إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 3 يناير 2022

هل ينافي الرضا البكاء على الميّت؟

 

هل ينافي الرضا البكاء على الميّت؟

 

الحمد لله، وبعد؛ فإنّ هذا سؤال من الأهمية بمكان، فقد اشتبه على كثير من الناس لاشتباه صوره، وتداخل أطرافه، وصعوبة تصوّره. والجواب: أنّ دمع العين لا بأس به، بل هو محمود محبوب، لصدوره عن لِينِ القلب بالرحمة، فهو غير منافٍ للرضا ما لم يصحبه محذور كأقوالِ وأفعالِ أهل الجزع. وقد كان سيد الراضين صلى الله عليه وسلم يبكي رحمة بالميت مع امتلاء قلبه بالرضا والحمد لربه تعالى، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).

فعن أنس بن مالك، قال: "شهدنا دفن بنت رسول الله ﷺ، ورسول الله ﷺ جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: «هل منكم من أحد لم يقارف الليلة»؟ فقال أبو طلحة: أنا. فقال: «انزل في قبرها» فنزل في قبرها" (1). وعنه أيضًا رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه، وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان. فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟! فقال: "يا ابن عوف، إنها رحمة"، ثم أتبعها بأخرى، فقال: "إن العينَ تدمع، والقلبَ يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" (2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أخذ رسول الله ﷺ ابنةً له تَقْضِي (3)، فاحتضنها، فوضعها بين يديه، فماتت وهي بين يديه. فصاحت أُمُّ أيمن، فقال: يعني رسول الله ﷺ: «أتبكين عند رسول الله»؟ فقالت: ألستُ أراكَ تبكي؟ قال: "إني لستُ أبكي (4)، إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كلِّ حال، إنّ نفسه تُنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله تعالى» (5).

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: «أرسلَتْ بنتُ النبيِّ ﷺ (6): إنّ ابني قد احتُضِرَ فاشْهَدنا. فأرسل يُقرِئُ السلام ويقول: «إنّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمًّى، فلتصبر ولتحتسب». فأرسلت إليه تُقسم عليه ليأتينَّها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال، فرُفِعَ إلى النبي ﷺ الصبيُّ، فأقعده في حجره ونفسه تقعقع، قال: كأنها شَنٌّ، وفي رواية: تقعقع (7) كأنها في شنٍّ (8) ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسولَ الله ما هذا؟ قال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب مَن شاء من عباده، إنما يرحم الله من عباده الرُّحماءُ" (9). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «رأيتُ رسولَ الله ﷺ يُقَبِّل عثمان بن مظعون وهو ميِّتٌ، حتى رأيت الدموع تسيل». ولفظ الترمذي: «أن النبي ﷺ قَبَّل عثمانَ بن مظعون، وهو ميِّتٌ وهو يبكي، أو قال: عيناه تذرفان» (10). وعن أنسٍ رضي الله عنه: أن النبي ﷺ نعى زيدًا وجعفرًا للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: "أخذ الرّايةَ زيدٌ فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فُتِح عليهم" (11). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي ﷺ يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله (12) فقال: «قد قضى»؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي ﷺ، فلما رأى القوم بكاء النبي ﷺ بَكَوْا، فقال: "ألا تسمعون؟ إن الله لا يُعذِّب بدمع العين، ولا بحُزن القلب، ولكن يُعذب بهذا (13) - وأشار إلى لسانه - أو يرحم (14)» (15) (16)

واملأ فؤادكَ رحمةً لذوي الأسى   ...   لا يرحمِ الرحمنُ من لا يرحمُ

قال شيخ الإسلام: "ولهذا لم نؤمر بالحزن المنافي للرضا قط، مع أنه لا فائدة فيه، فقد يكون مضرة، لكن يُعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه الله، لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، وذلك لا ينافي الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه. (17)

 وبهذا تعرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال: "إن هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". (18) وأن هذا ليس كبكاء من يبكي لِحَظِّهِ لا لرحمة الميت، وأن الفضيل بن عياض لما مات ابنه عليٌّ ضحك وقال: "رأيتُ أن الله قضى فأحببت أن أرضى بما قضى الله به". فحالُه حال حسنٌ بالنسبة إلى أهل الجزع، وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد الله كحال النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أكمل، قال تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)، فذكر سبحانه التواصي بالصبر والرحمة. والناس أربعة أقسام:

 منهم من يكون فيه صبر بقسوة، ومنهم من يكون فيه رحمة بجزع، ومنهم من يكون فيه القسوة والجزع، والمؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه ويرحم الناس". (19) وقال ابن القيم رحمه الله: "وقد ذكر في مناقب الفضيل ابن عياض أنه ضحك يوم مات ابنه علي فسئل عن ذلك فقال: "إن الله تعالى قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه". وهديُ رسول الله أكمل وأفضل، فإنه جمع بين الرضا بقضاء ربه تعالى وبين رحمة الطفل، فإنه لما قال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ قال: "هذه رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". والفضيل ضاق عن الجمع بين الأمرين، فلم يتّسع للرضا بقضاء الرب وبكاء الرحمة للولد. هذا جواب شيخنا سمعته منه" (20).

وعلى الباكي أن يتذكّر الرضا، ويحرّك به قلبه حتى لا تأخذه زفرات الحزن لشيء من الاعتراض وهو لا يشعر.

قل لقوم يستنزفون المآقي … هل شفيتم من البكاء غليلا

ما أتينا إلى الحياة لنشقى … فأريحوا أهلَ العقولِ العقولا

كل من يجمع الهموم عليه … أخذتْه الهموم أخذًا وبيلا

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

.....................................

1.    البخاري (١٢٨٥) (١٣٤٢)

2.    البخاري (١٣٠٣)، ومسلم (٢٣١٥)

3.    تقضي: تشرف على الموت. زاد النسائي: "صغيرة"، وهي بنت بنته زينب من أبي العاص بن الربيع رضي الله عنهم.

4.    أي: لست أنوح.

5.    أحمد (١/ ٢٦٨) والترمذي في الشمائل (٣٢٤)، وصححه الألباني في مختصر الشمائل (٢٧٩)

6.    قيل: إنها زينب رضي الله عنها بنت رسول الله ﷺ.

7.    تقعقع: تضطرب وتتحشرج، أي أن روح الصبي تخرج من جسده.

8.    الشَّنّ: القربة البالية.

9.    البخاري (١٢٨٤)، ومسلم (٩٢٣)

10.                    أبو داود (٣١٦٣)، والترمذي (٩٨٩)، وصححه الألباني.

11.                     البخاري (٤٢٦٢)

12.                    غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها. عن: فتح الباري لابن حجر (٣/ ١٧٥)

13.                    "ولكن يعذّب بهذا": أي إن قال: سوءًا. عن: فتح الباري (٣/ ١٧٥)

14.                    "أو يرحم": أي إن قال خيرًا. فتح الباري (٣/ ١٧٥)

15.                    البخاري (١٣٠٤)، ومسلم، (٩٢٤)

16.                    وانظر: رحمة للعالمين، لسعيد بن وهف القحطاني رحمه الله تعالى (١/ 81 - ‏٨٤)

17.                    فالمحمود بكاء الرحمة بالميت، لا بكاء فوات حظ نفسه منه.

18.                    البخاري (1284) ومسلم (923)

19.                    أمراض القلوب (1 / 58) وانظرها في مجموع الفتاوى (10/  47)

20.                    تحفة المودود بأحكام المولود (1 / 106)

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق