لأعلمكم بالله عز وجل، وأخشاكم له". قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط مسلم".

42-                    شرح العقيدة الطحاوية (1 / 1553)

43-                    أي مكروهة لله تعالى من جهة أنه شاءها كونًا لحكمته، ولم يردها ولم يحبّها شرعًا.

44-                    ويعني بذاك حديث الوليّ الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إلى عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحبّه، فإذا أحببته؛ كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته". رواه البخاري 8/131(6502)

45-                    مسلم (2999)

46-                    والتقصير في الطاعة من قبيل المعاصي.

47-                    مجموع الفتاوى (18 / 134)

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق